لماذا تثير الروائح المختلفة ذكرياتنا؟

iStock-679543568

|من السهل إنشاء ذكريات زائفة|

لعلَّك لاحظتَ أنّ رائحة العُشب والرباط المطَّاطي يُمكن أن تُعيد لك تفاصيل ذِكرى مباراةِ كُرةِ قدمٍ في مرحلة الطفولة أكثر من مشاهدة فيلم في المنزل لأحد الألعاب، فأنت تجد أنّ صلة الروائح بالذَّاكرة والمشَاعر أقوى من صلة الحواس الأخرى، وقد يعرف عِلْمُ الأعصَاب السبب.

آليّة عمل حاسة الشمّ

عندما ترَى، تسمَع، تلمس، أو تتذوَّق شيئاً ما، فإنّ هذه الإشارات الحسِّية تتوجه أولاً إلى منطقة (المِهَاد – thalamus) القابعة في الدماغ، والتي تعمل كمحطّة للتناوب؛ إذ تُرسِل وتستقبل من وإلى المحطات الأخرى. في البداية تَستقبِل منطقة المِهاد الإشارات، ثمّ تُرسِلها إلى المنطقة المَعنيّة بمعالجتها في الدماغ، من ضمنها منطقة (الحُصين – hippocampus) المسؤولة عن تخزين الذكريات، و(اللوزة – amygdala) التي تتحكّم بالمشاعر.

لكنّ الأمر يختلف بالنسبة للروائح، فهي تتخطّى منطقة المهاد متّجهةً إلى مركز الشمّ مباشرةً، والذي يُعرف بـ(البصلة الشمِّية – olfactory bulb). تتّصل البصلةُ الشمِّية اتصالًا مباشراً بمنطقتَي اللوزة والحُصين، وهذا ما قد يفسِّر سبب استحضار ذكرى بالتفصيل أو استثارة عاطفة شديدة عند شمّ رائحة ما.

لكن لماذا؟

نحن كائنات تتمتَّع بنعمة البَصَر، لكنّ حاسة الشمّ تملك اليد العليا في أدمغتنا. يعتقد البعض أنّ الأمر عائدٌ إلى آليّةِ التطوُّر، فالشمُّ حاسةٌ بدائية لها جذورٌ في الكائنات وحيدة الخليَّة التي تتفاعل كيميائياً مع ما يحيطُ بها. فهذه الحاسّة تملك أطول تاريخ تطوّرٍ مقارنةً بباقي الحواسّ، وهذا قد يفسّر أيضاً سبب امتلاكنا ما لا يقلّ عن (1000) نوعٍ مختلِف من مستقبلات الشمّ، ونوعَين فقط من مستقبلات الضوء، وأربعةٍ لحاسّة اللمس.

مصنع الذكريات

في شهر نوفمبر من عام (2017م) اكتشفَ العلماء شيئاً حول العملية التي تربط بين الشمّ والذكريات الحيّة؛ لقد وجدوا أنّه يمكن للذكريات أن تكون محفوظة في جزء من البصلة الشمّيَّة نفسها! هذا الجزء المُعقَّد يُطلقُ عليه (القشرة الكمّثرية – piriform cortex).

في دراسةٍ نُشرت ل (جامعة الرور-بوخوم – Ruhr University Bochum) الألمانية في مجلة القشرة المخية، استخدمت عالمتا الأعصاب (كرستينا ستروتش – Christina Strauch) و(دنيس فوغان – Denise Manahan-Vaughan) إشارات كهربائية في محاولةِ خلقِ روابطَ لذكرياتٍ جديدة في أدمغة الفئران، إذ كان قد عرض بحثٌ سابقٌ أنّ هذا النوع من الإشارات يمكنُه أن يصنع ذكريات طويلة المدى في منطقة الحُصين المقرّ الرئيس للذاكرة، وأراد الفريق أن يرى إذا ما كان باستطاعتهم فعل الشيء ذاته في مركز الشمّ في القشرة الكمّثريّة. لم يحالفهم الحظ في هذه التجربة-في البداية على الأقلّ.

تتّصل القشرة الكمّثرية بأماكن متعدّدة في الدماغ، من ضمنها مراكز تحكّم عُليا مثل (القشرة الجبهية الحجاجية – orbitofrontal cortex)، وهي الجزء المسؤول عن إصدار الأحكَام بالنسبة للمُدخلات الحسيَّة مثل: هذه سُترة جيِّدة المسها مرّة أخرى، أو رائحة الطعام الصينيِّ الذي جَلَبتَه منذُ أسبوع كريهةٌ، فلا تأكلْه. حاول الباحثون استخدام الإشارات ذاتها لتحفيز هذه المنطقة، وممّا لا ريب فيه أنّ هذا الفِعل أدّى إلى تغيّرات في الذاكرة في القشرة الكمّثرية.

قالت د.كريستينا ستروتش في بيان صحفيّ:

“أظهرت دراستُنا أنّ القشرة الكمّثرية قادرةٌ بالفِعل على العمل كأرشيف للذكريات طويلة المدى، لكنّها بحاجة إلى توجِيهات من القشرة الجبهية الحجاجية-وهي منطقة تحكّم عالٍ في الدماغ- مشيرةً إلى أنّ هذا الحدث سيُخزّن في الذاكرة طويلة المدى”.

إذاً مركز حاسة الشمّ لديك لا يرتبط فقط بمركز الذاكرة في الدماغ، وإنما يُخزِّن ذكريات طويلة المدى أيضاً، ويحتفظ بها.

الآن امضِ قُدماً، وخُذْ نفَساً عميقاً وطويلاً من زجاجة عطر قديمة أو غلاف ورقيّ لأحد تلك الكتب المهجورة في المكتبة، فتلك الذكريات التي تأتي إليك عَرَضٌ جانبيٌّ يشير إلى أنّ دماغك يعمل بطريقة جيّدة ومُبشِّرة.

كيف للروائح أن تثير ذكرياتنا؟

ترجمة: نهى محمود
مراجعة علمية: فيروز محمد سعيد
تدقيق لغوي: رؤى زيات
تحرير: نسمة محمود

المصدر

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي