ما نعرفه عن قوى الطبيعة

ما نعرفه عن قوى الطبيعة

يقول الفيزيائي ريتشارد فينمان (Richard Feynman):

لا يوجد أيُّ جسمٍ مُفردٍ أحادي في الكون، فكل جسم مكون من عددٍ كبيرٍ من العناصر الأخرى، ولذلك فأي قانون مُستنبط هو نتيجة لمجموعة من التقريبات والافتراضات.

فلماذا لا نستطيع أن نأتي بتعريفٍ دقيقٍ يُعبِّر عن الحقيقة بشكلٍ كاملٍ وفقًا لفينمان؟ فكلما أردنا الحصول على تفسير أفضل ازداد الأمرُ تعقيدًا، وتعقيد الأمور نابعٌ من محدوديّة حواسنا، حيث إن الحقيقة تقبع في جسيمات الكون غاية الصغر.

كذلك بالنسبة لمفهوم القوى، فعند تفسير إزاحة جسم بقوى، تنجح القوانين الكلاسيكية في تفسير ما يحدث وفي التنبؤ بحركة الجسم والقوى المؤثرة عليه، ولكن يزداد الأمر تعقيدًا كلما حاولنا فهم طبيعة ومصدر تلك القوة.

 

مفهوم القوى الكلاسيكي

يرجع الفضل لإسحاق نيوتن في توضيح أن ما يحدث في الأرض لا يختلف بأي شكل من الأشكال عمّا يحدث في أي مكان آخر في الكون، بدءًا من النجوم والكواكب ووصولًا إلى عضلات جسم الإنسان، فقدم لنا نيوتن أول تعريف للقوة بشكلها العام، إذ استنبط نيوتن ثلاثة قوانين عن الحركة، وينص القانون الثاني  على أن القوة هي حاصل ضرب كتلة الجسم في عجلته، فيما يعني أن تغيُر حركة الجسم (سرعته أو اتجاهه) هي نتاج تأثير قوى خارجية، بدون تلك القوى يميل الجسم دائمًا للبقاء في حركة منتظمة. لذلك فكلما ازدادت كتلة الجسم، تطلب مقدار قوة أكبر للتغيير من حركته. يتوافق هذا القانون مع خبراتنا اليوميّة، فعلى سبيل المثال، من الأسهل حمل (تحريك) حقيبتك عن تحريك مكتبك.

وعلى الرغم من ثورية وأهمية قوانين نيوتن ونجاحها في التنبوء بحركة الأجسام والقوى المسببة لها في العديد من التطبيقات حتى الآن،  لكن هناك أمرين غاية في الأهمية وجب الانتباه لهم، أولاً وفرت لنا قوانين نيوتن طريقة للتنبؤ بحركة الأجسام ولكنها لم تفسر لنا طبيعة تلك القوى المؤثرة. ثانيًا مع ظهور ميكانيكا الكم والنسبية الخاصة، اتضح لنا فشل القوانين في التنبوء بحركة الأجسام وذلك عند السرعات الفائقة أو عند اقتراب الجسم من سرعة الضوء، فبازدياد سرعة الجسم تزداد كتلته حتى تصل إلى ما لا نهاية عند بلوغ سرعة الضوء مما يخالف قانون نيوتن المعتمد على ثبات الكتلة.

قوى الطبيعة الأساسيّة

نتيجة للتطور التكنولوجي، ولتطور معرفتنا، نجحنا في تكوين فهم أعمق للكون يتجاوز حواسنا وقدراتنا، حيث قدم لنا رواد الفيزياء الحديثة ثلاث نظريات من أهم نظريات العصر الحديث: ميكانيكا الكم و النسبية العامة والخاصة، مما فتح الباب على مصراعيه للعديد من النظريات والأطروحات التي أسهمت في تغيير منظورنا للكون حتى الآن.

فبعد اكتشافنا لوجود الجسيمات دون الذريّة: الإلكترونات والبروتونات والنيترونات والنترينوات، اُكتُشِف أن تلك الجسيمات ذاتها ليست أوليّة وأنها مكونة من جسيمات أولية أخرى، وفي محاولة لفهم كيفية تتفاعل تلك الجسيمات الأولية ومن خلال الولع المتزايد لدى الفيزيائيين النظريين بتوحيد العلوم والبحث عن نظريّة تفسّر لنا كل ما يحدث في الكون، توصل العلماء لوجود  قوى تُعد أساس ومصدر كل تفاعل في الكون، من التفاعلات التى نستطيع ملاحظتها بالتجربة العملية، مثل: تحريك جسم على سطح، وحتى ما لا يمكننا ملاحظته بالعين من تفاعلات مايكروسكوبية. وتنقسم تلك القوى إلى: قوة الجاذبية والقوة الكهرومغناطيسية والقوة الضعيفة والقوة القوية.

قوة الجاذبيّة

وتُعد قوة الجاذبية الأكثر شهرًة مقارنةً بباقي القوى الأربعة، وهي قوة التجاذب بين أي جسمين في الكون، بدءًا من الجسيمات وصولًا إلى الكواكب والنجوم.

ورغم أن مصطلح الجاذبية مألوف بالنسبة لنا، لكن مفهومنا عن الجاذبيّة تغير عبر العصور. وكان نيوتن هو أول من طرح قوانين تنجح في تفسير حركة النجوم والكواكب وتتفق مع الملاحظة عن طريق قوة الجاذبية. وكان التفسير السائد حينها عن مصدر تلك القوة هو وجود فعل عن بعد (Action at a distance) أو مجال  بين الجسمين يدفعهم للتجاذب بغض النظر عن طبيعة ذلك المجال. [1]

وبعد قرنين من الزمان، قدم أينشتاين نظرية النسبية العامة ليفسر أن الجاذبية هي نتيجة لانحناء الزمكان (Space-time). يمكننا تصور مبدأ النسبية العامة إذا جربنا وضع كرة كبيرة في منتصف ورقة، سنشاهد نبعاج الورقة نتيجة لثقل الكرة وانجذاب الأجسام الأصغر لمركز الورقة المنحني.

وبالرغم من أن الجاذبية هي المسؤولة عن نظام حركة المجرات والكواكب، إلا أنها تُعد أضعف القوى الأربعة، فتأثير قوة الجاذبية  لا يذكر بين الجسيمات الصغيرة مقارنة بتأثير الثلاث قوى الأخرى، مما يزيد من صعوبة التحقق من طبيعة تلك القوة. وما زالت المحاولات مستمرة لربط النسبية العامة بميكانيكا الكم حيث يرى الفيزيائيون أن الإجابة تقبع هنا.

القوة الضعيفة (القوة النوويّة الضعيفة)

هي القوة المسؤولة عن اضمحلال الجسيمات (Particle decay) والإشعاعات الطبيعية. وعلى الرغم من أن تأثير القوة الضعيفة أكبر بكثير من قوة الجاذبيّة، إلا أن شدة تأثيرها تحدث ضمن بُعد صغير جدًا بين الجسيمين.

اكتشف الفيزيائي إنريكو فيرمي (Enrico Fermi) وجود القوة الضعيفة خلال عملية اضمحلال أحد العناصر وتحوّل نيترون من نيترونات النواة إلى بروتون، ولحفظ الشحنة في الذرة يخرج إلكترون أيضًا في التفاعل من الذرة يُسمى جسيم بيتا (Beta particle).

يرى الفيزيائيون أن طبيعة تلك القوة ناتجة عن وجود جسيمات صغيرة تدعى البوزونات (Bosons) وهي جسيمات حاملة للطاقة. والبوزونات المسؤولة عن حمل القوة الضعيفة تدعى بوزونات دبليو وزيد (W and Z bosons). وعند اقتراب جسيم مثل النيترون أو الإلكترون لمسافة تعادل 10-18 متر من بروتون مجاور، يتبادل الجسيمان البوزونات وذلك يًحدث اضمحلالًا للجسيمات ويُنتج جسيمات جديدة.

تُعد القوة الضعيفة مسؤولة أيضًا عن تفاعلات الاندماج النووي (Nuclear fusion) التي تستمد الشمس الطاقة منها. ففي عملية اندماج الهيدروجين، يصطدم بروتونان بطاقة عالية للغاية تتغلب على قوة التنافر الكهرومغناطيسية بين الجسيمين، وتعمل القوة القويّة -كما سنوضح- على ربط الجسيمين معًا، مكوّنة أنوية من الهليوم غير مستقرة. وفي وفرة من البروتونات يأتى دور القوة الضعيفة محدثة اضمحلال بيتا منتجة النيترونات اللازمة لخلق نواة هليوم مستقرة. [2]

القوة الكهرومغناطيسيّة

القوة الناتجة عن الجسيمات المشحونة بشحنة كهربية موجبة أو سالبة. وكما نعلم، فالجسيمات مختلفة الشحنة تتجاذب، و الجسيمات متماثلة الشحنة تتنافر، وكلما ازدادت الشحنة ازدادت القوة. ويمكن تقسيم تأثير القوة الكهرومغناطيسيّة إلى شقين: القوة الكهربيّة والقوة المغناطيسيّة. وكان يُعتبر تلك القوتين منفصلتين حتى اكتشف الفيزيائيون إمكانيّة توحيدهم لكونهم تمثيل لنفس القوة.

فالقوة الكهربيّة موجودة بين الجسيمات متمثلة في مجال كهربي يؤثر به كل جسيم على الآخر سواء كان الجسيم في حالة حركة أو ثبات. ولكن في حالة حركة الجسيمات تصاحب القوة الكهربيّة القوة المغناطيسيّة. ومثل البوزونات دبليو وزيد في القوة الضعيفة، فهناك بوزونات مسؤولة عن نقل القوة الكهرومغناطيسيّة وهي الفوتونات.[3]

والقوة الكهرومغناطيسيّة هي المحرك والمسؤول عن ما نختبره ونلاحظه من العديد من الظواهر، مثل عملية احتكاك جسمين أو الطاقة الكهربائيّة أو التفاعلات الكيميائيّة وترابط الذرات ببعضها البعض.

القوة القويّة (القوة النوويّة القوية)

هي القوة ذات التأثير الأكبر في قوى الطبيعة، فهي القوة المسؤولة عن ربط الجسيمات الأولية، مثل: الكواركات (Quarks) ببعضها لتكوين الجسيمات الأكبر مثل: البروتونات والنيترونات، كما تقوم بربط البروتونات والنيترونات ببعضها وتُدعى حينها البوزونات والمسؤولة عن حمل القوة القويّة بالجلونات (Gluons)، ولنتخيل مقدار تأثير القوة القويّة مقارنة بالقوى الأخرى، نجد أنه حتى تترابط البروتونات والنيترونات معًا في النواة تحتاج إلى قدر صغير من القوة القوية -القوة اللازمة لترابط الكواركات- ورغم ذلك المقدار الضئيل فهو أكبر من قوة التنافر بين البروتونات، مما يحافظ على البروتونات مترابطة في النواة.

الغريب بالنسبة للقوة القوية، هو أنه على عكس باقى القوة فشدة القوة تزداد بزيادة البعد بين جسيمين، لذلك فمحاولة فصل كواركين تعتبر مستحيلة حيث تحقيق عملية كهذه يتطلب قدرًا هائلًا من الطاقة. [4]

محاولة لتوحيد قوى الطبيعة

يسعى الفيزيائيون الآن إلى إيجاد الترابط بين الأربع قوى الذي يسمح للتعبير عنهم في قوة واحدة، ونجح الفيزيائيون ستيفن واينبرغ (Steven Weinberg) ومحمد عبد السلام وشيلدون جلاشو (Sheldon Glashow) في طرح أول النظريات الموحّدة -بعد توحيد القوة الكهربيّة والمغناطيسيّة- التي توضّح إمكانيّة اعتبار القوة الكهرومغنطيسيّة والقوة الضعيفة مظهرين لقوة واحدة سموها بالقوة الكهروضعيفة، مما أدى لمنحهم جائزة نوبل، ويعمل الآن الفيزيائيون على إيجاد نظرية توحد القوة الكهروضعيفة مع القوة القوية، حيث وُضِعت نماذج لتصوّر ما يمكن أن تكون عليه قوة كتلك ولكن لم يُلاحظ حتى الآن، كما يوجد تحديات وصعوبات في محاولات ربط وتوحيد الثلاث قوى بقوة الجاذبيّة. [5]

العثور على قوة جديدة

في هذا العام ادعى فيزيائيون إمكانيّة اكتشاف قوة خامسة جديدة منبعثة من ذرة الهليوم، سبقهم لذلك باحثون آخرون بمعهد البحوث النوويّة بالمجر، حيث لوحظ وجودها أثناء اضمحلال نظير البريليوم، كما أطلقوا على البوزون الحامل لتلك القوة اسم إكس-17 (X17)، وإذا أُكّد ذلك الاكتشاف فسيساهم في حل مشكلة المادة المظلمة.[6]

 

المصادر:

 

  1. Action at a Distance & Explanation [Internet]. [cited 2019 Dec 29].
  2. Available from: https://www.youtube.com/watch?v=n03zFl91lj8
  3. December 24 JL-LSC, 2014. What Is the Weak Force? [Internet]. livescience.com. [cited 2019 Dec 29]. Available from: https://www.livescience.com/49254-weak-force.html
  4. October 01 JR, 2019. The Four Fundamental Forces of Nature [Internet]. Space.com. [cited 2019 Dec 29]. Available from: https://www.space.com/four-fundamental-forces.html
  1. What Is the Strong Force? | Live Science [Internet]. [cited 2019 Dec 29].
  2. Available from: https://www.livescience.com/48575-strong-force.html
  3. Soni N, Adelaide U of. Unification of forces [Internet]. symmetry magazine. [cited 2019 Dec 29].
  4. Available from: https://www.symmetrymagazine.org/article/june-2013/unification-of-forces
  5. Pulsar Limits “Fifth Force” Interactions with Dark Matter [Internet]. Sky & Telescope. 2018 [cited 2019 Dec 29]. Available from: https://www.skyandtelescope.com/astronomy-news/pulsar-limits-hypothetical-fifth-force-dark-matter/

 

 

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي