لماذا ينكرون التأثير العنيف لوسائل الإعلان؟
دائمًا ما أواجه سؤالًا ملحًا كباحث في مجال ألعاب الفيديو العنيفة وهو «لقد لعبت ألعاب الفيديو العنيفة لعدة سنوات؛ لماذا لم أتحول إلى قاتل؟» وعادة ما تكون إجابتي على هذا التساؤل بسيطة للغاية:«لقد كانت نشأتك في منزل هادئ وآمن ومستقر، ولديك أصدقاء ولم تتعرض للتهديد في فترة المدرسة، وأيضًا عقلك سليم وغير مصاب».
إن السلوك العنيف معقد للغاية وتسببه عدةعوامل عادة ما تعمل معًا، فالتعرض للعبة فيديو عنيفة ليس هو العامل الوحيد المسبب للعنف، ولا حتى العامل الأكثر أهمية، ولكنهأيضًا ليس عاملًا تافهًا!
إن الناس يريدون تصديق أنه إذا كان هناك الملايين من الناس يلعبون ألعاب الفيديو ولا يتحولون إلى قتلة، فإن تلك الألعاب -بالتأكيد- يجب أن تكون غير ضارة، وهذا غير صحيح للأسف.
إننا لم نُثْبت أن ألعاب الفيديو لا تحرض على العنف بشكل مباشر، لأن هذا ببساطة لا يمكن إثباته بسبب عدم تواجد وسيلة أخلاقية لإجراء التجارب لرؤية إذا ما كانت لعبة مثل نداء الواجب(Call of duty) قد تدفع الشخص إلى العنف، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أننا غادرنا بدون أدلة.
نحن نعلم بالتأكيد أن العنف في ألعاب الفيديو مرتبط بالعنف بشكل عام، تمامًا كما نعلم أن التدخين مرتبط بسرطان الرئة مع أن سببية ذلك لم تظهر، في الواقع هي قد فعلت ذلك مرارًا وتكرارًا، فقد أجرينا مؤخرًا استعراضًا شاملًا لِـ136 مقالًا عن 381 من الآثار التي تنطوي على أكثر من 130ألف مشارك من جميع أنحاء العالم، وتشير هذه الدراسات إلى أن ألعاب الفيديو العنيفة تزيد الأفكار العدوانية ومشاعر الغضبوالسلوك العدواني، والإثارة الفسيولوجية أيضًا كمعدل ضربات القلب وضغط الدم! الألعاب العنيفة أيضًا تقلل الرغبة في مساعدة الناس، وتقلل مشاعر التعاطف مع الآخرين.
وقد ظهرت تلك الآثار على ذكور وإناث من جميع الأعمار بغض النظر عن البلد التي يعيشون فيها، وبالتالي يصبح السؤال هنا هو «لماذا لا يكترث الناس والصحفيين بهذا المذكور أعلاه؟!».
النظريات النفسية تقدم ستة أسباب لهذا؛ وهي:
أولًا، المغالطات المنطقية:
يعتقد كثير من الناس أن وسائل الإعلام العنيفة ليس لها أي تأثير، وذلك لأنهم لم يتسببوا بقتل أي شخص بعد مشاهدة برنامج تلفزيوني أو فيلم عنيف، أو بعد أن لعبوا لعبة فيديو عنيفة،في الواقع ليس مستغربًا أن الناس الذين يستخدمون الوسائل المرئية أو التفاعلية المليئة بالعنف لم يقوموا بقتل أي حد، لأن نسبة القتلة في المعتاد صغيرة جدًا، على سبيل المثال أقل من 5 أشخاص من كل 100 ألف يُقتَلُون سنويًا في الولايات المتحدة، وبالتالي فإنه من الصعب جدًا التنبؤ بالأحداث النادرة، مثل القتل من خلال نسب التعرض للوسائل العنيفة أو أي عوامل خطر أخرى، ولكن لأن القتل هو الحدث الأكثر ملاحظة فإنه في حالة عدم ملاحظة الناس لوجوده فإنهم ببساطة يستبعدون وجوده، ويتجاهلون ما يتعلق بكون نسبته قليلة أصلًا.
وبالتبعية يستبعدون فكرة ارتباط الوسائل المرئية والتفاعلية العنيفة بالعنف، على الرغم من أن مشاهدة الوسائل المرئية العنيفة قد يساهم في أن يوحي للمشاهدين بسلوكيات أقل عنفًا وأكثر انتشارًا من تلك التي تظهر في وسائل الإعلام، على سبيل المثال في دراسة مطولة لمدة 15 عامًا أظهر ثقيلي مشاهدة الأنواع العنيفة من تلك الوسائل عرضة لأن يتم إدانتهم بالسلوك الإجرامي بنسبة أكثر بثلاثة أضعاف من أولئك غير المشاهدين، وذلك عند بلوغهم العشرينات من عمرهم، كما أن لديهم قابلية أعلى للإساءة إلى أزواجهم والاعتداء على الآخرين!
ثانيًا، الحد من التنافر الواعي (المعرفي أو القابل للإدراك):
قد تسبب الأفكار المتضاربة عدم الراحة النفسية، وهو ما يمكن تسميته بالتنافر المعرفي، فعلى سبيل المثال إذا كان الناس في كثير من الأحيان يلعبون ألعاب الفيديو العنيفة ويعتقدون أنها ممتعة، وفي ذات الوقت يشعرون بعدم الارتياح إزاء فكرة أن الألعاب العنيفة قد تكون أيضًا مضرة، فإن أسهل طريقة للحد من هذا الانزعاج هو تغيير قناعاتهم من خلال تبني مواقف متماشية مع أفعالهم، وهكذا يقول الشخص لنفسه ليتخلص من التناقض:«أنا أستمتع بالألعاب العنيفة، ومن المحبط التفكير في أن هناك شيء ما أنا أستمتع به قد يكون ضارًا، لذا فمن الممكن أن تكون الأبحاث خاطئة».
وبالطبع فإن الوسائل الإعلامية والتفاعلية العنيفة وألعاب الفيديو ليست الأشياء التي تضر بالناس على الرغم من استمتاعهم بها، فهناك أيضًا البطاطا المقلية والشوكولاتة وغيرهما من المواد الغذائية غير الصحية، والكحول والتبغ والمخدرات…إلخ.
ثالثًا، نظرية الممانعة النفسية:
معظم الناس لايحبون أن يملي عليهم أحد ما عليهم القيام به، وبالتالي-ووفقًا لنظرية الممانعة النفسية وبسبب الرغبة في حرية الاختيار- فإن هذا المعظم قد يختار رد فعل سلبي أو سيء على أن يقوم شخص آخر أو مؤثر خارجي بتحديد خيارتهم لهم، تلك الممانعة تتسبب بثلاث نتائج رئيسية، أولًا هي تجعلك تميل إلى الخيار الممنوع أو بمعنى آخر تجعله أكثر جاذبية، ثانيًا قد تجعلك تتخذ خطوات عدةلمحاولة استعادة الخيار الممنوع -المنهي عنه- ثالثًا قد تتصرف بعدائية أو بتحفظ تجاه الشخص الذي قام بتقييد حريتك، على سبيل المثال قد تتعامل بعدائية تجاه الباحثين الذين يقومون بإثبات أشياء قد تتعارض مع استمتاعك ككاتب هذا المقال.
وانطلاقًا من نظرية الممانعة، فقد أظهرت الأبحاث أن الملصقات المصممة لتحذير المستهلكين حول مواد معينة في البرامج التلفزيونية والأفلام وألعاب الفيديو والموسيقى غالبًا ما يكون لها تأثير معاكس، أي أن الناس تصبح أكثر اهتمامًا بوسائل الإعلام (المحرمة).
رابعًا، نظرية التنفيس (التطهير):
وفقًا لنظرية التنفيس، فإن التعبير عن الغضب هو عبارة عن إفراغ صحي للمشاعر وبالتالي فهو جيد للنفسية، فعلى سبيل المثال قد يظن الناس أن قتل الأعداء في لعبة فيديو عنيفة سوف يساعدهم على التخلص من غضبهم! نظرية التنفيس، والتي يمكن إرجاع أصلها إلىسيجموند فرويدالذي بدوره استمدها من أرسطو، أنيقة وجذابة، لكنها لم تصمد أمام التمحيص العلمي.
في الواقع، للتعبير عن الغضب في كثير من الأحيان تأثير معاكس لزيادة مشاعر الغضب والنزوات العدوانية، وذلك لأن الناس غالبًا ما تشعر بتحسن بعد التعبير عن الغضب، ولكن فلنتفترض -بشكل غير صحيح- أن نظرية التنفيس صحيحة، مع ذلك فإن الناس أيضًا يشعرون بالرضا بعد تناول الشوكولاتة أو البطاطس المقلية، أو شرب البيرة أو تعاطي المخدرات في الشوارع، ولكن هذا الشعور الجيد ليس له تأثير في الواقع، أيضًا فإن البحوث تبين أن الشعور الجيد هو مرتبط بشكل فعلي بالعدوان.
خامسًا، تأثير الشخص الثالث:
وجد الباحثون أن الناس يعتقدون باستمرار أن تأثير وسائل الإعلام أقوى بكثير على الآخرين من تأثيرها عليهم، وهو ما يسمى بتأثير الشخص الثالث.
قد يعتقدون أيضًا أن العنف الموجود في وسائل الإعلام قد يؤثر على بعض الناس الأكثر حساسية أو قابلية للتأثر -على سبيل المثال المصابون بأمراض عقلية- لكنهم يعتقدون أنها لن تؤثر عليهم شخصيًا.
قد يكون تأثير الشخص الثالث مرتبطًا -بشكل ما- بنظرية الممانعة النفسية، ففي حالة إذا أقرَّ الناس بأن تلك الوسائل تؤثر عليهم، فإنهم بشكل ما يُقرُّون أيضًا بأن تلك الوسائل تتحكم فيهم.
سادسًا، الحرمان من صناعة الترفيه:
غالبًا ما يدعي صناع الوسائل التفاعلية العنيفة أنها لا تحفز على العنف أو تشجع عليه، وبالرغم من ذلك فإنه يظهر أنها تدعي ذلك فقط لأن مصلحتها الاقتصادية في ذلك.
في عام 1972 أصدر اتحاد الأطباء العام الأمريكي تحذيرًا حول الآثار الضارة للعنف في التلفزيون، ومنذ ذلك الحين ظهرت أدلة علمية أقوى تؤكد ذلك، ولكن التقارير الإخبارية تدعي العكس، في الواقع فإن معظم الأمريكيين ليسوا على علمٍ حتى بالإعلان الصادر في 1972 ربما لأن وسائل الإعلام لم تعلن عن ذلك.
قد يكون صناع الترفيه المحتوي على العنف مترددون في الاعتراف بأنهم يسوّقون منتجًا ضارًا، وهذا يشبه إلى حد كبير ما حدث مع صناعة التبغ، فقد كانت مترددة في الاعتراف بأن السجائر مضرة أيضًا.
في الواقع نحن أمام مفارقة عجيبة، فمن ناحية تدعي صناعة التلفزيون أن بضع دقائق من الإعلان يمكن أن تروج الصابون والحبوب وحتى المرشحين السياسيين للمشاهدين، حتى أن إعلانًا استغرق 30 ثانية في عام 2013 عن سلطانية عجيبة (Super Bowl)قد كلف نحو 4 ملايين دولار. وعلى الناحية الأخرى تدعي صناعة التلفزيون أن ساعة من البرامج المحيطة بتلك الدقائق من الإعلانات ليس لها أي تأثير على المشاهدين!!
للأسف فإن الناس لا يفهمون العمليات النفسية، بقدر استيعابهم للعمليات البيولوجية.
إذا رأيت فيديو ذا سلوك عنيف يقوم بالهجوم على شخص آخر، فمن الصعب معرفة السبب المباشر للهجوم، هل كان ذلك بسبب أنه كان يلعب ألعاب الفيديو العنيفة لساعات طويلة، أم لسبب آخر؛ العمليات النفسية ليست ببداهة العمليات البيولوجية، فهي ليست بذلك الوضوح.
الناس أكثر تقبلًا لفكرة أن التدخين يسبب سرطان الرئة، ربما لسهولة تخيُّل تغلغل الدخان في خلايا الرئة، ومن ثمَّ تسبب الأضرار وابتداء انشار ونمو الورم.
الخُلاصة:
تتضافر هذه العمليات لخلق جَوْ، يصل الناس فيه إلى استنتاج مفادُه أن الوسائل المرئية والتفاعلية العنيفة ليست ضارة، على الرغم من مئات الدراسات التي أجريت على مدى عدة عقود، والتي أظهرت ضرر وسائل الإعلام العنيفة الكبير، كما أن الأغلبية الساحقة من علماء الاجتماع العاملين في هذه المساحة تقبل بأن العنف الموجود في وسائل الإعلام يشكل خطرًا مؤكدًا على المجتمع.
معظمنا لا يحب الاعتراف بأن الأشياء الممتعة لنا قد تكون أيضًا سيئة وضارة، سواء كان ذلك ألعاب فيديو عنيفة أو تناول للشيكولاتة، ولكن أحد أهم الفروق ما بين الضرر الحادث في حالة تناول كمية كبيرة من الأطعمة عالية السكر، والضرر الحادث عن ألعاب الفيديو، هو أن الضرر الحادث في الحالة الأولى ينتج عنه متضرر وحيد هو أنت، بينما في الحالة الثانية فإن ذلك الضرر قد يمتد ليشمل الآخرين.
ترجمة: Mohannad M. AbdElFattah
مراجعة: Mohammad Marashdeh
المصادر: http://sc.egyres.com/wjlQx
#الباحثون_المصريون