فلسفة المدرسة و سبب نشأتها:
في عصرنا الحاليّ نعرف صعوبة إيجاد فكرة أصلية جديدة، فكل حبكات الروايات قد كُتبت من قبل، وكل جملة موسيقية جيدة قد عُزفت من قبل، وكل فكرة جديدة قد قُدمت من قبل، وكل مشهد يمكن تصويره قد صُور من قبل، كل طريق قد اتُبع و كل مكان قد استُكشف، فما الجديد الذي يمكن أن نقدمه للإنسانية؟
تسود هذه الحالة المجتمع بعد المرور بزمن عظيم قدمَ فنانين وعلماء وأدباء عِظام فيجد الجيل التالي نفسه في مُعضلة، ماذا يمكننا تقديمه أفضل من ما قدم السابقون؟
من هنا بدأت مدرسة «المانيرزم-Mannerism» و التي توسطت الفترة ما بين نهاية مدرسة النهضة الفنية و بداية مدرسة الباروك، فبعد عصر قدم لنا ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو ورافايل وغيرهم الكثير من الفنانين الغير مسبوقين والذي يصعب مضاهاتهم فما بالك بالتفوق عليهم، وجد فناني الجيل اللاحق أنفسهم في معضلة كيف نتفوق على المثالية؟
ففيما أتقن فنانو النهضة محاكاة الجسد البشري والتعابير الإنسانية والمنظور واستخدام الظل والنور والبناء الهندسي للوحات ونقاء اللون والمشهد، وجد جيل المانيرزم أنفسهم أمام حل وحيد كي لا يبقوا مقلدين إلى الأبد ألا وهو المبالغة.
فردًا على ولع فناني عصر النهضة بالتناغم والنقاء ومحاكاة الطبيعة واهتمامهم بالموضوعات المقدمة أكثر من تقنية تنفيذ هذه الموضوعات ولا يعني ذلك عيبٌ في التقنية بل التفوق فيها بحيث لم يعد الفنان يحتاج لإثبات براعته، قدس فنانو المانيرزم الأسلوب و جعلوه مقصد العمل فاستغنوا عن محاكاة الواقع والنقاء اللوني على حساب السلاسة التقنية و سطوع الألوان، كما جردوا مساحة العمل من البناء الهندسي واستخدموا توزيع العناصر ليخدم فكرهم الأرستقراطي شديد التعقيد و البعد عن التماثل (السيمترية) والواقعية.
النشأة والتسمية:
نشأت مدرسة المانيرزم أولاً في فلورنسا حوالي عام 1520 وانتشرت إلى شمال إيطاليا ثم إلى وسط و شمال أوروبا، ومصطلح مانيرزم يعني «تأنُق» مشتق من كلمة (Manierismo) الإيطالية المشتقة من (maniera-manner) أو بالإنجليزية (style) و تعني نمط أو طريقة، واستُخدم المصطلح لأول مرة في نهاية القرن الثامن عشر من قِبل عالم الأثار الإيطالي «لويجي لانزي -Luigi Lanzi» لوصف جيل الفنانين الذين أتوا بعد سادة عصر النهضة.
ويمكن تقسيم مدرسة المانيرزم الفنية إلى قسمين: (المانيرزم المبكر- Early Mannerism) منذ عام ( 1520 إلى 1535) و تعرف هذه الفترة بإسم (الكلاسيكية المضادة- anti-classical) ثم تطور هذا الاتجاه إلى (المانيرزم الأعلى- High Mannerism) منذ عام (1535 إلى 1580) و هو اتجاه أكثر تعقيدًا، ذو أسلوب مغرق في الأرستقراطية الفكرية ويهدف إلى جذب جمهور ورعاة فنون أكثر ثراءً.
المانيرزم والنحت:
لاقى النحت حظًا أوفر من التصوير في مدرسة المانيرزم فكانت أعمالهم أكثر تعبيرية من أسلافهم نحاتي النهضة كما سبَبَ الاهتمام بالأسلوب والتقنية في تقديم أعمال نحتية عظيمة و نحاتين متفوقين مثل: (جيامبولوني-Giambologna) و(بينفينوتو سيليني-Benvenuto Cellini) و(فرانشيسكو بريماتيكو -Francesco Primaticcio) و(أدريان دي فريس- Adriaen de Vries).
