أينما كان النورُ فأنا الشغوفُ به، وأينما كانت الزهرةُ فأنا الفراشةُ، وأينما كان الجمالُ فأنا العاشقُ، وأينما كانت الحكمةُ فهي ضالتي.
من بين فحول شعراء الصوفية في الإسلام، وواحدٌ من أعلام التصوّف، وأحد أعلام الشعر الصوفي في الأدب الفارسي، وأحد أعظم مَن اتَّجه بقلبِه وعقلِه وروحِه وكل جوارحِه إلى العِشق الإلهيّ الخالِص.. إنّه الشاعر والعالِم، والفقيه، والمتصوِّف: جلال الدين الرومي.
عن جلال الدين الرومي
وُلد «جلال الدين محمد بن محمد بن حسين بن أحمد بن قاسم بن مسيب بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق» في «6 من ربيع الأول 604هـ – 30 من سبتمبر 1207م» في مركز الثقافة بمدينة «بلخ» بمنطقة «الخرسان التركستانية» التي تقع في «افغانستان حاليًا»، تمامًا في قلب الغزو المغولي الذي وقع حينذاك، لأسرة قيل إن نسبها ينتهي إلى «أبي بكر»، وتحظى بمصاهرة البيت الحاكم في «خوارزم».
كانت أمه ابنة «خوارزم شاه علاء الدين محمد»، وكان والده «محمد بهاء الدين ولد» المُلقَّب بـ «سُلطان العلماء» من العلماء المعروفين في بلده، إذ كان المرجع الوحيد للفتاوى الصعبة في بلده خرسان، وكانت لمواعظه ودروسه آثار قوية في بيئته، وكان خليفة لـ «نجم الدين كبرى» -أحد المتصوِّفين المشهورين في عصره-
في تلك الأيام كان الاختلاف كبير بين المتصوِّفين والفلاسفة، هذا الاختلاف أدَّى إلى وقوف «بهاء الدين ولد» في صفٍ، وفيلسوف بلخ الشهير «فخر الدين الرازي» في صفٍ آخر، ومن جانب آخر كانت السُلطة السياسية مُنزعجة من المُلتفين حوله.. يُقال أن «بهاء الدين ولد» قد تألم من هذه الظروف، وقرر أن يترك بلخ، حقًا، فهل ترك سلطان العلماء بلده لغضبه على عالم آخر كبير؟ يقول الباحثون إن «بهاء الدين ولد» في الحقيقة اضطر إلى هَجْر بلده بسبب غزو المغول.
ولمَّا قرر «سُلطان العلماء» الهجرة من بلخ مع أسرته، كان «جلال الدين» في الخامسة من عمره، انطلق الركب نحو الكوفة رويدًا رويدًا ومن ثَمَّ إلى مكَّة؛ ليؤدي مناسك الحج، ثُم يواصل سيره، توجَّهوا من مكَّة إلى المدينة، فـ القُدس، ومن هُناك إلى الشام، كان الهدف إلى ديار الروم، حيثُ الأناضول -الديار التي ستترك عليه لقب «الروميّ»-، وخلال هذه الفترة كان «سلطان العلماء بهاء الدين» يعتني هو بالذات بتربية ولده ويقوم بتربيته أحسن قيام.
إنه «جلال الدين» الذي سيرشد الكثيرين، كان حينئذ مُريد لوالده، كان يتلقَّى منه العلوم الدينية والدنيوية، ويجب ألا ننظر لعلاقة «جلال الدين» بوالده كعلاقة أبٍّ مع ابنه، أو مُرشد بمُريد، أو طالب بأستاذه فحسْب، لا شك إن كل هذا وحدة مُتكاملة. ولكن سيدنا الذي يأخذ بيدنا إلى العروج المعنويّ أكثر أهمية من والدنا الذي كان سببًا لقدومِنا إلى العالم المادي، وعلى هذا الأساس يجب أن نُقيِّم علاقة جلال الدين بأبيه.
استقرَّت الأسرة بـ «قرمان» بعد رحلة استغرقت ثلاثة عشر عامًا، «علاء الدين كيقباد» حاكم «الدولة السلجوقية» التي كانت تحكم في الأناضول حينذاك، دعى والده إلى «قونية» بعدما علم بشهرته، وبعد استجابة والده لهذه الدعوة حضر «جلال الدين» مع أسرته إلى «قونية» في شهر إيار -مايو- سنة 1228م.
استقرَّ بهم المقام في مدرسة «ألتون آبان» التي تعني «بائع الخيوط» والتي خصصها لهم السلطان «علاء الدين».
وبعدها ارتحل «بهاء الدين» إلى جوار ربه في 24 من شباط -فبراير- سنة 1231م في ضُحى يوم الجمعة بعد أن خلف وراءه ولد صالح مثل «جلال الدين» ومؤلف قيم مثل «المعارف»، وكانت أول مرة يتعرف «جلال الدين» على ألم الفراق، والذي سيلازمه طوال حياته. [1] [2]
نحن ارتحلنا فسلامٌ على الباقين فليبقوا بسلام، فلابد للمولود أن يموت، وإن كنت فريد عصرك والمشار إليه بالبنان، ففي يوم ما ستغادر هذه الدنيا وترحل كما غادر ورحل من قبل فردًا فردًا، وإن كنت لا تريد أن تبقى وحيدًا في المكان الذي رحلت إليه، فليكن لك خلفًا من الخير والبر والطاعة.
نشأة جلال الدين منشأ العُلماء
ورغم كفاءة «جلال الدين» عند وفاة والده والتي كانت تمكِّنه من التدريس والإفتاء مكانه إلا أنه رفض وقال:
كلا! إنني ما زلت بحاجة إلى أن أتعلم الكثير
كان في غاية التواضع، والتواضع رأس الحكمة.
فمن سيكون المُرشد الجديد، والأستاذ، وصاحب مقام التدريس للأستاذ «جلال الدين» الذي فقد والده!؟
وكلنا نعرف أن لا شيء في العالم اسمه صُدفة، وإن ما يُسمَّى صدفة ليس إلا تجليَّات للحكمة الإلهية، فلقد وقع الاختيار على الترمذيّ من قِبَل والده، إذ كان يعرف أن ولده سيتلقَّى التجلي في حقيقة نفسه بحظٍّ وافر من سيادة: «برهان الدين الترمذي»، لذلك كتب إليه وأعلمه بذلك.
ولقد جاء خليفة والده سيد «بُرهان الدين مُحقق الترمذي» إلى «قونية» سنة 1232م، ومنذ ذلك اليوم دخل «جلال الدين» في تربية الترمذيّ المعنوية، يجلس أمام أستاذه الذي حلّ محل أبيه باحترام.
بالنسبة لأهل التصوف فإن المُرشد هو كل شيء بالنسبةِ لهم، والسيد «بُرهان الدين الترمذي» هو المُرشد الأكمَل لمولانا «جلال الدين الرومي»، ووالده كان المُرشد الأول له، معنى ذلك أن مولانا تلقَّى خلافته من «بُرهان الدين» لذلك مكانته لا تُقاس ولا تُقدَّر. [1]
فـ صِر ناضجًا وابتعد عن التغيُّب، وامضي وسِر نورًا كـ «بُرهان الدين مُحقق»، وما دُمت قد نجوت من نفسِك فقد صِرت بأجمعك بُرهان، وما دام العبد قد نُفيَ فقد صار سلطانًا.
الترمذيّ في حياة جلال الدين الرومي: الأبّ الروحي
وعلى الرغم من صِغَر سن «جلال الدين» فقد كان الترمذيّ يعرف أنه عالم، ورغم ذلك أرسل طالبه إلى حلب والشام حتى يزداد علمًا، ولقد تلقَّى «جلال الدين» من العلماء البارزين في ذلك الوقت في مدارس الشام علوم الحديث، والفقه، والصرف، والنحو، لمدة سبع سنين تقريبًا.
لذلك لا نستطيع قول عن شخصية صوفي وعالم مثل «جلال الدين» أنه لم يكن عارف بالدين؛ لأن هُناك من يعتقد ذلك، ويوجد من يقول أنه لا يعرف شيء عن الشريعة وأصول الدين ويعرف فقط الظواهر وانه كان زنديقًا، كلا! إنه في المقام الأول من علماء الشريعة، ولكنه كان يقول أن الشريعة في ذاتها ليست غاية، وإنما وسيلة للأوامر الإلهية، وهذا مُطابق للفكر الذي جاء به القرآن.
وبعد أن رجع «جلال الدين» من الشام، جلسَ أمام أستاذه الترمذيّ ليعلِّمه مرةً أخرى، وهكذا تمضي الشهور والسنون، وما من سنةٍ تمضي إلا وتجعل من «جلال الدين» أكثر نضجًا، حتى تم اجتياز الأيام العِجاف والمِحن، وسيده مُطمئن غاية الاطمئنان؛ فقد قامَ بتربية «جلال الدين» كما أراد، وعندما علمَ أن مُهمَّته قد انتهت.. غادر «قونية» إلى بلدته «قيصري» حيثُ أراد أن يبقى باقي عمره في الانزواء، ولكنه لم يرد أن يصرّح برأيه هذا إلى «جلال الدين»، وهل كان طالبه سيأذن له بالمغادرة؟ [1] [2]
وعندما لم يوافق مولانا على مُغادرة مُرشده إلى بلده «قيصري»؛ لمحبته الشديدة له، قال السيد بُرهان قولته في ذلك:
يا ولدي، لا يمكن أن تكون شمسان في سماءٍ واحدة، فأنتَ أصبحت الآن مُرشدًا كاملًا مُكمَّلًا، أنت تبقى هُنا، وأنا أعود إلى بلادي.
«جلال الدين» أصبح عالمًا تلقَّى علوم التفسير، والحديث، والفِقه، واللغة العربية، وتربَّى على يد جهابذة التربية المعنوية، وبذلك سلكَ طريقًا آمنًا؛ فوصل إلى مرحلة انتظار من سيعلمه العشق.
تعالى، تعالى واقترب كم ستستغرق هذه الرحلة، ما دمت أنت أنا، وأنا أنت. ماذا تعني أنا وأنت بعد اليوم؟ نحن نور الحق مرآة الحق، إذن لماذا الشجار بيننا دائمًا؟
طلابه كانوا يزدادون حوله يومًا بعد يوم، فقد أصبح «الروميّ» لبلاد الأناضول، و«مولانا جلال الدين» لطلابه، لكن عروجه في العالم المعنوي لم ينتهي بعد، مولانا جلال الدين الذي فقدَ والده وشيخه أصبح وحيدًا؛ لذلك فإن العروج كان يجب أن يكمل والوحشة كان يجب أن تزال.
لا تحزن فأي شيء تفقده سيعود إليك في هيئة أخرى.
شمس الدين التبريزيّ في حياة جلال الدين: طوق النجاة
كان هناك رجل صاحب حِرفة، لكن باطنه درويش وولي من أولياء الله، ذلك الرجل هو «شمس الدين التبريزي»، كان قد خرج من تبريز لعله يجد صديقًا يصحبه؛ فطاف العالم الإسلامي، والتقى بمُرشدين كثيرين حتى انتهى به الحال إلى «قونية».
كان يبحث عن شخصٍ فارغٍ تمامًا حتى يملأه بالعشق؛ لذا يوجه إليه سؤاله المشهور:
هل أبو يزيد البسطامي الذي يقول: «لا شيء تحت جُعبتي غير الله» أكبر من الرسول الذي يقول: «ما عرفناك حق معرفتك؟»
وهذا السؤال يعني: هل امتلأت أنت مثل أبو يزيد ولم تعد تحتاج إلى درس آخر؟ أم أنت كرسول الله الذي يقول: زِدني علمًا؟
مولانا جلال الدين يفهم هذه الحقيقة، إنه طالبٌ توّاقٌ للعلم، وهو أصلًا في حالة انتظار.
أبواب المدرسة الصغيرة التي كان مولانا يستخدمها كانت حتى الأمس مفتوحة على مصراعيها، لكنها اليوم مُغلقة، حتى ذلك اليوم مولانا جلال الدين كان مُدرِّسا يلقي الدروس على طلَّابه، وخطيبًا محبوبًا بمواعظه في المساجد، وُمفتيًا لعامة الناس، يحل لهم المشاكل الشرعية، لكنه الآن بعيدٌ عن كل أحد وبعيدٌ عن كل شيء، يبقى مُعظم أوقاته بصحبه «شمس الدين التبريزي».
وفي المحبَّة تصبح كل المرارات حُلوة، وفي المحبَّة، يصبح كل النحاس ذهب، وفي المحبَّة تصبح كل السماء صافية، وفي المحبَّة تصبح كل الآلام شافية.
لقد ترك مولانا «جلال الدين الرومي» مواعظه وتدريسه، لقد ألقى كتبه التي كان يطالعها كل يوم جانبًا، وأصبح لا يسأل عن أحبابه ومُريديه، لقد مرَّ على قدوم «شمس الدين» على «قونية» عدة أشهر، ومولانا «جلال الدين» خلال هذه الفترة لم يمر بمدرسته ولو يومًا واحدًا ولم يظهر على طلابه أبدًا، كانت أهالي «قونية» تشكو من عدم رؤية مولاها.
وفي كل شرائح مجتمع «قونية» تقريبا هبَّت ريح الاعتراض والثورة على هذا الجديد، من كان هذا الدرويش القادم؟ وماذا كان يريد؟ وكيف حالَ بين مولانا ومُحِبّيه؟ وكيف أنساه كل وظائفه؟ والشيء الأهم أن مولانا «جلال الدين» الذي أكمل مرحلة تحصيل العلوم الدينية والدنيوية وارتقى إلى مقام الفتوى، ما الذي بقى أن يتعلَّمه من «شمس الدين التبريزي»؟ وماذا كان يجد في صحبته؟
الباحثون لمولانا جلال الدين يطلقون على هذا اللقاء: «مرج البحرين» كما ورد في القرآن الكريم، أي التقاء البحرين. [1] [3]
الإلهام إلى كتابة «قواعد العِشق الأربعون»
وفي حقيقة الأمر، الذي تغيَّر بـ «شمس الدين التبريزي» هو تعرُّف مولانا «جلال الدين» على العشق، فلُب وخلاصة هذا اللقاء الأول هو إشعال نار العشق في مولانا، وهجره لكل شيء ونبذه لكل القشور.
وكان اعتكاف «شمس التبريزي» و«جلال الدين الرومي» أربعون يومًا لكتابة «قواعد العشق الأربعون» هو سرّ ذلك الاختفاء الغير مُعلَّل.
ولكن في الحقيقة هذا ليس خاصًا بمولانا «جلال الدين الرومي» وحده، فهناك نقطة تحول في حياة كثير من العارفين المسلمين كـ «الغزالي» تتمثَّل في نبذه للكتب وإضرامها، ونبذ كل ما يمتُّ للعقل بصلة، والامتزاج والانصهار بالعشق الإلهيّ والفناء به، طبعًا هذا وإن لم تكن مرحلة مطرّدة في حياة الجميع، إلا إنها مرحلة هامة في حياة العلماء والعارفين. [1]
يا قلبُ لا تجالس الا الذين يفهمونك ويعرفون حقيقتك، يا قلب لا تجلس إلا تحت الشجرة المُزهرة، فلندر حول قلوبنا فإن في كل قلب كونًا مخفيًا.
ازدادت الشكاوى، وكَثُر اللوم، حيثُ إن البعض هددوا «شمس الدين» بالقتل، و«شمس الدين» الذي اعتقد انه سبب لكل هذه الأحداث والتطوّرات؛ قرر فورًا أن يغادر البلد، فترك «قونية» في إحدى الليالي دون أن يعلم به أحد، لم يكن أحد قد شاهد قدومه إلى «قونية»، ولم يشاهده أحد عند مُغادرته.
سيرى البعض أن فراق «شمس الدين التبريزي» لـ «جلال الدين الرومي» هو تجلٍّ من تجليات الجلال، كما أن لقاءهما تجلٍّ من تجليات الجمال فهناك الجلال والجمال في تربية كل منهما للآخر وإلى جانب الجماليات هناك أيضًا الهموم والمشقة والفراق.
وكان «شمس الدين» مُستعدًّا لحرق تلميذه عندما غادر إلى الشام، حيث كان يعرف أن الشيء الوحيد الذي يحرق هو الشوق والحنين. [1]
سمعت عزمك على فراقنا، رجاءً لا تفعل. تميلُ إلى حميمٍ وصديقٍ آخر؟ رجاءً لا تفعل. عمَّا تبحث في عالم الغربة يا غريب؟ وأي فؤادٍ مريض تقصد؟ رجاءً لا تفعل. لا تسرقنا منا. لا تتركنا وتغادر إلى الغربة؛ بهذا تصيب المسروقين الآخرين، رجاءً لا تفعل. يا من تهدَّم القمر والكون من أجله، إنك تهدمنا هدمًا، رجاءً لا تفعل. يا من مقامه فوق الوجود والعدم، إنك بهذا تترك مجال الوجود، رجاءً لا تقعل.
لا تأتي الأخبار من شمس الدين أبدًا، حتى إن البعض أخذوا يأتون لجلال الدين بأخبار مُتضاربة عنه، فيأتي واحد ويقول أنا رأيت شمس الدين في مكان كذا في الشام وكان يفعل كذا، فيعطيه جلال الدين منديله. ويأتي آخر ويقول سمعت شمس الدين يقول كذا، فيقدم له جلال الدين رداءه، إلى أن أصبح كل من يعرف جلال الدين يقدم له أخبار عن «شمس»، فقالوا له يومًا:
أصبح الكل ياتون بأخبار عن شمس الدين، وكلها أخبار لا أصل لها!
فيرد مولانا:
والله لو كانوا يأتوني بأخبار صحيحة لأعطيت روحي.
وكل هذا يدل على شدة المحبة بين مولانا جلال الدين الرومي وشمس التبريزي.
وبعد بضعة أشهر يأتي الخبر الأول الأكيد عن شمس الدين: هُناك من رأوه في الشام، فيرسل جلال الدين ابنه «السلطان ولد» ليحضر «شمس الدين».
كان «السلطان ولد» ابن جلال الدين يمشي طول الطريق من الشام إلى قونية و«شمس الدين» على الفرس، وكان الحديث مستمرًا طوال هذه الرحلة، فكان «شمس الدين» يروي و«السلطان ولد» يستمع.
أيها المُسلم، إن الأدب ليس إلا في تحمُّل من كل من لا أدب عنده، فكل من تراه يشكو قائلًا: إن فلان سيء الطبع وسيء الجبِلَّة، فأعلم إن ذلك الشاكي سيء الطبع؛ ذلك إنه أساء القول في سيء الطبع ذلك. ذلك أن حسن الطبع ذلك الذي يكون في استسلام متحمِّلًا لسيء الطبع والجبِلَّة.
وفي شهر أيار من عام 1247م كان فصل الربيع في قونية، وكان الربيع الحقيقيّ في مدرسة مولانا «جلال الدين»، فكان «شمس الدين» يأتي إلى «جلال الدين» كل يوم.. «شمس الدين التبريزي» المُنتظَر بشوق منذ شهور يحضر أخيرًا، وكان مولانا «جلال الدين» يستقبل «شمس الدين» ويدعوه إلى المدرسة فيدخلان معًا، ينغلق الباب رويدًا رويدًا كما كان من قبل، وتبدأ المحبَّة والصُحبة من جديد، والقيل والقال أيضًا.
الطُلَّاب ومُرتادوا المسجد من جانب، وتلاميذ مولانا من جانب، لم يرضوا لدرويشٍ غريب أن ينتزع منهم أستاذهم ويبعده عن دروسه ومحبيه، لم يكن أحد يفهم ذلك.
ثُمَّ يغيب «شمس الدين» ليلًا من شهر ديسمبر في نفس السنة، لكن هذه المرة لم يرد عنه خبر، ولم يعد مرةً ثانية، ولم يتمكّن التاريخ حتى الآن من الإجابة على الأسئلة التي تركها «شمس الدين» خلفه في جُنح تلك الليلة، فهل قُتل شمس الدين التبريزيّ؟ [1] [4]
ولكن ما الفائدة؟ فهكذا الجميع، يرحلون بعد إتمام مهمتهم.
ليس أكثر من ثلاثة أقوال، كل حياتي عبارة عن ثلاثة أقوال: كنت فجًّا، فنضجت، فاحترقت.
انخراط جلال الدين في عِشق الصوفية
مولانا جلال الدين في شوقٍ وحنين، كان يريد أن يبقى وحيدًا وأن يعيش ألم الفراق وحده، لكن الدائرة حوله كانت تتسع يومًا بعد يوم، وقد التف حوله التلاميذ والعلماء والمرشدون والمريدون والدراويش من جديد.
ففي يومٍ من الأيام في ساعات العصر كان مولانا جلال الدين يمر من سوق «قونية»، وكان رأسه منحنيًا أمامه، يمشي رويدًا، وفي إحدى اللحظات كان يمر على سوق الذهب وردت على سمعه أصوات المطارق التي تطرق صحائف الذهب، تلك المطارق حوَّلت هموم جلال الدين إلى شوقٍ ورغبة. توقَّف، استمع مُدَّة إلى الأصوات، رفع يده اليمنى إلى مِقلاد فراجته، العينان مغمضتان، والرأس ساقط على الكتف الأيمن، فدار دورتين معتمدًا على رجله اليمنى، ثم شرع في الدوران، أصوات المطارق أصبحت تبدو له أكثر قوة، وحين شاهد صاحب المحل: «صلاح الدين» إن مولانا بدأ بسماع أصوات المطارق تشوّق وأمر عُمَّاله بألا يتوقَّفوا عن الطرق، وألا يقلقوا على صحائف الذهب، بل يطرقوا أكثر فأكثر.
إن هذه الحياة أقصر من شقهة وزفيرها؛ فلا تغرس فيها إلا بذور المحبَّة.
لقد امتزج مولانا بالعشق تمامًا.
لقد كان السكون، والدوران -جهة القلب- المبدوء باسم الله -والذي يشبه الطواف- أشبه عند جلال الدين بالعبادة، فهو كان يرى في السماع ما يكفي من التأمُّل والتفكُّر الذي يصل به إلى درجة العشق الإلهي الذي قضى عمره يبحث عنه. (1)
هل تعرف ما السماع؟ هو سماع النداء، ونِسيان النفس، والوصال إلى الله، هو الغفلة عن الوجود، وتذوق البقاء في الفناء المطلق.
في ذلك اليوم عاد «صلاح الدين» مع مولانا جلال الدين إلى المدرسة فأصبح درويشًا ثم خليفة ثم صاهره، مرت عشر سنوات على بداية الصداقة بينهما، سيكون الفراق قريبًا للمرة الثالثة.
لم تكن وفاة صلاح الدين الزرقوبي هلاكًا ولا غيابًا، فقد أصبح جلال الدين يعرف أنه رسخ تمامًا في قلب كل من رحلَ.
لا تجزع من جُرحك وإلا فكيف للنور ان يتسلل إلى باطنك!؟
جلال الدين شاعرًا
اتَّسم شعر «جلال الدين الرومي» بالنزعة الصوفية الخالصة؛ فقد كان شعره أدبًا صوفيًّا كاملًا، له كل المقومات الأدبية، وليس مجرد تدفُّق شعوري قوي، أو فوران عاطفي جيَّاش يعبر به عن نفسه في بضعة أبيات كغيره من الشعراء، وإنما كان شعره يتميز بتنوع الأخيلة وأصالتها، ويتجلَّى فيه عمق الشعور ورصانة الأفكار، مع سعة العلم وجلال التصوير وروعة البيان.
ويُعد «جلال الدين» شاعرًا من الطبقة الأولى؛ فهو قويّ البيان، فيَّاض الخيال، بارع التصوير، يوضح المعنى الواحد في صور مختلفة، له قدرة على توليد المعاني واسترسال الأفكار، ويتَّسم بالبراعة في انتقاء الألفاظ واختيار بحور الشعر، وتسخير اللغة والتحكم في الألفاظ. [2]
أنصت إلى الـنـاي يـحـكي حكايـتـه ومن ألم الفراق يبث شكايته
ومـذ قـطـعت من الـغاب والرجــال والـنســاء لأنــيــنــي يــبــكــون
أريد صـدرًا مِزَقًا مِزَقًا برَّحه الفراق لأبـــوح لـــه بألـــم الاشـتــيــاق
حسام الدين شلبي في حياة جلال الدين: المُلهِم
وبعد وفاة «صلاح الدين» اختار جلال الدين «حسام الدين شلبي» خليفةً له، ذلك الشاب الذي كان طالبًا له منذ أول شبابه، «حسام الدين» بعد خمسة عشر عامًا من طلب العلم سيصبح أخيرًا خليفة لمولانا، ولقد كان «حسام الدين» أفضل الخلفاء لجلال الدين على الإطلاق.. كانا يذهبان معًا إلى عالم آخر.
