كان الصراع بين العلم وبين سلطة رجال الدين طويل الأمد ومتعدد الفصول، وأشهر فصول هذا الصراع هو الصدام ما بين الكنيسة والعالم الإيطالي الشهير «جاليليو جاليلي» الذي عاش في نهاية القرن السابع عشر الميلادي، في فترة عُرفت في التاريخ الأوربي بعصر النهضة، تلك الحقبة التي تحرر فيها العقل الأوروبي من سيطرة الكنيسة على العلم والفلسفة، وقد كان السجال بين جاليليو وبين الكنيسة، ثم محاكمته المشهد الأهم في ذلك الصراع الطويل لأنها كانت واحدة من أهم أسباب نهاية سيطرة الكنيسة على العلم، والسؤال هنا: ما فحوى هذا الصراع؟ ولماذا حاكمت الكنيسة جاليليو في تلك الفترة الحرجة من تاريخها؟
النشأة والدراسة
جاليليو من أبناء مدينة بيزا الإيطالية، درس في بداية حياته الطب بضغطٍ من والده، ولكنه تعرَّف إلى الفلسفة والرياضيات والفلك، وكان شغفه الأكبر دراسة اليونانية واللاتينية والشعر والموسيقى والرسم. أما في الفلسفة فقد كان يميل إلى أفلاطون كثيرًا ويقرأ محاوراته الشهيرة بشغف كبير، وكانت المرحلة التالية في حياته هي الدراسة والتدريس في الجامعة، وقد كان يعرض لعلم الفلك ويشرحه اعتمادًا على الطريقة القديمة ووفقًا لنظرية «بطليموس» القائلة بمركزية الأرض؛ أي ثباتها في مركز الكون ودوران الأفلاك والأجرام من حولها ومنهم الشمس، تلك الفرضية القديمة التي أخذت بها الكنيسة على أساس أنها تتفق مع ما جاء به الكتاب المقدس، ورغم ذلك فقد كان يميل بداخله للفرضية الحديثة التي قال بها العالم البولندي «نيكولاس كوبرنيكوس»، والتي تقول بمركزية الشمس ودوران الأرض حولها، وأن ذلك الافتراض يجعل دراسة الفلك أكثر سهولة ودقة من الافتراض القديم القائل بالعكس، لكنه كان يكتم ذلك كأغلب أساتذة عصره خوفًا من افتعال الصراع مع سلطة الكنيسة.
السنة الحاسمة
كانت اللحظة الحاسمة في حياة جاليليو هي سنة 1609 ميلاديًا، عندما قام بتطوير جهاز التلسكوب مما ساعده على رؤية القمر والأودية الموجودة فيه، واستطاع أن يلاحظ أقمار المشتري الأربعة، وحدد قانون حركتها، وفي نفس العام نشر كتابه «رسول النجوم» الذي عرض فيه لتلك الاكتشافات، والأهم إعلانه الانحياز لفرضية كوبرنيكوس عن مركزية الشمس، وقد حقق هذا الكتاب نجاحًا عظيمًا، وفي أواخر العام انتقل لمدينة فلورنسا، وأعاد تجربة التلسكوب، فاكتشف وجود «كَلَف الشمس» واستنتج من حركته فوق قرص الشمس دوران الشمس حول محورها، وبالتالي بطلان الرأي الشائع وقتها عن العالم السماوي، والذي يعود للفيلسوف اليوناني أرسطو، وقد دعا أتباع أرسطو للنظر بالتلسكوب للسماء ليراجعوا موقفهم، وبعضهم رفض حتى النظر من شدة تعصبه للمذهب القديم عن السماء.
تفسير الدين وتصاعد الأزمة
وفي عام 1611م ذهب جاليليو لروما، وأحسن البابا وقتها وفادته، بل لقد أحتفى به فلكيو المعهد الروماني، ولم تبدأ الأزمة الشهيرة أثناء وجوده في روما، فبعد عودته قام أحد علماء الفلك في وقتها بتأليف كتاب يتهم فيه جاليليو بمخالفة الكتاب المقدس، فرد عليه جاليليو في رسالة ونفى التهمة عن نفسه، وذلك عن طريق تأويله لنصوص الكتاب المقدس لكي يثبت أنها تتفق مع أفكاره العلمية الجديدة، ولم يكتفي جاليليو بذلك فألف عدد من الرسائل في الدين والتأويل، وانتقد احتكار كهنة الكنيسة لتفسير الكتاب المقدس. تَسبَّبت تلك الخطوة من جانب جاليليو في إثارة رجال الكنيسة ضده، ففي الخامس من فبراير لعام 1615م أحال أحد الرهبان تلك الرسائل للديوان التابع للكنيسة والمكلف بمراقبة الكتب في ذلك الوقت، فقام الديوان بالتحقيق مع جاليليو، وقد تدخل أساتذة عصره أثناء الأزمة، منهم «دلمونتي» الذي رشحه للأستاذية، وصديقه «باربريني» الذي سيصبح فيما بعد بابا الكنيسة الملقب «بأوربان الثامن»، وهم نصحوا جاليليو أن يقتصر في كلامه على التدليل والشرح العلمي فقط، ويعرض نظريته على أساس أنها فرض أكثر دقة وبساطة من الفرض القديم لبطليموس، ويترك تفسير الآيات في الكتاب المقدس لرجال الدين والكهنوت، لكن لم يستمع جاليليو لتلك النصيحة، ونشر تفسير جديد لبعض الآيات، فأعلن ديوان المراقبة له بالكف عن الجهر برأيه في الدين، فوعدهم بالامتناع، ونتيجة لتلك الأحداث أصدر الديوان في عام 1616م قراره المشهور بمنع كتاب كوبرنيكوس عن مركزية الشمس والذي كان بمثابة الملهم لجاليليو.
محاكمة جاليليو
وفي عام 1618م ظهر نجم مذنب في السماء، فنشر جاليليو مقال عن المذنبات، فرد عليه واحد من أساتذة المعهد الروماني، فكان رد جاليليو كتاب «المحاول» الذي انتقد فيه بشدة علم الفلك القديم، وبعد ذلك السجال بسبع سنين نشر جاليليو أهم كتبه وأشهرها على الإطلاق «حوار لأربعة أيام متوالية عن أهم نظريتين في العالم»، وفي هذا الكتاب قام بالمقارنة بين نظرية كوبرنيكوس التي يدافع عنها، وبين نظرية بطليموس التي تأخذ بها الكنيسة، وهنا عقد البابا لجنة لفحص الكتاب، وطلب ديوان التفتيش جاليليو للمثول أمامه، وكانت نتيجة التحقيق هو إعلان إدانته وخروجه عن الدين لقوله بمذهب جديد ينافي ما جاء في الكتاب المقدس، وطلبت اللجنة منه التراجع عن ذلك، وقد تراجع جاليليو ليحمي نفسه من عواقب الإدانة رغم عدم اقتناعه بمذهب الكنيسة، ومن الطرائف التي تُروى عن ذلك المشهد الشهير أن جاليليو بعد تراجعه ضَرب الأرض بقدمه وقال: «لكنها تدور!». كان الحكم على جاليليو يقضي بالحبس لكن البابا تركه يعود لمدينة فلورنسا، فعاش هناك «كسجين شرف»، وأكمل أبحاثه الرياضية، ونشر كتابه الهام «مقالات في علمين جديدين»، وهو يحوى أصول ومنهج العلم الحديث، وتوفى في يناير 1642م بعد إصابته بالعمى.
إن نظرة فاحصة لما جرى بين جاليليو وبين الكنيسة من صراع، يكشف أن جوهر الصراع لم يكن في حقيقته عن المكتشفات الحديثة، فقد رأينا كيف أحسن البابا والمعهد الروماني في بداية الأمر استضافته، ولكن كان جوهر الخلاف هو إحساس الكنيسة ورجال الدين في وقتها باحتكارهم للحقيقة والكلام نيابةً عنها سواء كانت تلك الحقيقة خاصة بالدين أو بالعلم. لقد نازع جاليليو الكنيسة على تفسير الدين وقد كان هذا مرفوض تمامًا من الكنيسة، لأنها كانت تعتبر نفسها الممثل والمفسر الوحيد لما يقوله الكتاب المقدس، لذلك لم تقبل أبدًا بما حاول جاليليو القيام به.
إعداد وكتابة: مصطفى ماهر
مراجعة: مايكل ماهر
المراجع:
-
جاليلو جاليلي، آراء ومكتشفات جاليليو، ترجمة: فتح الله الشيخ
-
تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم، الفصل الخاص بجاليليو