سمات المدرسة:
١- التصنُع والمبالغة الفنية لصقل العناصر على حساب الموضوعات و بناء العمل.
٢- البراعة التقنية المقصودة لذاتها.
٣- الانغماس في التأنق والأرستقراطية، و الغرابة التعبيرية.
٤- التركيز على رشاقة الأشخاص في العمل والميل إلى مط وتطويل الاطراف، وتصغير حجم الرؤوس، وملامح الوجه الدقيقة المنمقة.
٥- أوضاع الاشخاص مسرحية وشديدة التعقيد يصعُب محاكاتها في الواقع.
٦- التسطيح والاستغناء عن المنظور، بحيث يظهر الأشخاص وعناصر العمل كتشكيلات زخرفية مضافة إلى خلفية مسطحة غير واضحة الأبعاد.
٧- ميل إلى استخدام الألوان الساخنة المتوهجة والبعد عن الألوان الطبيعية أو الهادئة.
٨- استخدام طريقة شبه فوضوية في توزيع عناصر العمل الفني وغرابة العلاقات بين عناصر العمل الواحد، جعل ذلك هذه الاعمال تبدو متشنجة ومفتعلة كأوهام بصرية غريبة وغير واقعية.
نهاية المدرسة:
احتفظت هذه المدرسة الجدلية بمستوى عالٍ من الشعبية الدولية حتى أتت نهايتها على يد (أنيبالي كاراتشي-Annibale Carracci) و(كارافاجيو-Caravaggio) حوالي عام 1600م اللذان بشرا بالصعود الطويل لمدرسة الباروك، فيما بقت مدرسة المانيرزم لفترة طويلة بعد ذلك في أسفل سلم الفنون و ينظر لها على أنها نوع فن فوضوي سيء أو مجرد انحدار من الإنتاج السامي لعصر النهضة.
لكن في بداية القرن العشرين عاد أسلوب المانيرزم ليكون موضع تقدير من جديد فقدرت البراعة التقنية وأناقة الأسلوب وصقل العناصر والتجريب في التنفيذ والأشكال الذي ميز المدرسة كما لاحظ نقاد العصر الحديث القلق النفسي البادي في اللوحات والأفكار الجمالية المعقدة قد أضفوا عناصر جذابة مثيرة للاهتمام لتلك الاعمال، كما أنها ذات صلة بالاتجاهات التعبيرية الحديثة من حيث الفكر والتجريب.
أمثلة من الاعمال:
اسم العمل: (الثالوث المقدس – Holy Trinity)، 1579.
الفنان: (الجيركو- El Greco).
رسمت بين 1577و1579 كمذبح لكنيسة )سانتو دومينجو ايل انتيجو- (Santo Domingo el Antiguo في توليدو بأسبانيا، و تقع الآن في متحف (برادو- Prado)، ويصور الجيركو المسيح الصاعد إلى السماء من رحلته المحفوفة بالمخاطر على الأرض، يمثل الثالوث الله الآب يحتضن الجسد الميت لأبنه المسيح، ويرمز إلى الروح القدُس بحمامة تعلو الرؤوس، ويحيطهم ستة ملائكة يبدو عليهم الحزن وتحت أقدام المسيح مجموعة من الوجوه الصغيرة التي تبدو لأطفال أو ملائكة والتي يمكن تفسيرها كدلالة على وجود الجمع في عالم الموتى أو العالم الآخر لذا نجد أن أسفل اللوحة ملون بالألوان الباهتة الباردة في حين أعلى اللوحة ملون بالأصفر الساطع كدليل على السماء ورحلة الصعود، نرى هنا الاستطالة الظاهرة على جسد المسيح والجمع المحيط به كما نرى الوجوه تعلوها الملامح الصغيرة التي تميز مدرسة المانيرزم كما نرى تسطيح المشهد وعدم وجود أبعاد محددة له، وأوضاع الأجساد المتراكمة الغريبة، جديرٌ بالذكر أيضًا أن الجيركو قد أستلهم هذا العمل من نقش سابق للفنان (البريخت درور- Druer Albrecht).
اسم العمل: (يوسف في مصر-Joseph in Egypt)، 1518.
الفنان: (بنترومو-Pontormo).
اللوحة تنتمي إلى سلسلة من أربعة مشاهد بعنوان (حياة يوسف العبرية)، هي الآن في المتحف الوطني بلندن، رُسمت لتُزين غرفة زواج (فرانشيسكو بورجريني- Francesco Borgherini) و(مارجريتا اكسيولي-Margherita Acciaioli)، تزوجا عام 1515.
في هذا العمل نرى جمع شمل يوسف مع أسرته الأصلية، وتنقسم اللوحة إلى أربعة مشاهد: في المقدمة نرى يوسف يقدم عائلته للملك بعد أن دعاهم للإنتقال إلى مصر( وفقًا للمؤرخ الفني فاساري، الصبي الذي يرتدي عباءة وسترة بنية أسفل السلم هو الفنان برونزينو الشاب)، على اليمين نرى يوسف يجلس على عربة النصر التي يجرها ثلاثة أطفال عُراة فيما يرفع نفسه على ذراعه الأيسر ويمسك بطفل آخر بذراعه الأيمن وينحني نحو شخصية راكعة تقرأ عليه رسالة، و طفل آخر ملفوف في قطعة من القماش في مهب الريح أعلى عمود فوق رأس يوسف، فيما يشغل أعلى اللوحة عمودان فوقهما تمثالان شبه أحياء، و يملئ أعلى اليسار ووسط اللوحة حشدٌ لا يهدأ من المشاهدين يريدون رؤية ما يحدث في المقدمة، وهناك حشود غامضة أخرى في المساحة بين المبنيين في الخلفية يتكأون على صخرة كبيرة تهيمن على خلفية المشهد.
نري في هذا العمل التحرر الكامل من القواعد الفنية لعصر النهضة بل والانقلاب عليها بالكامل، فنقاء اللون قد اختفى وحل مكانه ألوان إما باهتة تميل إلى الرصاصي أو ساطعة جدًا بالبرتقالي والأحمر والأصفر ولا يوجد بناءٌ هندسي أو منطقي لتوزيع المجموعات في العمل كما لا نري منظور مفهوم ولا أبعاد متسقه للوحة، كما رُسمت جميع شخصيات العمل حتى الثانوية منها في أوضاع مسرحية غريبة أغلبها غير مفهوم وبعضهم وجوده غير ضروري أصلًا لموضوع العمل، لذا رغم براعة الفنان وإتقانه الفني وشدة تعقيد اللوحة إلا أن العمل بالكامل يبدو كحلم غريب أو هلوسة بصرية غير مفهومة.
اسم العمل: (تمثال هركليز يقتل السنتور نيسوس – Hercules slaying the Centaur Nessus)، 1599.
الفنان: (جيامبولوني – Giambologna).
يقع التمثال في (لوجيا دي لانزي-Loggia dei Lanzi) بفلورنسا، نفذ الفنان مشهد من الميثولوجيا اليونانية للبطل هركليز يقتل السنتور المُسمى نيسوس، و نرى براعة النحات المتناهية في وضع السنتور الملتف وعضلات هركليز والسنتور النافرة المجسمة وإتقان النصف الأسفل للسنتور كحصان راكع على قوائمه الخلفية، كما أن التعبير المسرحي المميز لمدرسة المانيرزم قد زاد من حدة و روعة المشهد.
إعداد: Dina Fawzy
مراجعة لغوية: Ghada Fathy
تصميم:
المصادر:
http://sc.egyres.com/RstXA
http://sc.egyres.com/WVmiZ
http://sc.egyres.com/szJ2h
http://sc.egyres.com/woalG
http://sc.egyres.com/0V2tc
#الباحثون_المصريون