مطاردة الآفاق الكونية

HubbleTelescopeBreaksOurUnderstandingOfUniverse_1024
||

مما لا شك فيه أن الحقائق تُكمِّل بعضها بعضًا، فمعرفة حقيقة بدون الأخرى تجعلك تُخطئ التقدير، وهناك حقيقتان عن الكون، إذا علمتهما فإنك ستُخطئ التقدير بدون الثالثة، أولهما أن الكون عمره 13.7 مليار سنة ضوئيّة، وثانيهما أن سرعة الضوء والتي تبلغ تقريبًا 300 ألف كم/ثانية هي السرعة القصوى في الكون ولا شيء يمكنه تجاوزها.
وبعلمك أن الكون يتمدد منذ الانفجار العظيم فإن أقصى تقدير يمكن أن تصل إليه حافة الكون حتى الآن هو 13.7 مليار سنة ضوئيّة! ولكن هذا غير صحيح فعلى بُعد 13.7 مليار سنة ضوئيّة تُوجَد حافة الرؤية وليست حافة الكون وهي تُدعى أفق هابل (Hubble horizon).

فكما قلتُ لك أن الحقائق تُكمل بعضها بعضًا، فالفضاء بالفعل يُحرِّم على أي شيء يمتلك كتلة (سكون) التحرك فيه بسرعة الضوء أو أسرع، ولكن الفضاء نوعًا ما ديكتاتوريٌّ فهو لا يحرم ذلك على نفسه، بل إنه يتمدد بسرعة أسرع من سرعة الضوء، وتتناسب السرعة التي يتمدد بها الفضاء تناسبًا طرديًا مع المسافة، فكلما كان الفضاء الذي ننظر إليه أبعد كلما وجدناه يبتعد عنّا بسرعة أكبر، حتى إذا وصلنا إلى مسافة 13.7 مليار سنة ضوئية فإن سرعة تمدد الكون تصل إلى سرعة الضوء، ومن بعد هذه المسافة يتمدد الكون بسرعة أكبر من سرعة الضوء، ولذلك فلن نرَ الضوء الصادر من بعد تلك المسافة، لأن الضوء تتم إزاحتة عنّا بسرعة أسرع من سرعته، الموضوع أشبه بالركض على سطح مشايّة رياضيّة تتحرك إلى الخلف بسرعة أسرع منك، فأنت رغم ركضك أصبحتَ ترجع إلى الخلف لأن المحصلة النهائيّة ستكون إلى الخلف.
الضوء الذي كان دائمًا أسرع شيءٍ في الكون أصبح غير قادرٍ على مجاراة تمدُّد الفضاء بعد تلك المسافة وتُسمى
تلك المسافات التي تتحرك بسرعة أكبر من سرعة الضوء بـ (Superluminal region).


هذا أمرٌ محبط، أن تعلم أنك لن ترَ شيئًا بعد تلك المسافة والتي تُدعى أفق هابل، أليس كذلك؟!
حسنًا هناك حقيقةٌ أخرى لم أخبرْك بها بعد!
وهي أن أفق هابل يتوسع ليشمل الضوء الذي لم يكنْ بإمكانه مجاراة تمدد الفضاء في تلك المنطقة، فأصبح ذلك الضوء الآن يتواجد في منطقة لا تتمدد بسرعة أسرع منه، فلقد عاد الضوء لينتقم، والشاهد على ذلك أن ما نرصده الآن من ضوء على بعد 5 مليار سنة ضوئية من حافة الرؤية “أفق هابل” كان في الأساس خارج أفق هابل، ومع توسع أفق هابل أصبح الضوء مشمولًا في منطقة تتمدد بسرعة أقل من سرعة الضوء ومن ثم انطلق إلينا ولكن بعد عناء أي أنه فقد طاقة وانزاح ناحية الأحمر، أما الأجرام التي انطلق منها ذلك الضوء فلا تزال تبتعد عنا بسرعة أكبر من سرعة الضوء، مما سيوصلنا إلى حقيقة أننا نحتاج لأن نعلمَ إلى أين وصلت تلك الأجرام الآن؟ وذلك لنعلمَ الحجم الحقيقيّ للكون أو كما يسمونه الكون المرصود (observable universe)، كما يمكن أن نطلق عليه أيضًا (particle horizon)، وليس المقصود هنا المرصود بأعيننا فقط، بل والمرصود بحساباتنا أيضًا.

فمن خلال الحسابات التي تضع في اعتبارها تمدد الكون بمعدل مُتسارِع فقد ابتعدت عنّا تلك الأجرام 46 مليار سنة ضوئية، وهذا هو نصف قطر الكون المرصود، بالتالي قطر الكون هو 92 مليار سنة ضوئيّة، ولكن هذا لا يعني أن للكون حافةً عند تلك المسافة، فليس هناك حافةٌ للكون أو على الأقل هذا ما تُخبرنا به الرياضيات، على الرغم من كون ذلك غير منطقيّ بالنسبة لعقولنا وإدراكنا المُقيَّد بحدود.
كما سيتبادر إلى ذهنك عندما تسمع عن تمدد الكون أن الكون يتمدد في بعد آخر، ولأن الكون لا نهائيّ فليس من الضرورة أن يكون هناك بعدٌ آخر يتمدد فيه، فربما يتمدد في نفسه فهو لا نهائيّ وهذا هو جنون اللانهائيّات.

ولكن من ناحية أخرى يمكن أن يكون الكون أكبر من رصدنا بكثير، وبذلك قد يكون هناك انحناء ولكن لا يظهر من منظورنا الصغير جدًا نسبةً للكون، الأمر أشبه بالأرض تبدو مسطحة من منظورك القريب الصغير وتحتاج لتصعد وتبتعد عنها لترَ انحناءها.
على أية حال فإن انحناء الكون قد يعني أن كوننا هو سطحٌ ثلاثيّ الأبعاد في كرة رباعيّة البعد أو كما يطلقون عليها (Hypersphere)، مما يؤدي إلى حقيقة أنه إذا انطلقتَ في خطٍ مستقيم فإنك سوف تعود للمكان الأول الذي انطلقت منه، ولكن بعد أن تقطع مسافات تُقدر بـ 18 مرة نصف قطر أفق الجسيم، وهذا طبعًا بافتراض ثبات الفضاء وليس تمدده.
عذرًا لقد نسيت ما هو أفق الجسيم مرة أخرى؟ بمعنى آخر هو أقصى مسافة قد وصلتْ إليها الجسيمات منذ أن انطلقت من 13.7 مليار سنة، ويقوم العلماء بحسابها رياضيًا بناءً على معدل تمدد الكون وزمنه، وهو يساوي حاليًا 46 مليار سنة ضوئية، وهذا يعني أنه يتخطى أفق هابل والذي لا يمكن رؤية شيءٍ بعده، أو كما بيَّنا من قبل فإنه يمكن رؤية ما بعده ولكن يجب أن ننتظر اتِّساع أفق هابل حتى يجدَ الضوء نفسه في منطقة لا يتمدد الفضاء فيها بسرعة أكبر من سرعته، لذلك كان علينا أن ندرك بعض المناطق بحساباتنا وليس بأعيننا، وقبل أن ننطلق معكم بسرعة الضوء، بقى فقط أن أخبركم عن أفق الحدث للكون (Cosmological event horizon).

نعم فالكون مثل الثقوب السواء له أفق حدث وهو على بعد 16.7 مليار سنة ضوئية
وهذا الأفق (أفق الحدث الكونيّ) هو تلك المنطقة التي بَعدها لا يُنتظر غائبها أبدًا، أي أن أي شيء حاليًا تخطى تلك المنطقة فلن ترَه أبدًا، ولكن لا يلتبِسْ عليك الأمر؛ فأنا أتكلم عن «الآن»، فأنت ترى حاليًا عند حافة الكون مجراتٍ تخطتْ أفق الحدث بالفعل ووصلت الآن على بعد 46 مليار سنة ضوئيّة.
ولكن عزيزي القارئ لا تنسَ أنك لا تراها الآن ولكن ترى الضوء الصادر عنها منذ 13.7 مليار سنة أي عندما كانت قبل أفق حدث الكون، أما الآن وبما أنها تخطت أفق الحدث بكثيرٍ فقد أصدرت شهادة وفاتها بالنسبة إلينا ولا يُنتظر منها ضوءٌ الآن.

ماذا لو انطلقنا افتراضيًا بسرعة الضوء المُحرَّمة على أي جسيم يمتلك كتلة، هل سنصل إلى أفق الجسيم؟
الإجابة: لا! لأنه كلما قطعت مسافاتٍ، قطع الفضاء أيضًا مسافاتٍ في التمدُّد أسرع منك، فكأنما تطارد سرابًا، ولكن إذا انطلقتَ ووصلتَ إلى أفق هابل ونظرتَ في أي اتجاهٍ فإنك ستجد الكون الذي تعودت أن ترَه من الأرض ولكن مع اختلافٍ بسيط في المجرات حولك، فالكون متجانس ومُتوحِّد الخواص، ويبدو كما هو من أي مكان، أما إذا انتقلت لحظيًا إلى أفق هابل، ونظرت إلى الأرض من مكانك فإنك لن تجدَها، فلم تكنْ النجوم قد تكونت بعد ناهيك عن الكواكب.
هذا مملٌ، سرعة الضوء لا تسعفنا، دعونا نرى غير ذلك، هيّا ننطلق في رحلة باستخدام محركات “ألكوبيير” الافتراضيّة، والتي تتخطى سرعتها سرعة الضوء من خلال ثَني الفضاء، فنحن نحاول أن نحتال على السرعة القصوى للكون باستخدام الفضاء غير المُقيَّد بها، وسنحتاج في محركاتنا هذه طاقةً سالبة.
فباستخدام تلك المحركات التي تثني الفضاء لربما تخطيّنا سرعة الضوء، ولكن هل سنصل إلى أفق الجسيم؟! ربما، وماذا سنجد؟
سنجد كونًا أيضًا لا حافة، فالكون لا نهائيٌّ كما ذكرنا من قبل.

ملاحظات

تم إيقاف تمدد الكون افتراضيًا في بعض المقال حتى نرَ ما سيحدث، وحتى يمكننا حساب الآفاق لأنها تتغير بتغيُّر الزمن.
وبعيدًا عن ميكانيكا الكم فلا خرق للنظرية النسبية هنا، حيث إن النظرية تقر بأنه لا يمكن أن تحدث عملية فيها تبادل معلومات بسرعة أكبر من سرعة الضوء، وما يحدث هو أن تمدد الفضاء بسرعة أكبر من سرعة الضوء لا يحدث فيه تبادل معلومات.

المصادر:
المصدر الأول
المصدر الثاني
المصدر الثالث
المصدر الرابع
المصدرالخامس
المصدر السادس
المصدر السابع
المصدر الثامن
المصدر التاسع

إعداد: محمد عزت
مراجعة علمية: سارة سامر
تَدقيقٌ لُغَوِيّ: محمود خليفة

تحرير: هاجر عبدالعزيز

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي