نظرة عامة
الأيام دول والدول أيام، هذا ما شهدناه في التاريخ؛ لم تدم الهيمنة لدولة واحدة ولن تدوم، وإنما تتعاقب على سيادة الأرض دولٌ مختلفة. وقصة الحرب البيلوبونيسية لا تشذ عن تلك القاعدة بل تؤكدها.
أطراف الحرب البيلوبونيسية
الحلف الديلي بقيادة أثينا ذات النظام الديموقراطي، وحلف البيلوبونيز بقيادة اسبرطة ذات النظام الأوليغاركي (نظام سياسي تتولى فيه السلطة مجموعة قليلة من ذوي النفوذ والمال).
بلغ تأثير الحرب حدًّا غير مسبوق بأن أعاد تشكيل موازين القوى في خارطة المدن اليونانية، فأثينا التي كانت بلغت ذروة مجدها وأوج قوتها إبان الحرب، صارت خاضعةً تمام الخضوع ودُمِّرَت بشكلٍ شبهِ كاملٍ، ولم تستطع استعادة مكانتها وما كانت فيه من رخاء وازدهار مرةً أخرى، في حين حازت اسبرطة على الريادة والهيمنة على اليونان كلها، وبالطبع ساد النظام الأوليغاركي في معظم مدن اليونان حيث ساندته اسبرطة المتبنية له.
مراحل الحرب البيلوبونيسية
- حرب الأركيدميان: امتدت تلك المرحلة من 431ق.م بغزوات متكررة من اسبرطة على أتيكا (شبه الجزيرة التي توجد بها أثينا)، وهجمات من الأسطول الأثيني على الساحل الاسبرطي، استمر ذلك حتى عام 421ق.م.
- سلام نيكياس: في عام 421ق.م، عقدوا معاهدة سلام نصَّت على عدم تعرض إحداهما للأخرى لمدة خمسين عامًا، ولكن ككل معاهدات السلام التي عُقدت لتُنقض، لم يمض من الخمسين عامًا المنصوص عليهم إلا 6 سنوات وتجدد الصراع.
- غزو صقلية والحرب الإيونية: في عام 415ق.م، أرسلت أثينا قوة ضخمة لغزو صقلية مما أشعل الحرب مرة أخرى، فدعمت اسبرطة التمردات الداخلية في الدول الخاضعة لأثينا في بحر إيجة وإيونيا مما أضعف أثينا وأفقدها تفوقها البحري والذي أدَّى في النهاية لخسارتها المعارك البحرية واستسلامها! [1,2,3]
تمهيد للحرب البيلوبونيسية
لكن لم تبدأ الحرب بين عشية وضحاها كما يمكن أن يُظن، بل كانت الخمسون عامًا السابقة لها مُنذرةً بها ومؤديةً لها بلا شك.
تشكيل الحلف الديلي
تبدأ حكايتنا عام 478 ق.م عقب نهاية الغزو الفارسي الثاني لليونان، في جزيرة ديلوس إحدى جزر بحر إيجة حيث ينعقد مؤتمر لممثلين لـ173 مدينة يونانية بقيادة أثينا، اتفقوا على مواصلة القتال ضد الإمبراطورية الفارسية، فلم يكتفوا بإجلاء الفرس عن الأراضي اليونانية فقط، بل أرادوا مواصلة الزحف وغزو الأراضي الفارسية ،وبالفعل تمكنوا من ذلك، إلا أن الأمور لم تسر على النحو المنصوص عليه، فالحلف الذي بدأ كمجموعة مدن متعاونة سرعان ما تحول لإمبراطورية تسودها أثينا.
أجبرت أثينا أعضاء الحلف على دفع ما يشبه الجزية بادعاء أن ذلك لتقوية الجيش ومواجهة الفرس، في حين استخدمت أثينا الأموال والجيش أيضًا لمصلحتها الخاصة، فالبارثينون -على سبيل المثال- بُنِيَ بتلك الأموال.
كانت أثينا صارمة في جمع تلك الجزية المفروضة ولا تقبل فيها تهاون، وكان على من يتأخر في دفعها أن يواجه غضبها، فلم يكن أمامهم خيارٌ إلا طاعتها والمثول الكامل لسيطرتها. لم تفهم ذلك جزيرتا (ناكسوس) و(ثاسوس) وحاولا الانشقاق عن الحلف، وهو الأمر الذي لم تقبله بالطبع أثينا، فكان لذلك عواقب وخيمة عليهما بشكل مباشر وعليها بشكل غير مباشر؛ أُُجبرا على هدم أسوارهما وصودرت سفنيهما وفقدوا صوتهما في الحلف بطبيعة الحال. وعلى الرغم مما اكتسبته أثينا وقتها من مكاسب مادية، فإن ذلك سيعود عليها بالخراب كما سنرى.[4,5]
ضغينة وسخط
كل ذلك أثار سخط وضغينة بقية المدن اليونانية خاصةً اسبرطة، وكان مما زاد الشحناء بينهما أن طلبت اسبرطة من أثينا إزالة أسوارها بعد إجلاء الفرس، حيث لم يعد لها داعٍ ولكن أثينا رفضت.
توالت بعد ذلك المواقف التي زادت تعكير الجو بين أثينا واسبرطة، ففي عام 465ق.م حدثت ثورة عارمة للـ«هيلوت» (عبيد اسبرطة) في اسبرطة مما اضطرها إلى طلب معونة حلفائها للسيطرة على الاضطرابات التي سادت مدينتهم، أرسلت أثينا 4000 من جنودها لمساعدة اسبرطة لكن الاسبرطيون تشككوا منهم فلم يسمحوا لهم بدخول المدينة خوفًا من أن يعاونوا العبيد بدلا من معاونة الاسبرطيين، شعرت أثنيا بالإهانة إزاء تصرف اسبرطة، فحققت مخاوف الاسبرطيين بالفعل، فبعد أن استطاعت اسبرطة قمع التمرد وطرد المتمردين من المدينة، وفرت أثينا مساكن لهم في مدينة مجاورة! هل نوت أثينا على الغدر باسبرطة من البداية أم أن تصرفها جاء كرد فعل لتلقيها الإهانة؟!
في عام 459ق.م وقعت الحرب البيلوبونيسية الأولى حين تحالفت أثينا مع ميجارا ضد كورينث وكلاهما حليفتان لاسبرطة مما اضطر الأخيرة لمساندة كورينث. ظلت المناوشات بينهما لا تتوقف ولا تنحسم مدة 15 عامًا إلى أن عُقدت معاهدة (سلام الثلاثين عامًا) عام 445ق.م. [6,7,1]
المعاهدات تُبرم لتُنقض
نجحت المعاهدة في أول اختبار لها عام 440ق.م حين كبحت اسبرطة جماحها ولم تنتهز فرصة الاضطرابات الحادثة في أثينا ولم تُغِر عليها على الرغم من أن احتمالية انتصارها في تلك الفترة مغرية بالفعل.
لكن كما اتفقنا لا تبرم المعاهدات إلا لتنقض فما تنقضي السنون حتى نجد السفن الأثينية تقصف ساحل البيلوبونيز وجنود اسبرطة مشهرون سيوفهم على شبه جزرة أتيكا عام 431 ق.م. فبالإضافة لما ذكرناه مما أضمر قلوب الأثينين والاسبرطيين تجاه بعضهما بعضًا كانت هناك القشتان اللتان أصابتا البعير بالفالج، ألا وهما مرسوم ميجارا وتمرد كوركيرا.
- مرسوم ميجارا: بلغ عنت أثينا أقصاه ففرضوا عقوبات تجارية ضحمة على مواطني ميجارا بادعاء أنهم دنسوا الروضة المقدسة للإلهة ديميتر ربة الزراعة والحصاد.
- تمرد كوركيرا: قامت كوركيرا إحدى مستعمَرات كورينث (حليفة اسبرطة) بالتمرد على مستعمِرتها وبنت أسطولها الخاص لتواجه به كورينث حتى تحصل على استقلالها، استغلت أثينا الفرصة وتحالفت مع كوركيرا وأرسلت لها عدة سفن لتساعدها في الدفاع عن الجزيرة ضد كورينث، أبرز قادة أثينا ذكاءهم الاستراتيجي فأمروا سفنهم المرسلة بألا يتدخلوا في الحرب إلا إذا بادرتهم سفن كورينث بالهجوم، ولكن لم تشارك السفن القادة في الذكاء ولا حتى في الطاعة فبادروا هم بالهجوم!
مما حدا بكورينث لعقد مؤتمر لحلف البيلوبونيز (حلف بقيادة اسبرطة ضم كورينث وبيلوس وبيوتيا وغيرهم) لمناقشة الوضع، أدانت كورينث خمول اسبرطة وسلبيتها في التعامل مع الوضع القائم وحذرتها من انفضاض الحلفاء من حولها إذا لم تتدخل، أتت تلك التحذيرات أُكلها وتم الاقرار على أن أثينا خرقت معاهدة سلام الثلاثين عام بما فعلته وبالتالي وجب الرد بإعلان الحرب عليها.[6,1]
وهكذا اشتعلت الحرب البيلوبونيسية التي استمرت 27 عامًا من القتال والخراب والفقر الذي شمل اليونان كلها!