استيقظَ صباحًا ونهض من سريره، ارتدى نَعله الأيمن، ثم ذهب ليأخذ حمامًا، نظّف نصف جسده الأيمن فقط، حلق نصف لحيته الأيمن، ونظر إلى المرآة بكل ثقة ليتأكّد من أنه لم يترك شيئًا من لحيته، ثم ذهب لتناول الإفطار فلم يأكل إلّا نصف الطبق الأيمن فقط، وقفت فتاته بجانب أذنه اليسرى لتخبره بشيء ما؛ فلم يلتفت إليها، ثمَّ عادت لأذنه اليمنى لتخبره الشيء نفسه؛ فتجاوب معها بصورة طبيعية.
إلى هذا الحد من الغرابة قد تبدو حياة مريض في حالة متأخرة من مرض الإهمال النصفي فدعونا نتعرف أكثر على هذا المرض:
ما هو (الإهمال النصفي – Hemispatial Neglect)؟ و ما هي خصائصه؟
الإهمال النصفي هو حالة يقل فيها إدراك المريض لِجانب من جسده وبيئته المحيطة -على الرغم من سلامة جميع حواسه وحركاته- ويركز انتباهه على الجانب الآخر، وتشير أغلب الدراسات إلى أنَّ الجزء المُهْمَل عادةً ما يكون هو الجانب الأيسر؛ وذلك نتيجة حدوث تلف في النصف الأيمن من المخ في أغلب الحالات.[1] ولعل أهم ما يُمَيز الإهمال النصفي هو: كونه غير متجانس بمعنى أنه يظهر بصور مختلفة في مختلف المرضى، فهو يختلف في طبيعته وفي مداه وفي شدته: فمن حيث الطبيعة قد يكون الإهمال حركيًا (motor neglect) فيهمل المريض تحريك جانب من جسمه رغم عدم وجود مشكلة في التوافق العصبي العضلي لأطرافه، وقد يكون الإهمال مقتصرًا على إهمال المدخلات أو المؤثرات من أصوات وروائح وصور ولمس في جانب من جسمه (sensory neglect) -رغم سلامة جميع حواس المريض-، وقد يحدث الاثنان معًا. [2]
ويتفاوت المرض أيضا في مداه: فبعض المرضى يُهملون البيئة المحيطة بهم دون أجسامهم (extrapersonal neglect)، والبعض الآخر يُهملون أجسامهم فقط (personal neglect) ، وأحيانًا يهمل المريض كلا منهما. [3]
هل يكون مريض الإهمال النصفي على وعي بمرضه؟
ليس كل مرضى الإهمال النصفي على وعي بوجود المرض، وهذا يقودنا إلى مصطلح (Anosognosia) والذي يعني عدم وعي المريض بالمرض الذي يصيبه، وأحيانًا تصاحب هذه الظاهرة ظاهرة الإهمال النصفي لارتباطهما بـ(الفص الجداري-parietal lobe) من المخ، بينما (Asomatognosia) فهي عدم إدراك المريض لجانب من جسمه، أمّا (somatoparaphrenia) فتعني عدم إدراك المريض أن هذا الجزء من جسده هو ملك له، بالإضافة إلى وجود بعض الأوهام، هذه الحالات الثلاثة قد تتواجد مع الإهمال النصفي، ولا شكَ أنّها تؤثر بشكل كبير على مسيرة العلاج. [7] [6] [5] [4]
كيف يحدث الإهمال النصفي؟
يحدث الإهمال النصفي عادة كنتيجة لسكتة دماغية تصيب (الفص الجداري-parietal lobe) من المخ، وقد يحدث ذلك في النصف الأيمن أو الأيسر، ولكنّ النسبة الأكبر تكون في النصف الأيمن، وقد يرجع ذلك إلى اختصاص النصف الأيسر للمخ بمهام اللغة بشكل أساسي [8] [4].
أمّا بالنسبة للـ(الفُصَيْص الجداري السُفلي -inferior parietal lobule ) فيعد هو الجزء الأساسي من قشرة المخ الذي يتسبب بشكل رئيسي في هذه الحالة عند تلفه، والوصلة ما بين الفص الجداري و(الفص الصدغي-temporal lobe)، ولكن كيف يؤدي تلف هذه المنطقة من قشرة المخ إلى تلك الأعراض المثيرة للدهشة؟ [9]
هناك العديد من الآليّات المختلفة التي تُساهم في تكوين الإهمال النصفي -وهذا منطقيّ بالنسبة لطبيعة المرض غير المتجانسة-، فالإهمال النصفي يرجع لمزيج من العيوب التركيبية التي تختلف بشكل دقيق من مريض لآخر، والتي تتوقف على موقع التلف الحادث في قشرة المخ وامتداده، وهذه العيوب لا يُعد كل منها على حدًى عيبًا خاصًا بالإهمال النصفي، بدليل وجودها في أشخاص لا يعانون من المرض، ولكنّ وجود هذه العيوب مجتمعة يكوّن لنا الإهمال النصفي، إنّ فهم هذه المبادئ لا يساعدنا فقط في تفسير حدوث المرض، بل والأهم أنه يساعدنا في إيجاد علاج له.
ولمحاولة تبسيط العناصر التي توصّل العلماء أنها المسؤولة عن الإهمال النصفي سنفترض أنَّ المريض أصيب بسكتة دماغيّة في النصف الأيمن من المُخ؛ فيكون الإهمال النصفي في الجانب الأيسر، وسنُقسم العناصر المُسببة للمرض إلى عناصر لها علاقة بناحية الإصابة في النصف الأيمن من المخ (spatially lateralized defects)، وأُخرى ليس لها علاقة بناحية الإصابة (non-spatially lateralized effects)، بالنسبة للعيوب المُتعلِّقة بناحية التلف فإنّ العلماء توصلوا إلى عيبين أساسيين: الأول عدم القدرة على توجيه الانتباه إلى الجانب الأيسر نتيجة تلف الجانب الأيمن (فكما هو معروف أن كل نصف من المخ يُسيّر أعمال النصف الآخر من الجسم بشكل أساسي)، ولكنّ العلماء اختلفوا، هل المخ -نتيجة إصابة جانبه الأيمن- يصرف الانتباه عن الجانب الأيسر بشكل داخلي؟ أم أنّ إصابة الجانب الأيمن تجعل الأشياء الموجودة في الجانب الأيسر من الفراغ تخسر المنافسة أمام الجانب الأيمن من الفراغ؟، والعيب الآخر هو نقص تمثيل النصف الأيسر من البيئة المحيطة ومن الجسم في النصف الأيمن من المخ، وبالتالي فإن الإشارات العصبية التي تصل من الجانب الأيسر إلى نصف المخ الأيمن لا يتم ترجمتها بشكل صحيح، فيهمل المريض الجانب الأيسر، وهناك عيوب ليس لها علاقة بناحية التلف تساهم أيضًا في تكوين المرض، كضعف الاحتفاظ بالتركيز، وعيوب في الذاكرة المكانية حتى في النسق الرأسي، وغيرها من العيوب، إلّا أنَّ الأبحاث أثبتت أنَّ بعض هذه العيوب حتى وإنْ وُجِدت مع بعضها فإنها لاتسبب الإهمال النصفي، وأنها تساهم في المرض فقط إذا وجدت مع العيوب المُتَعلِّقة بناحية التلف؛ فتزيد من شدة هذه العيوب. [4]
كيف يتم تشخيص مريض الإهمال النصفي؟
يمكن تشخيص مريض في حالة متأخرة، فقط بملاحظة سلوكه اليومي الذي يهمل جانبًا، ويركز انتباهه على الجانب الآخر (الأيمن غالبًا)، ولكن ليست كل حالات المرض بهذه البساطة: فمن المهم تحديد درجة الإهمال فذلك يساعد في تقييم مسيرة المرض، فكثير من المرضى الذين يصابون بالمرض عقب السكتة الدماغية يتحسنون في غضون أسابيع قليلة، ولكنَّ البعض الآخر تستمر عنده أعراض المرض فيحتاج إلى إعادة تأهيل، ومن المهم التعرف على الحالات التي لا تُظهر تحسنًا ملحوظًا، حتى يتم توجيهها سريعًا إلى وحدات إعادة التأهيل المُختصّة.
ما هي إذًا الاختبارات التي تُستخدم لتشخيص حالات الإهمال النصفي؟
أشهر هذه الاختبارات هي نسخ الرسوم (شكل2-أ)، رسم الساعة (شكل2-ب)، حيث يقوم مريض الإهمال النصفي بنسخ النصف الأيمن فقط من الرسم ووضع جميع أرقام الساعة في النصف الأيمن من الدائرة. وهذان الاختباران يستطيعان التعرف على 70% من مرضى الإهمال النصفي بشكل سريع، إلَّا أنَّ لديهما بعض العيوب منها عدم الحساسية، وأنَّ بعض الأمراض الأخرى قد تعطي معهما نفس النتائج، بالإضافة إلى عدم إمكانية إجرائهما بشكل تدريجي.[4]
ولحسن الحظ فإن هناك بعض الاختبارات الأخرى البسيطة التي يتم تنظيمها في مجموعات لتكون أكثر دقة لتشخيص الإهمال النصفي، ومن أهم هذه الاختبارات اختبارات الحذف (شكل2-ج) ،وهناك إصدرات عديدة متاحة من اختبارات الحذف، جميعها يتطلب البحث عن العنصر المطلوب في ورقة توضع أمام المريض -سواء كان هذا العنصر رقمًا أو حرفًا أو رمزًا- وشطبه باِستخدام القلم، بعض اختبارات الحذف بسيطة وتحتوي على العناصر المطلوبة فقط، والبعض الآخر يكون أكثر تعقيدًا ويحتوي على رموز كثيرة مختلفة مرسومة بصورة غير منتظمة لتشتت الانتباه، وبالطبع فإنّ اختبارات الحذف المُعقّدة والموجودة في شكل مجموعات تكون أكثر دقة في كشف مريض الإهمال النصفي، فإذا كان المريض يهمل الجانب الأيسر؛ فسوف يظهر بشكل ملحوظ أنه يقوم بأداء جميع مهام الحذف في النصف الأيمن من الورقة، بينما لا ينجز تقريبًا أي حذف في النصف الأيسر، وسوف نلاحظ أيضا أن مريض الإهمال النصفي يبدأ في قراءة الورقة من اليمين، في حين يبدأ الشخص السليم في قراءتها من اليسار لكونها مكتوبة باللغة الإنجليزية. وبالرغم من الدقة العالية لمجموعات اختبارات الحذف، فإنّ قليلًا من المرضى يستطيعون اجتيازها، لذلك لا يجب الاعتماد على نوع واحد من الاختبارات في تشخيص الإهمال النصفي. [4]
هناك أيضًا اختبار آخر يستخدم ورقة بيضاء مرسوم عليها خط أفقي طويل، ويُطلب من المريض أنْ يضع علامة عند نصف الخط باستخدام قلم، فنجد مريض الإهمال النصفي اليساري يضع العلامة على يمين الخط بشكل واضح (شكل2-د)، يمكن أيضًا أن نطلب من المريض أن يشير إلى 10 أشياء في الغرفة، فنجد أن المريض يشير إلى النصف الأيمن فقط من الغرفة دون أن يلتفت بعينيه إلى النصف الأيسر(شكل2-ه). [4]
كل الاختبارات السابقة تعتمد على الإهمال النصفي البصري للبيئة الخارجية، فهل يمكن اختبار الإهمال النصفي الشخصي؟ بالطبع نعم، وبطريقة أسهل بكثير، فقط اطلب من المريض أن يعتني بنفسه، أن يمشّط شعره، أو يحلق لحيته، ستلاحظ أن المريض يهتم بالنصف الأيمن ويُهمل الأيسر تمامًا. وهذا النوع من الإهمال النصفي بطبيعة الحال يتم ملاحظته من قبل الأهل أو من يعتني بالمريض. [11] [10]
ما هو مصير مريض الإهمال النصفي؟ وهل يمكن التدخُّل لتحسين حالة المريض؟
ذكرنا في بداية المقال أن بعض الحالات المصابة بالإهمال النصفي نتيجة السكتات الدماغية قد تتحسن في غضون أسابيع على الأغلب، ولكن في بعض الحالات الآخرى قد تستمر هذه الأعراض فيحتاج الشخص إلى إعادة تأهيل، فكيف تتم إعادة التأهيل؟ هناك بعض الطرق التي قد تساعد في تحسين حالة مريض الإهمال النصفي سنذكر منها باختصار طريقتين: الأولى تعتمد على تدريب المريض على استخدام الجزء الذي يهمله وتعرف ب(scanning treatment)، ويقصد بها العلاج بتدقيق النظر، وهي بذلك تعد طريقة تنازلية (Top-down mechanism)، أي أنها تبدأ من المخ وتنتهي إلى رؤية المريض للجزء الذي يهمله، وهذه الطريقة تعتمد على تقنية التعلُّم عند الشخص، لذلك فهي لا تصلح لجميع المرضى، باللإضافة إلى كونها تصلح للإهمال البصري فقط دون بقية أنواع الإهمال النصفي؛ لذلك كان لابد من وجود تقنيات أخري لتحسين حالة الإهمال النصفي.
أمّا الطريقة الثانية فهي طريقة تصاعدية (Bottom-up mechanism) بعكس الطريقة الأولى، أي أنها تعمل على إثارة الحواس ليساعد ذلك على إدراك النصف الآخر من الفراغ، وتسمى هذه الطريقة (prism adaptation) أي التكيف باِستخدام المنشور الزجاجي، وهي ببساطة عبارة عن نظارات -تحتوي على منشور زجاجي- يرتديها المريض فتقوم بتحريك مجال الرؤية إلى اليمين وهو الجانب الذي يهتم به المريض، فيدخل جزء من الجانب الأيسر من مدى الرؤية في الجانب الأيمن، وبتكرار ارتداء وخلع تلك النظارات يتعوّد المريض على رؤية جزء كبير من الجانب الأيسر، ويصبح من السهل عليه تحريك عينيه إلى ذلك الجانب، ومع تكرار ذلك تتحسن حالة المريض تحسنًا ملحوظًا (شكل3). [12]
إذن ما زال الإهمال النصفي يُخفي الكثير والكثير من الألغاز التي يحاول الباحثون الكشف عنها، لمعرفة المزيد عن طبيعة هذا المرض المثير للعجب والفضول، فهل يتوصّل العلماء إلى معرفة السبب المباشر للمرض؟ وهل يكشف العلم عن علاج يقضي نهائيًا على هذه الظاهرة العجيبة؟!
إعداد: خالد نصر
مراجعة علمية: Mahmoud Ahmed
مراجعة لغوية: Mahmoud ELdaoshy
المصادر:
- Bowen A, McKenna K, Tallis RC. Reasons for Variability in the Reported Rate of Occurrence of Unilateral Spatial Neglect After Stroke. Stroke [Internet]. 1999 Jun 1;30(6):1196–202. Available from: https://goo.gl/BNoAsU
- Laplane D, Degos JD. Motor neglect. Journal of Neurology, Neurosurgery & Psychiatry [Internet]. 1983 Feb 1;46(2):152–8. Available from: https://goo.gl/NBovu2
- 1-s2.0-S1877042814033291-main.pdf [Internet]. [cited 2017 Aug 3]. Available from: https://goo.gl/y6vMWd
- Parton A, Malhotra P, Husain M. Hemispatial neglect. J Neurol Neurosurg Psychiatry [Internet]. 2004 Jan [cited 2017 Aug 3];75(1):13–21. Available from: https://goo.gl/4w57wa
- Ramachandran VS. Anosognosia in Parietal Lobe Syndrome. Consciousness and Cognition [Internet]. 1995 Mar 1 [cited 2017 Aug 3];4(1):22–51. Available from: https://goo.gl/vnL2XG
- Prigatano GP, Schacter DL. Awareness of Deficit after Brain Injury: Clinical and Theoretical Issues. Oxford University Press; 1991. 285 p.
- Chatterjee A, Coslett HB. The Roots of Cognitive Neuroscience: Behavioral Neurology and Neuropsychology. Oxford University Press; 2013. 431 p.
- Valenstein E. Making sense of cerebral dominance and syndromes of the nondominant hemisphere. Geriatrics. 1976 Nov;31(11):111–7.
- Vallar G, Perani D. The anatomy of unilateral neglect after right-hemisphere stroke lesions. A clinical/CT-scan correlation study in man. Neuropsychologia. 1986;24(5):609–22.
- Caggiano P, Beschin N, Cocchini G. Personal Neglect Following Unilateral Right and Left Brain Damage. Procedia – Social and Behavioral Sciences [Internet]. 2014 Aug 22 [cited 2017 Aug 4];140:164–7. Available from: https://goo.gl/XDcLzG
- Zoccolotti P, Judica A. Functional evaluation of hemineglect by means of a semistructured scale: Personal extrapersonal differentiation. Neuropsychological Rehabilitation [Internet]. 1991 Jan 1 [cited 2017 Aug 4];1(1):33–44. Available from: https://goo.gl/TXwhNY
- Kortte K, Hillis AE. Recent Advances in the Understanding of Neglect and Anosognosia Following Right Hemisphere Stroke. Curr Neurol Neurosci Rep [Internet]. 2009 Nov [cited 2017 Aug 3];9(6):459–65. Available from: https://goo.gl/yAVRQU