بعد خمسة قرون من رسم (ليوناردو دافينشي) لتحفته، تم تعليق اللوحة في متحف (اللوفر) بباريس خلف زجاج مضاد للرصاص لتجذب الآلاف من المتفرجين يوميا. إنها اللوحة الأكثر شهرة في العالم، لوحة (الموناليزا). ولكن على الرغم من كل ذلك، فعندما ينجح المتفرجون من الاقتراب من اللوحة ومشاهدتها بتمعن فمن المرجح أن يكونوا في حيرة من أمرهم من مجرد لوحة صغيرة متواضعة لامرأة عادية ترتدي ملابس متواضعة داكنة، وعلى رأسها حجاب شفاف، وبلا مجوهرات. قيل الكثير عن ابتسامتها ونظرتها، لكن الناس ما زالوا يتعجبون من كل تلك الضجة والاحتفاء بتلك اللوحة. إلى جانب كل تلك الأسرار المتعلقة بهوية تلك المرأة ومظهرها الغامض، فإن سبب شهرة هذا العمل بالذات هو واحدٌ من الألغاز العديدة لتلك اللوحة، فعلى الرغم من محاولة العديد من النظريات فهم وتحديد سبب واحد فقط لشهرتها، إلا أن أكثر الحُجج إقناعًا تصر على أنه لا يوجد تفسير لشهرتها. شهرة تلك اللوحة هي نتيجة العديد من الظروف والصدف إلى جانب الجاذبية التي تتمتع بها.
لا شك أن (الموناليزا) هي لوحة في غاية الروعة، فقد كانت تحظى بالكثير من الإعجاب حتى أثناء عمل (دافنشي) عليها، كما أن معاصريه بدأوا محاكاة زاوية جلوس الموناليزا المبتكرة في ذلك الوقت. أشاد الكاتب والرسام (جورجو فازاري- Giorgio Vasari) بعد ذلك بقدرة (ليوناردو) على تجسيد الطبيعة بدقة شديدة، في الواقع، لوحة (الموناليزا) هي لوحة واقعية للغاية؛ فيظهر الوجه المنحوت برقة مهارة (دافينشي) في التعامل مع تقنية الرسم المسماه بـ مزج الألوان أو (سفوماتو)، وهي تقنية فنية تستخدم تدرجات دقيقة للضوء والظل لعمل صورة نموذجية، وتظهر استيعابه وإدراكه للشكل التشريحي للجمجمة أسفل الجلد. الحجاب والقماش المطوي وخصلات الشعر المرسومين بدقة متناهية يوضحوا تأملات (دافنشي) المتروية وصبره المتناهي. وعلى الرغم من أن ابتسامة الجليسة المتحفظة ونظرتها الهادئة كانت لا تُعد شيءٌ غامضٌ حتى القرن التاسع عشر، إلا أن التعبير المُبهم نفسه نال تقدير واستحسان الجمهور اليوم. لقد جسد (ليوناردو) محاكاة مركبة تشبه إلى حد مذهل تركيبة الإنسان.
مع ذلك فإن العديد من العلماء يشيرون إلى أن الجودة الممتازة التي تتمتع بها (الموناليزا) لم تكن كافية لجعلها بتلك الشهرة؛ فهناك العديد والعديد من اللوحات الجيدة والتي لا تتمتع بنفس هذا القدر من الشهرة، أيضا قد ساهمت الفعاليات الخارجية بشكل كبير في شهرة تلك اللوحة، فإن منزل تلك اللوحة هو متحف (اللوفر- Louvre) الشهير، أحد أكثر المتاحف المُزارة في العالم، وهو ظرف مصادف أكسب هذا العمل قيمة أكبر. وصلت تلك اللوحة إلى هذا المتحف بعدما سلكت طريقًا طويلًا يبدأ من عند الملك (فرانسيس الأول- Francis I)، ملك فرنسا، والتي قضى (ليوناردو) في بلاطه آخر سنوات حياته، ثم أصبحت اللوحة جزءا من المجموعة الملكية حيث ظلت ولقرون عديدة محفوظة في القصور الفرنسية حتى قيام الثورة ومطالبة الشعب بها بزعم أن المجموعة الملكية ملكية عامة لا الملك. بعد ذلك ظلت لفترة في غرفة نوم (نابليون)، ثم صارت جزءًا من متحف (اللوفر) في مطلع القرن التاسع عشر، وهناك تصاعدت شعبيتها مع تصاعد رعايتها من قبل المتحف.
