الحقيقة وراء مصاصي الدماء: مرض البُرفيريّة

الحقيقة وراء مصاصي الدماء: مرض البُرفيريّة

البورفرين هو مركّبٌ كيميائيٌّ يساعد على مكافحة الأمراض مثل الأورام وأمراض العين. ولكن للأسف، له جانبٌ مظلمٌ إن زاد تركيزه في الجسم بصورةٍ كبيرةٍ، حيث يتسبّب بمجموعةٍ من الأمراض تسمّى البُرفيريّة (porphyria).

جاءت تسمية مرض البُرفيريّة من الكلمة اليونانيّة بورفورا (porphura)، والّتي تعني أرجوانيّ اللّون. إذْ استعار اليونانيّون تلك الكلمة من الفينيقيّين، الّذين استخلصوا صبغةً أرجوانيّةً من الرّخويّات الفرفريّة (purpura mollusks) لصبغ ملابس العائلة الملكيّة. بعد ذلك، وتحديدًا في الإمبراطوريّة البيزنطيّة، أطلق لقب بورفيروجينيتوس (porphyrogenitos) أو «المولود في الأرجوانيّة» على ورثة الإمبراطور، المولودين في غرفةٍ مزيّنةٍ بهذا اللّون.

ولكن يولد الأقلّ حظًّا في أرجوانيّة البُرفيريّة، وهي مجموعةٌ من الأمراض تتلو تراكم البروتينات الأرجوانيّة والحمراء الّتي تسمّى بورفرين. وعلى الأقلّ، توجد ثمانية أنواعٍ معروفةٍ من البُرفيريّة، وتختلف في أعراضها وشدّتها. وقد ألهمت أسوأ أنواع المرض وأكثرها تشويهًا للجسد الحكايات حول مصّاصي الدّماء والمذؤوبين. وحتّى وقتنا هذا، لا زال التّحكّم في المرض تحدّيًا يواجه الأطبّاء.[1]

سم يُفعّل عن طريق الضوء

يعتبر أبقراط أوّل من تعرّف على البرفيريّة، والّتي فُسّرت وقتها على أنّها مرضٌ في الدّم أو الكبد. أمّا أوّل من شرح العلاقة السّببيّة بين البورفرين وبين البرفيريّة كان رائد الكيمياء الحيويّة العالم الألمانيّ فيلكس هوب زاير عام 1871. ومنذ عام 1889، بعد أن سمّى الطّبيب ب. ج. ستوكفيز تلك المتلازمة بالبرفيريّة، اكتُشفت أنواعٌ مختلفةٌ للمرض.

تتشابه كلّ أنواع البُرفيريّة في شيءٍ واحدٍ: كلّهم نتيجةٌ لخللٍ في بناء الهيم (Heme) داخل الجسم. الهيم -وهو مكوّنٌ أساسيٌّ للهيموجلوبين النّاقل للأكسجين- يُصنع في ثمانية مراحل متتابعةٍ. تحتاج كلّ مرحلةٍ إنزيمًا مختلفًا ليُفعّلها. وفي حال وجود خللٍ في أيّ مرحلةٍ من المراحل نتيجةً لتحوّرٍ جينيٍّ موروثٍ أو بسبب عاملٍ بيئيٍّ، تفشل العمليّة كلّها.

قد تتراكم نواتج المراحل الأولى، حتّى تصل لمستوياتٍ سامّةٍ. تلك الأنواع الأوّليّة من البورفرين تتجمّع في الجلد وفي بعض الأعضاء الأخرى، قبل أن تخرج من الجسم عن طريق البراز أو البول (الّذي قد يتحوّل لونه للأحمر أو القرمزيّ). وإن تعرّضت للشّمس، تتفاعل تلك الأنواع مدمّرةً النّسيج المحيط بها.[1]

استُخدمت تلك الخاصّيّة طبّيًّا، فالأدوية الّتي تحتوي على البورفرين يمكنها مهاجمة الأورام وغيرها من الخلايا المريضة. وعلى عكس أنواع البورفرين الطّبيعيّة أرجوانيّة اللّون، تكون هذه الأدوية خضراء -مثل الكلوروفيل- فقد عُدِّلت كيميائيًّا لتمتصّ أشعّة الضّوء ذات الطّول الموجيّ القادر على اختراق النّسيج الحيويّ للجسم.[2]

بحسب الخطوة المعطّلة يختلف مكان تراكم البورفرين، وهذا ما يتسبّب في تنوّع أعراض البُرفيريّة. كما تؤثّر شدّة العطل على الأعراض. ففي بعض الأحيان، إذا كان العطل كلّيًّا يتوقّف إنتاج الهيم تمامًا. وفي أحيانٍ أخرى يكون العطل جزئيًّا، ما يسمح بإنتاج القليل من الهيم. ويعني توقّف عجلة إنتاج الهيم أيضًا عدم قدرة الجسم على صناعة خلايا دمٍ حمراء طبيعيّةٍ. لذا، تنفجر بعض الخلايا غير الطّبيعيّة، ما يتسبّب في الإصابة بفقر الدّم الانحلاليّ (Hemolytic anemia)، ويتعرّف الطّحال على باقي الخلايا -كونها غير طبيعيّة- ويدمّرها، ما يجعل الأمور أسوأ.[1]

مذؤوب أم مصاص للدماء؟

تعتبر البُرفيريّة الحادّة المتقطّعة أحد أشهر أنواع المرض، وقد أصابت ملك بريطانيا المنحوس جورج الثّالث (أو الملك المجنون في مسرحيّة ألان بينيتس). وتتمثّل أشهر أعراض هذا النّوع في نوباتٍ عصبيّةٍ مثل فقدان الوعي، أو التّشنّجات، أو حتّى الهلوسات. قد تدوم تلك النّوبات أيّامًا وحتّى أسابيع. من حسن الحظّ أنّ المرض يكون كامنًا في أغلب المصابين بهذا النّوع، فلا تظهر عليهم أيّ أعراضٍ.

من أعراض مرض البُرفيريّة.
من أعراض مرض البُرفيريّة.

أحد الأنواع الأخرى كثيرة الانتشار -نسبيًّا- هي البُرفيريّة الجلديّة الآجلة (porphyria cutanea tardea) وتظهر في صورة مجموعةٍ مختلفةٍ تمامًا من الأعراض. في هذه الحالة، تكون حساسيّة الضّوء هي العرض الأهمّ، وتتسبّب في بثورٍ مزمنةٍ وحتّى حروقٍ في المناطق المعرّضة للشّمس. تكون عمليّة الشّفاء بطيئةً، ومصحوبةً بزيادة نموّ الشّعر خاصّةً في الوجه، وقد تنتهي بوجود ندوبٍ. في أغلب الأوقات، يكون نموّ شعر الوجه خفيفًا فلا يُلاحظ. ولكن أحيانًا يزيد نموّ الشّعر كثيرًا، ويعطي المريض مظهر المذؤوب، ما يدفعنا للتّفكير بأنّ الأسطورة كان لها أساسٌ طبيٌّ.

أمّا في البرفيريّة الخلقيّة المكوّنة للحمر -وهي واحدةٌ من أندر أنواعها- وُجد أكثر من 18 تحوّرٍ في الجينات المكوّنة للإنزيم المصنّع لمركّب يوروبورفيرينوجين III في عائلاتٍ مختلفةٍ. تمنع هذه التّحوّرات تكوّن الهيم بدرجاتٍ مختلفةٍ، ما يؤثّر أيضًا على شدّة الأعراض. وفي أشدّ صوره، يسبّب هذا النّوع تشوّهاتٍ في حال فُعّل البورفرين عن طريق الضّوء، فتُفقد ملامح الوجه والأصابع، وتُجرح القرنيّة ما قد يسبّب النّدوب والعمى. كان المرض قديمًا أقلّ ندرةً، خاصّةً في المناطق المعزولة حيث يكثر زواج الأقارب، مثل وديان ترانسلفانيا، ما قد يفسّر نشأة أساطير مصّاصي الدّماء.

رغم أنّ السّبب في زيادة البورفرين يكون في أغلب الأحيان خللًا جينيًّا، إلّا أنّ بعض الموادّ الضّارة -مثل الاستهلاك الزّائد للكحول، أو الملوّثات البيئيّة- قد تسبّبت أيضًا في حدوث المرض. وأشهر تلك الحوادث كان في تركيا في خمسينيّات القرن الماضي، عندما أصيب 4000 شخصٍ بالبُرفيريّة بعد تناولهم حبوب القمح، الّتي كانت قد رُشّت بمضادٍّ للفطريّات يسمّى هيكساكلوروبنزين. مات المئات منهم، ومُنع استخدام مضادّ الفطريّات ذاك تمامًا في العالم كلّه.[1]

طرق العلاج

في أغلب أنواع البُرفيريّة، يمكن أن يقلّل نقل الدّم أو الحديد من حدّة الأعراض إلى حدٍّ ما، لذلك يعتبر كلاهما أساسيًّا في عمليّة العلاج حتّى الآن. ومن المثير للاهتمام أنّ حبيبات الهيم (Heme) قويّةٌ بما يكفي لتنجو من عمليّة الهضم، ثمّ تُمتصّ في الأمعاء. وذلك بخلاف الجزء البروتينيّ من الهيموجلوبين، الّذي يتكسّر أثناء عمليّة الهضم. وهذا يعني -من حيث المبدأ- أنّ شرب الدّم يمكنه أن يحسّن من أعراض البُرفيريّة، ما يذكّرنا مرّةً أخرى بالرّوايات عن مصّاصي الدّماء.

يساعد حقن الهيم في علاج البُرفيريّة بطريقتين: أوّلًا، يزيد من كمّيّة الهيم في الجسم، ما يعالج فقر الدّم. وثانيًا، يوقف فائض الهيم عمليّة تصنيع الهيم داخل الجسم عن طريق ما يسمّى بالتّغذية المرتدّة السّلبيّة (حيث تتسبّب زيادة تركيز نواتج عمليّةٍ ما، في إبطاء أو إيقاف تلك العمليّة). وبإيقاف خطّ الإنتاج، يتوقّف أيضًا إنتاج البورفرين الأوّليّ السّامّ. ويمكن لسحب الدّم أو الفصاد أن يساعد أيضًا، حيث يزيل بعض البورفرين الأوليّ من الدّورة الدّمويّة. وفي أغلب الحالات، يعود الشّخص طبيعيًّا -نسبيًّا- في خلال أيامٍ.

في الأنواع الأخطر من البُرفيريّة مثل البرفيريّة الخلقيّة المكوّنة للحمر، يكون العلاج أقلّ فاعليّةً. وأحيانًا، يجب استئصال الطّحال لتقليل انحلال كريّات الدّم الحمراء. وفي هذا النّوع تحديدًا، يؤثّر الخلل الجينيّ على الخلايا الجذعيّة في نخاع العظام المكوّن لخلايا الدّم الحمراء. من حيث المبدأ، يمكن علاج البُرفيريّة الخلقيّة المكوّنة للحمر عن طريق عمليّة نقل نخاع العظام، حيثُ تُستبدَل الخلايا الجذعيّة التّالفة بأخرى سليمةٍ وقادرةٍ على الإنتاج. خضع خمسة أطفالٍ مصابين بالبرفيريّة الخلقيّة المكوّنة للحمر لعمليّات نقل نخاعٍ ناجحةٍ. وتتمّ تلك العمليّة خلال السّنين الأولى، ويبدو أنّها تعالج المرض تمامًا خلال بضع سنواتٍ.[1]

العلاجات المستقبلية

تمثّل زراعة نخاع العظام نفسها تحدّيًا، لهذا تعتبر الاختيار الأخير. وعلى المدى الطّويل، نأمل في استخدام العلاج الجينيّ لشفاء البرفيريّة. حيث تُستبدل الجينات المعطوبة بأخرى سليمةٍ، باستخدام فيروسٍ ناقلٍ كوسيلةٍ لإدخال الجين داخل الجسم. أثبتت تلك التّقنيّة كفاءتها في التّجارب على مزارع الخلايا. ومع ذلك يفصلنا طريقٌ طويلٌ عن البدء في استخدامها على أرض الواقع.

تعتمد العلاجات المستقبليّة الأخرى على نتائج التّجارب الّتي تُجرى على حيوانات التّجارب وحتّى النّباتات. واحتماليّة حدوث بعضها بعيدةٌ على أقلّ تقديرٍ. فمثلًا، يحمل أحد أنواع السّناجب، وهو السّنجاب الثعلبيّ أو سيوروس نايجر (Sciurus niger)، خللًا جينيًّا مسؤولًا عن ظهور البرفيريّة الخلقيّة المكوّنة للحمر، ومع ذلك لا يعاني من أيّ أعراضٍ لسببٍ غير معروفٍ. لذا، فإنّ دراسة هذه الحيوانات قد تساعدنا على إيجاد طرقٍ لمكافحة البرفيريّة.

من المفاجئ أنّ النّباتات أيضًا تحتوي على البورفرين الأخضر، وهو الكلوروفيل. وتستخدمه لامتصاص الضّوء. لذا، قد تُصاب النّباتات بأنواعٍ من الأمراض الشّبيهة بالبرفيريّة. تصنع النّباتات الكلوروفيل بطريقةٍ مشابهةٍ لطريقة تكوين الهيم داخل الجسم الحيوانيّ. وفي حال حدوث خللٍ في الجينات المسؤولة عن خطوات التّصنيع الأخيرة، يتجمّع البورفرين في أوراق النّبات. وعندما تتعرّض للشّمس، تتقرّح تلك الأوراق، وفي النّهاية تذبل وتموت. يشبه ذلك أعراض البرفيريّة في الإنسان، لذا يأمل الباحثون التّوصّل لعلاجٍ للبرفيريّة عن طريق دراسة خصائص  تلك النّباتات، مثل نبات الذّرة.[1]

 

 

شارك المقال:
0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
1 تعليق
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي