تناولنا في الجزء السابق كيف نشأ التاريخ كعلم، ذاكرين أهمَّ تعريفاته الشائعة. ووَضَحَ لنا كيف أن دراسة التاريخ ليست بالأمر السهل، بسبب خصوصيته الشديدة كعلمٍ يتناول الجوانب الأكثر حساسية، بل وجدلًا، في السجل الإنساني، وكيف أن وجود الإنسان في قلب أيِّ مبحثٍ يجعل من الصعوبة بمكان الالتزام بالحيادية والشفافية التي يتطلبها العلم الساعي للحقيقة. كلُّ هذا جعل المحاولات الأولى لقولبة التاريخ الإنساني مُشبعةً بالتفسيرات الخارقة والأسطورية، لكن مع تراجع دور الكهنوت وبزوغ عصر العلموية والعلوم الطبيعية الحديثة في أوربا، بدأت مدارس جديدة في الظهور، مدارس نظرت إلى الإنسان كظاهرة طبيعية غير مكتشفة، وإلى تاريخه كتفاعلٍ كيمائيٍّ لا يخلو من القوانين، وحياته كمعادلةٍ رياضيِّةٍ ذات نتيجة متوقعة، وإلى العقل، العقل وحده، كالمعيار الوحيد المقبول.
في هذا الجزء نتابع من حيث توقفنا، ونواصل رحلتنا عبر تاريخ البشر، وتاريخ تأريخهم…
ثالثًا : الاتجاه الوضعي في تفسير التاريخ
ذكرنا في بداية هذا المقال أن افتقار التاريخ للقواعد المنهجية الموجودة في العلوم الطبيعية مثّل قصورًا أعاق تقدمه كعلمٍ مستقل من وجهة نظر بعض المفكرين، ومن ثم عندما برزت العلوم الإنسانية نتيجة «للثورة التجريبية» في القرنين ال18 و19، كان لعلم التاريخ نصيبًا من النظم الجديدة.
خضع علم التاريخ لهمينة (الوضعية –(positivism من أواخر القرن التاسع عشر حتى بدايات القرن العشرين، وكانت ألمانيا هي موطنه الأصلي، ومن أهم المؤرخين الوضعيين الألمان في تلك الفترة (تيودور مومسان–Theodor Mommsen)، والوضعية أو العلموية تعني الإيمان المطلق بقدرة العلوم التجريبية على معرفة كل الأشياء وحل كل القضايا. دعم ذلك الفكر الإنجازات التي حققتها العلوم التجريبة في مجالاتٍ شتَّى.
يطالب الفكر الوضعي الإنسان بأن لا يهمل أفكاره السابقة المعتمدة على التفسيرات الطبيعية للظواهر التاريخية، وهو بذلك يستبعد كافة التفسيرات الغيبية والأسطورية للتاريخ. كان للأوضاع السياسية المتقلبة في أوروبا في الربع الأخير من القرن الـ19 أثر كبير على المؤرخين والمفكرين أنذاك، إذ أصبح السؤال الذي يشغل بالهم هو: أليس وراء هذه الفوضى منطقٌ مستتر؟ وذهبوا إلى أن الحياة التاريخية لا ترعاها إرادة إلهية، وإنما صار الإنسان فيها هو صاحب الإرادة الحرة يفعل بها ما يشاء(9).
تأثر المؤرخون بشكلٍ خاص بعالم الاجتماع الفرنسي (أوغست كونت –Auguste Conte)، ووضعية كونت هي نظرية تطورية، تقوم على أساس أن كل إنسان أو مجتمع أو فرع معرفي لا بد أن يمر بثلاث مراحل وهي: المرحلة اللاهوتية؛ والمتمثلة بالشغف بالمسائل التي لا حل لها، أي المعارف المطلقة. والمرحلة الميتافيزيقية؛ ويراها كنوع من المرض الذهني، وتعني الاعتقاد بقوًى وكياناتٍ قادرةٍ على صنع كل الظواهر؛ كالدولة أو حقوق الإنسان مثلًا. وأخيرًا المرحلة الوضعية؛ وهي مرحلة العلم، وفيها يتخلى الإنسان عن محاولة البحث عن أصل الكون ومصيره، ويعتبر أن دوره يقتصر على تحديد القوانين التي تُسيِّر الظواهر الطبيعية اعتمادًا على التجربة.
واعتبر كونت أن هنالك إمكانية للتنبؤ في التاريخ، والحصول من الحوادث الفردية على نتائج يمكن تعميمها، كما يحدث في الفيزياء، وإن كان بدرجةٍ أقل دقة. وأكَّد كونت على أن علم التاريخ ينبغي أن يسعى لاكتشاف قوانين حركة المجتمع من خلال تحليل القوى التي أحدثت التغيير سواء كانت روحية أو اجتماعية أو اقتصادية.
تتمثل أهم مميزات هذا الاتجاه بإيمانه بأهمية الوثائق المكتوبة كمصدر للمعلومة التاريخية، ومن ثم فالمؤرخ الوضعي يحرص على إثبات الأحداث بطريقةٍ موضوعية ونقدية، ويشدد على ضرورة الفصل بين الأهواء الشخصية للمؤرخ ومعتقداته وبين الواقع.
وأهم مواطن القصور في هذه النظرية أن الظاهرة الإنسانية لا يمكن أن تخضع لذات القواعد التي تحكم العلوم الطبيعية مهما حاول المؤرخ تطبيقها، وثانيًا هو وقوع المؤرخين الوضعيين في فخ التحيز، مما أثبت صعوبة الفصل الكامل بين أهواء المؤرخ وكتاباته.
رابعًا: المدرسة المثالية في التاريخ
ويمثل هيجل (1770-1831) هذه المدرسة خيرَ مثال. يَعتبِر هيجل أن العقل هو أساس الوعي والمعرفة، وأن الواقع هو انعكاس للأفكار التي ينتجها العقل. يؤكد هيجل أيضًا على أن العقل البشري هو الذي يحدد مسار التاريخ، فعندما كان يسير «العقل الكلي» الأوروبي نحو التحرر الشامل، والتقدم تجاه العلم، كان لا بد للمنطق التاريخي الذي يخضع لهذا العقل أن يثير صراعاتٍ بين الكنيسة المتزمِّتة في ذلك الوقت وبين التيارات الفكرية التنويرية الجديدة التي تمثل هذا العقل. أي إن التقدم يحدث من خلال (الديالكتيك -Dialectic)، والذي يتجلَّى في صراع الأفكار المتضادة والمتعارضة(10).
إن تفسير التاريخ عند هيجل يقوم على النظر لكل فترة نظرة مستقلة باعتبارها وحدة قائمة بذاتها، وعلى اعتبار المجموع الحي حصيلة ملامح اجتماعية وسياسية واقتصادية وأخلاقية وعقلية ودينية، تؤدي في النهاية لكيانٍ متجانس. وفي كل فترة -عند هيجل- تُولَد فكرة رئيسة، وكل فكرة تلد نقائضها وأضدادها. ويستمر الصراع بشكلٍ آلي ومتلاحق، فتتحد المتناقضات مُولِّدةً المجموع الحي (الموحد) ليندفع مرةً ثانية لحدهِ الأقصى حتى يصل إلى المطلق، وفلسفة هيجل بذلك مزيجٌ من المتناقضات.
خامسًا: الاتجاه المادي (الماركسي)
شهدت أوروبا منذ أواسط القرن الـ19 هزاتٍ اقتصادية وسياسية عنيفة ناجمة عن رواج مفاهيم التحرر والديمقراطية والتناقضات الاقتصادية والفروق الطبقية الشاسعة كإحدى نتائج الثورة الصناعية.
وتعترف الماركسية بأنها نظرية مادية؛ فهي على عكس المثالية، تُقر بأن الوجود المادي هو الذي يحدد الوعي ومن ثم الحركة والأحداث. وفضلًا عن ذلك، فالماركسية هي نظرية جدلية؛ أي تقوم على الاعتقاد بأن كل ظاهرة تحمل في داخلها الشيء ونقيضه(11).
ذلك هو التفسير الذي قدمه كارل ماركس (1818-1883)، وفريدريك إنجلز (1760-1895)، حيث تهتم في المقام الأول بدراسة المتناقضات والتي تنتج عنها حركة التاريخ. حيث تؤمن الماركسية بأن البشر لا يخلقون القوانين الاجتماعية، وإنما يتدخلون للتأثير فيها فحسب، وهو ما يسمي ب«المادية التاريخية» .
تؤمن المادية الماركسية كذلك بأن ظروف الإنتاج وعلاقاته هي القاعدة التي بنيت عليها القوانين والأنظمة والتشريعات، وأن تاريخ البشرية هو تاريخ صراع بين الطبقات. فالطبقية هي الأساس الذي يقوم عليه المجتمع، وهذه الطبقية تؤدي لتفضيل بعض الطبقات عن غيرها، وهى التي تملك الموارد والسلطة، وتحدث حركة التاريخ عندما تحاول جماعة ما تغير وضعها الطبقي، حيث إن الجماعة عنده هي الحقيقة، ولا وجود مستقل للأفراد، والتاريخ لا يسيره العقل المطلق، ولا تصنعه عبقرية العظماء، وإنما هو عملية تطور وصراع اجتماعي داخلي، ومن يملك وسائل الإنتاج والثروة يستمتع بالثمرة ويفرض سلطانه على الآخرين(12).
إن غاية التفسير المادي للتاريخ ليست تحليل الماضي بقدر ما تهدف إلى فهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل.
لقد استهدف ماركس بيان تناقض النظام الرأسمالي، وتهافته وحتمية انهياره، ثم بشَّر بالشيوعية أو المجتمع اللاطبقي. ومن هنا فإن نظريته ليست دراسة موضوعية للأنظمة الاجتماعية في تطورها التاريخي لاستكشاف أسباب قيامها وانحلالها، وإنما تحليل للرأسمالية وانهيارها والتنبؤ بالشيوعية. وفي ضوء ذلك قَدَّمَ تفسيرًا للماضي منذ أقدم العصور. حيث أكَّد ماركس أن المجتمعات ارتقت من الشيوعية الأولى إلى الإقطاع والعبودية ثم الرأسمالية، وبعد ذلك الاشتراكية، وفي النهاية ستعود حالة الشيوعية، وأن أساس تطورها كان أسلوب الإنتاج والتبادل والتنظيم الاجتماعي الناجم عنه بالضرورة. وبذلك يمكن تفسير التاريخ، فنحن خالقون للتطور ومخلوقون منه، ونتاج للماضي وسبب للمستقبل.
واعتبر أن التاريخ محكومٌ بقوانين حتمية تتعلق بطبيعة العمل والإنتاج وأسلوب توزيع الثروة، وأن الثروة تنتج عن العمل، وأن العمل يقوم به من يعملون بأيديهم أو بعلمهم، وأن ثماره لا بد أن تعود عليهم، وإن لم يحدث.. اِختلَّ توازن المجتمع واحتاج الأمرُ إلى ثورة.
المصادر :
.9- التيمومي، الهادي، المدارس التاريخية الحديثة، 81، 2013.
10- زناتي، مرجع سابق، 91
11- زناتي، مرجع سابق، 101.
12- التيمومي، مرجع سابق، 121.
رابط الجزء الأول :
https://www.egyres.com/articles/مدارس-تفسير-التاريخ-الجزء-الأول-الدي
#الباحثون_المصريون