مدينة أُقيمت وفقًا لمؤامرة معمارية، على طراز يجلب نهاية العالم.
كاميرات مراقبة مبرمجة على إطلاق النار على أي من تسول له نفسه فعل الخطأ.
دولة تديرها بيروقراطية غاشمة لدرجة أن المرضى على مشارف الموت يضطرون إلى الوقوف في طوابير انتظار للحصول على تصريح رسمي يتيح لهم الذهاب إلى طبيب.
مجموعة من بارونات الجريمة تقمن بشن الحرب على بعضهن البعض فوق الأرض وتحتها عبر شبكة من الأنفاق والمجارير.
مرض غامض يحيل الوجه إلى كتلة لحم بلا ملامح، ولا يترك سوى فتحتي أنف للتنفس.
مخلوق بشع خلق من أشلاء أجساد الموتى الذين قطعتهم السيارات المفخخة إربًا، دبت فيه الروح الآن رغبة في الانتقام بقتل كل من تسبب في قتله/قتلهم.
تعطي تلك العوالم المُتخيلة في العديد من الكتب المنشورة باللغة العربية خلال السنين الأخيرة (والتي ما لبثت أن تُرجِمت إلى الإنجليزية) انطباعًا عامًا عن طريقة مقاربة الروائيين العرب لما يعيشونه حاليًا، عن طريق سبر أغوار هاوية المستقبل المحتمل، الذي تُحلق أشباحه المشؤومة فوق تصدُّعات خرائب الحاضر.
- متظاهر مصري يحمي وجهه من قنابل الغاز المسيل للدموع خلال اشتباكات مع شرطة مكافحة الشغب بالقرب من ميدان التحرير (القاهرة) في نوفمبر ٢٠١١ -وكالة أخبار فرانس برس (بالفرنسية: Agence France Presse، وتختصر: AFP)
يتمثل السرد العام في أن الكتَّاب العرب، بعد إخفاقات الربيع العربي والوقوع مجددًا في براثن الفوضى والاستبداد، قد زالت أوهامهم وحل محلها الخذلان واليأس، فتمخضتا عن حركة أدبية جديدة، تجنح إلى أدب القصة -الديستوبيا بوجه خاص- في محاولة لفهم الحاضر المرعب.
احتضن الإعلام الغربي تلك الكتب، بالإضافة إلى تلك السردية: حيث ولدوا في كنف مشهد ما بعد الثورة، فعلى الرغم من تناولهم مجتمعات مستقبلية، إلا أنهم يستخدمون مقاربات مجازية للحديث عن الديستوبيا الحالية في «العالم العربي».
ثمار مختلفة، لنفس التربة
غير أن الاكتفاء بهذا القدر السابق وحسب يؤدي إلى تبسيط لحظة وحركة معقدتين، واستقطاع المشاهد السياسية شديدة الاختلاف والتباعد عن بعضها بعضًا، والتي وُلدت فيها هذه الكتب.
يغطي العالم العربي مساحة شاسعة من الأراضي. حركة أدب الديستوبيا هذه ظاهرة مصرية إلى حد كبير، على الرغم من أن المساهمتين الفائزتين فعليًا بالجائزة العالمية للرواية العربية (والمشهورة باسم «جائزة البوكر العربية») في هذا الجنس الأدبي كانتا من العراق («فرانكشتاين في بغداد» لأحمد سعداوي، الفائزة لعام ٢٠١٤ وتُرجِمت إلى اللغة الإنجليزية في عام ٢٠١٦) وفلسطين («حرب الكلب الثانية» لإبراهيم نصرالله، الفائزة لعام ٢٠١٨ ولم تترجم إلى الإنجليزية بعد).
تقول زينب ج. حلبي، أستاذ مساعد الأدب العربي في الجامعة الأمريكية ببيروت، أن حتى عند التطرق لمصر، «من الخطأ إرجاع كل تلك الكتابات إلى (الثورة)، كما لو أنها كانت الانفجار العظيم الذي لم يكن قبله شيء».
من ضمن مجالات اهتمام حلبي كيفية تأثير الحركات الاجتماعية والسياسية على نظيراتها الأدبية والعكس، لكنها لا تلبث أن توضح أنه يمكن تتبع جذور الفيض الحالي لأعمال أدب الديستوبيا في مصر -جزئيًا- إلى قرن مضى، حين حاول كتَّاب عرب مثل جرجي زيدان وحافظ محمود تخيل ما يمكن أن يبدو عليه مجتمع يوتوبيا مثالي.
يتفق نائل الطوخي، مترجم وروائي، معها في الرأي. فكثيرًا ما تقترن واحدة من رواياته -«نساء الكرنتينا»- بأعمال لأبناء وطنه من المصريين، من ضمنهم «استخدام الحياة» لأحمد ناجي، و«عطارد» لمحمد ربيع.
حيث يُشار إلى الأعمال الثلاثة معًا على أنهم دليل على جنوح هذا الجيل الجديد من شباب الكُتَّاب المصريين إلى الديستوبيا للتنفيس عن إحباطاتهم من وضع مصر الراهن.
لكن «عطارد» هي الوحيدة من الثلاثة التي تتسم بالسوداوية الشديدة التي غالبًا ما ترتبط بهذا الجنس الأدبي، حيث يرسم ربيع صورة للقاهرة كمدينة منقسمة، تترأس نصفها الشرقي جماعة استبدادية تدعى «فرسان مالطا»، ويروى جزء كبير من الرواية على لسان الشخصية الرمزية أحمد عطارد، وهو رجل شرطة يمضي وقته في قتل الناس بشكل منهجي من برج القنص الخاص به، واصفًا آلام احتضارهم بشكل مفصل تقشعر له الأبدان.
تأتي «استخدام الحياة» على النقيض، خفيفة ومرحة في سردها -حتى مع انتهائها بنهاية العالم فعليًا- تعج الرواية بالجنس، والمخدرات، وموسيقى الروك بينما يكشف الراوي «جمعية المعماريين» ومؤامرتهم لهدم القاهرة باتساخها وازدحامها وإعادة بناءها من الصفر. أودى الكتاب بسجن ناجي لمدة تسعة أشهر، ليس لاعتراض السلطات على افتراضه وجود مؤامرة محتملة تحيكها القيادات، بل بسبب رفع مواطن مدني شكوى ضد المحتوى الجنسي الصريح في الرواية.
نرى على الجانب الآخر، «نساء الكرنتينا» لنائل الطوخي رواية بيكارسكية مهووسة ذات مدى ملحمي. تبدأ الرواية بمحاولة هروب حبيبين، هما علي وإنجي، بعد ارتكاب جريمة قتل «عن طريق الخطأ» ومن ثم يستقران في الإسكندرية ويسترسلان في تجنيد إمبراطورية إجرام كاملة تحت إمرتهم.
ينزعج الطوخي على الرغم من ذلك، من تصنيف عمله على أنه أدب ديستوبيا. فيقول: «لدي مشكلتان مع هذا الأمر: أولًا، لأنه فعل يقوم به النقاد الغربيون، في حين أن كل ما يستندون إليه هو ما تم ترجمته من الروايات العربية إلى اللغة الإنجليزية، وبالتالي فهم لا يعرفون عن الأدب العربي غير ما تم ترجمته إلى اللغات الأوروبية».
«ثانيًا، لأنهم دائمًا ما يربطون الثورة بالديستوبيا، كما لو أنهم يبحثون عن دليل على تأثير الثورة في الأدب المصري الجديد، فوجدوا ما يبحثون عنه في هذا المصطلح (الديستوبيا): فيعتقدوا أن شباب الكتَّاب المصريين يكتبون أدب الديستوبيا لأنهم محبطين بسبب نتائج الربيع العربي».
يقول الطوخي أن «نساء الكرنتينا» «كانت مكتملة بنسبة ٩٠% قبل اندلاع الربيع العربي، فلا علاقة لها بالثورة، ولا سيما بالإحباطات».
بدلًا من ذلك، يطرح المؤلف تأكيدًا آخر أكثر تشويقًا ودقة: ما تشترك فيه تلك الأعمال، عوضًا عن تصورات «للديستوبيا»، هو أن كلها تنبع من «كسر قيود الخوف من تناول السياسة والأحداث السياسية في الأدب»، معلنةً بذلك نقطة انفصال هامة عن تسعينيات القرن الماضي كما يقول، الوقت الذي إما تجاهل فيه الكتاب السياسة في أعمالهم أو قاموا بكتابة مجلدات أيديولوجية.
من هذا المُنطلق نجد أن انبثاق كلٍّ من موجة الأدب العربي الجديد تلك والثورة كان من نفس المكان حيث نبت كلاهما من نفس الظروف، فهما ليسا سبب ونتيجة، بل ثمرتان مختلفتان نبتا من نفس التربة.
العامل المشترك الذي يراه بين رواية ناجي، وربيع، وروايته هو نفسه، هو «القدرة على تناول السياسية دون الاستسلام لشرك (الكتابة الأيديولوجية)».
الإحباطات التي أدت ذروتها إلى اجتياح المتظاهرين الشوارع بشجاعة للمطالبة بحياة ومجتمع أفضل هي نفسها التي حثت الكتَّاب على بدء البوح بما في صدورهم على صفحات الكتب، حيث يمثل تخيل عوالم أو تصورات مستقبلية بديلة، على الرغم من كل ما تعج به من صفات مرعبة، نزعة شُجاعة لفك اللجام عن خيال الفرد وتركه ليرمح بكل ما أوتي من جموح، وجنون، ووحشية.
فُقِد في الترجمة
ربما يكون من قبيل التمادي القول بأن مصر قد استفاقت بعد ثبات طويل لتبصر إمكانية مستقبل أفضل، مما تمخض عن موجة أدب منشغلة بالمستقبل كمجال للتخيل مع سرد «تاريخانيات مستقبلية» بديلة، اللفظ الذي يستخدمه الطوخي نفسه في وصف روايته.
لكن من المثير للاهتمام وضع تلك الفكرة في الاعتبار عند مقاربة «فرانكشتاين في بغداد» لأحمد سعداوي، والتي لم تفز بجائزة البوكر العربية وحسب بل وكانت نسختها المترجمة إلى الإنجليزية من ضمن المرشحين الواردة أسماؤهم في قائمة الاختيار الأولية لجائزة البوكر الدولية لعام ٢٠١٨.
ينسج الكتاب، والذي يجمع ما بين خصائص الرعب، والخيال العلمي، والرواية البوليسية، خيوط سرديات عدة تروي حكاية مسخ بشع بُعِث للحياة دون قصد، حين رثى بائع خردة لحال أرملة -تمزق زوجها إلى أشلاء إثر انفجار سيارة مفخخة- فقام بخياطة أجزاء من جثث ميتة معًا كي يعطيها جثة كاملة لتدفنها. يختفي المخلوق الذي نتج عن تلك العملية قبل الدفن: ومن ثم تتوالى حوادث القتل في بغداد، مع وصف الكثير من شهود العيان شروع عملاق ضخم في الهرب من مسرح الجريمة، وتتم الإشارة إليه بأسماء «فرانكشتاين»، و«المجرم إكس»، أو في أغلب الأحيان، «الشُسْمُه» (أي من لا أعرف اسمه).
لكن «فرانكشتاين في بغداد» ليست برواية عن تاريخ أو مستقبل من الديستوبيا: حيث تجري أحداثها في عام ٢٠٠٥ بعد الاجتياح الأمريكي للعراق، فتأتي شخصية الكائن بمثابة مجاز ملائم لبلد قطع العنف أوصاله واختلط فيه الصالح بالطالح.
ومن المثير للاهتمام أن نلحظ عدم وجود أي أعمال من سوريا تندرج تحت هذا الجنس الأدبي المختص بالديستوبيا وأدب القصة. مع ذلك، لو اختزلنا محتوى بعض الكتب لمحض تعريف مختصر، مثل «الموت عمل شاق» لخالد خليفة على سبيل المثال، حيث يقود مجموعة أشقاء عربة ميكروباص وآثار الدمار تغطي الآفاق -في محاولة لنقل جثمان أبيهم المتحلل في مؤخرة العربة لمكان الدفن- فلن يكون أمامنا مفر سوى اعتبار تلك الأعمال من نفس ذلك الجنس.
يُرجع حلبي هذا الأمر إلى «انشغال الناس بتوثيق أهوال الواقع الذي يعيشونه بالفعل».
نظرًا للاهتمام الذي لاقته تلك الكتب في الإعلام الغربي، فلربما يمكننا القول بأنها بمثابة حركة، وموجة كاسحة من الأعمال المنشورة حديثًا إشارة لنقطة تحول في الأدب العربي.
لكن تقول مارشا لينكس كوايلي (بالإنجليزية: Marcia Lynx Qualey) -وهي كاتبة، ومحررة، ومؤسسة «آراب ليت» (بالإنجليزية: ArabLit)، وهو موقع إلكتروني رائد يختص بدراسات الأدب العربي المترجم إلى اللغة الإنجليزية- أن في الحقيقة على الرغم من وجود إلى حد ما «موجة مد فيما يمكن أن نسميه بأدب الديستوبيا، فقد لا تكون تلك الموجة بالضخامة التي أضفتها عليها الترجمة».
وتقول كوايلي أن هذا يرجع جزئيًا إلى أن كتب هذا الجنس الأدبي دائمًا ما ستكون «أكثر مبيعًا من رواية تاريخية ما تحكي عن الجزائر وفرنسا في الخمسينيات من القرن الماضي، أو عن القاهرة في عام ١٩٧٣، أو عن المتطوعين الفلسطينيين في الحرب الأهلية الإسبانية».
لكن ثمة أسئلة أهم تتجاوز تلك المسألة حيال ما يتم ترجمته والسبب وراء ترجمته. «أعتقد أن دور النشر الغربية تسعى جاهدة في البحث عن تلك النوعية من الأعمال بل وفي خلقها أيضًا، عن طريق التكليف بجمع مختارات أدبية مثل «بغداد نوار» (بالإنجليزية: Baghdad Noir)، و«العراق ١٠٠+» (بالإنجليزية: Iraq +100)، و«فلسطين ١٠٠+» (بالإنجليزية: Palestine +100)، إلخ».
أدلت غنوة حايك، أستاذ مساعد الأدب العربي الحديث في جامعة شيكاجو، ومُدرِسة للأدب العربي باللغة العربية إلى جانب ترجماته باللغة الإنجليزية، بإجابة أكثر قسوة حول منبع هذا الاهتمام، فتقول «ليس من المستبعد الظن بأن جزء من هذا الافتتان [في الغرب] بأعمال أدب خيال الديستوبيا يرجع إلى حقيقة أنه يفي بتوقعات الناس بأن العالم العربي مكان يعج بالفوضى، والاستبداد، والعنف».
يُعرب الطوخي، وهو أيضًا مترجم، عن مخاوف مشابهة، وإن كانت بخصوص الطريقة التي يتم بها تصنيف تلك الكتب على أنها «تيار» في الصحافة الغربية. فيقول -بطريقته المعهودة النازعة إلى الكوميديا السوداء- أن «حتى يتسنى للناقد الغربي إقناع نفسه بأنه قد قرأ أكثر من كتاب أو كتابين من العالم العربي، لا مانع عنده من أن يتوهم أنه قد قام بالفعل بقراءة (تيار جديد بالكامل) من الأدب المصري».
وبذلك نجد إنه من الضروري التفكير في تلك الإشكاليات عند قراءة الأدب المترجم: فالأيديولوجيات الكامنة في الترجمة لا تخلو أبدًا من التوجهات السياسية.
على الرغم من هذا فلن يكون لدينا أي اعتراض لو سيكون هذا الحماس بمثابة بوابة لاستدراج القارئ الغربي لقراءة الأدب المترجم من العربية وتشويقه لقراءة المزيد منه، وقراءة كتب أخرى لنائل الطوخي، أو محمد ربيع، أو أحمد سعداوي، ومنهم إلى التطرق إلى كتاب آخرين، وأجناس أدبية عربية أخرى، ومن ثم تكوين صورة أوسع وأكثر تعقيدًا وزخمًا للعالم العربي.
أن نجد أنفسنا وجهًا لوجه في حضرة مكان ما من خلال الأدب المولود منه: تلك هي أسمى أنواع اليوتوبيا التي نتوق إليها في عالم يعج بالديستوبيا.
* اقتُطِفت تلك المقاطع -بالترتيب- من:
- «استخدام الحياة» لأحمد ناجي (نُشِرت باللغة العربية في عام ٢٠١٤، وترجمها بن كوربر (بالإنجليزية: Ben Koerber) إلى اللغة الإنجليزية في عام ٢٠١٧)
- «حرب الكلب الثانية» لإبراهيم نصرالله (نُشِرت باللغة العربية في عام ٢٠١٦، وسوف تصدر حتمًا ترجمة لها باللغة الإنجليزية كجزء من الجائزة العالمية للرواية العربية (بالإنجليزية: IPAF)، والتي تخصص منحة للترجمة)
- «الطابور» لبسمة عبدالعزيز (نُشِرت باللغة العربية في عام ٢٠١٣، وترجمتها إليزابيث جاكِت (بالإنجليزية: Elizabeth Jaquette) إلى اللغة الإنجليزية في عام ٢٠١٧)
- «نساء الكرنتينا» لنائل الطوخي (نُشِرت باللغة العربية في عام ٢٠١٥، وترجمها روبن موجر (بالإنجليزية: Robin Moger) في عام ٢٠١٦)
- «فرانكشتاين في بغداد» لأحمد سعداوي (نُشِرت باللغة العربية في عام ٢٠١٣، وترجمها جوناثان رايت (بالإنجليزية: Jonathan Wright) إلى اللغة الإنجليزية في عام ٢٠١٨)
نُشِر المقال الأصلي باللغة الإنجليزية تحت عنوان (“Apocalypse Now: Why Arab Authors are Really Writing about the End of the World“) لكاتبته لينا منذر على موقع «ميدل إيست آي» (بالإنجليزية: Middle East Eye) بتاريخ ١ أبريل ٢٠١٩.