سرعان ما أصبحت هوية المرأة التي بالصورة هي الشيء الأكثر إثارةً للاهتمام، وعلى الرغم من أن العديد من العلماء يعتقدون أن صاحبة الصورة هي (ليزا جيرارديني- Lisa Gherardini) زوجة التاجر الفلورنسي (فرانشيسكو ديل جيوكوندو- Francesco del Giocondo)، إلا أنه لا توجد دلائل مُدعمة من قبل (فرانشيسكو) لمثل هذا الاعتقاد، وعليه فلم يتم تحديد هوية تلك المرأة حتى يومنا هذا. وهكذا فإن هوية المرأة المجهولة قد تركت للناس حرية تخيل الصفة التي يريدونها للمرأة الجالسة بالصورة. خلال العصر الرومانسي في القرن التاسع عشر تحولت تلك المرأة الفلورنسية البسيطة بالصورة، والتي ربما قد تم تصويرها، إلى امرأة فاتنة غامضة. وصف الشاعر الفرنسي (تيوفيل جوتيه- Théophile Gautier) تلك المرأة قائلًا:
إنها كائن غريب، نظرتها تعد بملذات غير مفهومة
بينما ذهب آخرون في وصف شفاهها الغادرة وابتسامتها الساحرة، بل أن الكاتب الإنجليزي (والتر باتير-Walter Pater) ذهب إلى حد وصفها بـ «مصاصة الدماء» فقال:
لقد ماتت عدة مرات وتعلمت أسرار القبور
ولا تزال حالة الغموض التي أحاطت بـ (الموناليزا) في القرن التاسع عشر مستمرة مع اللوحة في محاولة تفسيرها وإحاطتها بالعديد من التكهنات.
في الوقت نفسه فإن القرن التاسع عشر قد خُلِّد (دافنشي) في التاريخ كـ أحد العباقرة، وبعد وفاته وعلى مر القرون كان يحظى وينظر إليه باحترام وتقدير بالغين، لكن ليس أكثر من معاصريه الخالدين (مايكلانجلو- Michelangelo) و(رافائيل-Raphael). على الرغم من ذلك قد لاحظ بعض العلماء أنه عندما ازداد الإهتمام بـ النهضة في القرن التاسع عشر أصبح (ليوناردو) أكثر شهرة، ليس فقط كرسامٍ بارعٍ، لكن أيضًا كعالمٍ ومبدع عظيم كانت تصميماته سابقة ورائدة للتصميمات المعاصرة. مؤخرًا تم الكشف عن حقيقة العديد مما زُعم أنه اختراعات، فتضائلت إسهاماته في العلوم والهندسة المعمارية، لكن أسطورة عبقرية (ليوناردو) ظلت مستمرة بشكل كبير حتى القرن الواحد وعشرين مما ساهم في ازدياد شعبية (الموناليزا).
قام كتاب القرن التاسع عشر بإثارة الاهتمام بتلك اللوحة، ولكن سرقة اللوحة عام 1911 وما أعقبها من جنون إعلامي جعلها تحظى باهتمام عالمي، فقد تسببت سرقتها في إحداث ضجة كبيرة فور اندلاع تلك الأخبار في الثاني والعشرين من أغسطس من نفس العام، ففي هذا اليوم توافد الناس إلى متحف (اللوفر) لتصعقهم الدهشة أن مكان لوحة (الموناليزا) ليس سوى مكانًا فارغًا، استقال مدير اللوحات بالمتحف، وامتلأت الصحف بالإدانات والاتهمات بوجود خدعة ما، حتى أن (بيكاسو-Pablo Picasso) تم القبض عليه كمشتبه به، لكن وبعد عامين فقط تم العثور على اللوحة في إيطاليا بعد أن قام أحد تاجري التحف في (فلورنسا) بإبلاغ السلطات المحلية بعد أن اتصل به رجلًا ليبيعها له. كان الرجل هو (فينتشنزو بيروجي- Vincenzo Peruggia)، وهو إيطالي مهاجر إلى فرنسا، عمل لفترة وجيزة بمتحف (اللوفر)، كان يصلح الزجاج لمجموعة من اللوحات، والتي كان من بينها لوحة (الموناليزا). قام بصحبة عاملين آخرين بسرقة اللوحة وظلا مختبئين بها طوال الليل بداخل خزانة، وهربوا بها في الصباح، لكنه لم يتمكن من بيعها بسبب اهتمام الإعلام بها، فقام بإخفائها في صندوق العربة إلى أن تم القبض عليه ومحاكمته وسجنه بتهمة السرقة بينما كانت اللوحة قد جالت (إيطاليا) قبل أن تعود منتصرة إلى مُستقرها في متحف (اللوفر)، عندها أصبح العديد من الفرنسيين ينظرون إلى تلك اللوحة على أنها كنز وطني استعادوه بعد فقده.
أصبحت (الموناليز) بالتأكيد أكثر شهرة بعد السرقة، لكن الحرب العالمية الأولى سرعان ما جذبت الكثير من انتباه العالم بعد اندلاعها. يقول بعض العلماء أن استنساخ (مارسيل دوشامب- Marcel Duchamp) للوحة وتشويهه الهزلي لها جذب الإنتباه مرة أخرى لها، حيث بدأ اتجاه عام جعل من تلك اللوحة واحدة من أكثر اللوحات في العالم شهرة، فقد ناهض (مارسيل) تقديس الفن حيث رسم شاربًا ولحيةً على وجه سيدة لوحة الموناليزا، ثم كتب الاختصار (L.H.O.O.Q.) أسفل اللوحة، الجملة التي تحمل معنى خادشًا للحياء بالفرنسية، مما تسبب في فصيحة ليست بالكبيرة، لكن عدد من الفنانين الماكرين الآخرين أدركوا أن دعابة مثل تلك ستجلب لهم الإنتباه أيضًا. لعقود من الزمن حذا العديد من الفنانين، خاصة الفنان الأمريكي (آندي وارهول- Andy Warhol)، حذو (دوشامب)، وكلما ازداد تشويه الفنانين لتلك اللوحة وتلاعبهم بها ورسمهم لنسخ أخرى منها، كلما بالغ الممتهنين بالإعلان ورسامو الكاريكاتير في اهتمامهم بها. مع مرور العقود وبعد التطور التقني تم إعادة إنتاج واستنساخ اللوحة بعدد لا يحصى من المرات، بعضها تم التلاعب بها والبعض الآخر لا، مما جعل وجه تلك المرأة الجالسة بالصورة أحد أكثر الوجوه شهرة على مستوى العالم، حتى لأولئك الذين لم يكن لهم أي اهتمام بالفن من قبل.
جولة في الولايات المتحدة عام 1963 وأخرى في اليابان عام 1974 كانتا كفيلتين لزيادة اللوحة شهرة فوق شهرتها. سافرت (الموناليزا) إلى (أمريكا) على متن باخرة عابرة للمحيطات في مقصورة الدرجة الأولى، وخلال فترة تواجدها هناك، والتي وصلت لستة أسابيع، جعلت حوالي 40 ألف شخصًا يزورونها يوميًا في متحف (المتروبوليتان) بمدينة (نيويورك) وفي المتحف الوطني للفنون بالعاصمة (واشنطن)، بعد ذلك بعشرة سنوات تقريبًا استقبلت حشود ضخمة اللوحة في اليابان. بالإضافة إلى ذلك أن زيادة إمكانية التكفل بـ أسعار السفر للعامة منذ أواخر القرن الماضي، قد جعلت أعداد الأشخاص الذين يذهبون إلى باريس لإظهار تقديسهم وتقديرهم للوحة بشكل شخصي في تزايد، الشيء الذي ساهم في وجود تلك الحشود التي نراها اليوم. على الرغم من أن (الموناليزا) بلا شك قطعة فنية رائعة، إلا أنه لا يوجد سبب فردي لشهرتها تلك، أو بالأحرى هناك المئات من الأسباب والظروف، بدءًا من وصولها لمتحف (اللوفر) مرورًا بصناعة أسطورتها في القرن التاسع عشر وانتهاءًا بالنسخ اللانهائية منها في القرنين السابق والحالي، التي عملت جنبًا إلى جنب مع جاذبية اللوحة لجعل (الموناليزا) اللوحة الأكثر شهرة على الإطلاق.
ترجمة: أحمد فهمي
مُراجعة علمية ولُغوية: آلاء مرزوق
تحرير: زياد الشامي
المصدر:
“Why Is the Mona Lisa So Famous?” Gale – Enter Product Login, HuffPost, bit.ly/2K5CaOc.
https://bit.ly/2K5CaOc