الإلهام إلى كتابة «المثنويّ»
والآن حان تسجيل كل اللحظات السابقة من حياة جلال الدين الرومي، فقد كان يلح «حسام الدين» على مولانا بالبدء في الـ «المثنوي»، وكان هو سبب إلهامه له؛ لذا فنحن لهذا اليوم مدينون له بالشكر؛ فلو لم يكن «حسام الدين شلبي» لم نكن لنعرف مولانا جلال الدين الرومي.
ففي يوم من الأيام يعرض شلبي رأيه في كتابة «المثنويّ»، فيبتسم جلال الدين ويمد له بضعة وريقات مبدئية ويقول له اقرأ، فيبدأ بقراءة الأبيات الثمانية عشر الأولى من المثنوي التي جعلت الناس تجتمع حوله منذ ذاك اليوم؟
وهو يبدأ بالحديث عن القرآن، ثم تتدلى فيه المواعظ والحِكَم والأحاديث، فهو يعرض موضوعاته بالأشعار وضرب الأمثال، وهدفه الأساسي هو الوصال: أي الإيصال إلى الحق واليقين.
إنه كتابٌ عظيم، ولكن بعض الناس يقرؤونه على إنه كتاب عن العشق ويقولون: إنه يقدم قصص الحب تقديمًا رائعًا كأنه مجموعة قصص حيوانات من قبيل كليلة ودِمنة. والبعض ينظر إليه على إنه يقوم بتقديم حكايات خارج حدود الأدب. [1] [5]
يكتب مولانا ما يقرب من الأربعة وعشرين ألف بيت، لكنه يقول في الأخير:
اسكت، كفى، لقد تكلمت كثيرًا، والكلام بعد مدة لا يفيد. اسكت، فهناك شيء يسمَّى بـ «صوت السكوت». وهناك أشياء تظهر فقط عند السكوت.
لذلك بعد قراءة «المثنوي» يجب عليك أن تسكت ليظهر المعنى. ولقد انتشر «المثنوي» في العصر الحديث حتى بلغت مبيعاته في العالم 25 مليون نسخة، وكان مصدر إلهام للكثير من الحكايات المعنوية.
- مجلد «المثنويّ» بأحد المتاحف
الفراق الحتميّ والأخير
وفي عام 1273م في فصل الخريف في «قونية»، وقع زلزال كبير، واقتلعت الأرض من مكانها، وقال مولانا:
لا تخافوا، جاعت بطن الأرض، ففي الأيام الأخيرة تريد لقمة أخيرة لعلها تقضي حاجتها وتستريحون
وبعد أيام أقعده مرض شديد، فلم يكن يقو على الحراك، ولزم جسده المُرهق الفراش، على رأس الفراش: ابنه «السطان ولد»، وعلى اليمين: «حسام الدين شلبي»، وليس على شفاة جلال الدين إلا الشهادتين.. منتظرًا وقت الوصال.
وأخيرا في السابع عشر من ديسمبر عام 1273م، سُلِّمَت الأمانة إلى صاحبها، كشابٍ عروس ليلة العُرس، ونهار اللقاء بالمولى الحبيب. [1]
أنا أوصيكم أن تتقوا الله بالسر والعلن. وأوصيكم بقلة الطعام، والكلام، والمنام، والابتعاد عن الحرام، ومواظبة الصلاة، والصيام، وتجنُّب الشهوات، والسُّفهاء من الأنام، ومصاحبة الكاملين والعلماء والأعلام واعلموا أن خير الناس، أنفع الناس
كتابة وإعداد: هبة خميس
مُراجعة علمية ولُغوية: آلاء مرزوق
المصادر:
- aljazeeradoc. “مولانا جلال الدين الرومي.”YouTube, YouTube, 10 Feb. 2016, www.youtube.com/watch?v=3DP4LREqohE. https://bit.ly/29MI4DQ
- تاريخ الأدب العربي: كارل بروكلمان. أشرف على الترجمة: أ.د. محمود فهمي حجازي. الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة: 1413 هـ – 1993م. القسم الرابع: 7-8.
- دائرة المعارف الإسلامية: هـ. سما. بروفنسال ترجمة: إبراهيم زكي خورشيد. أحمد الشنتناوي. د. عبد الحميد يونس. دار الشعب. القاهرة: [د.ت]. المجلد: 12.
- مولانا جلال الدين الرومي وجولة في ديوانه شمس تبريزي: د. مختار الوكيل. مجلة المنتدى بالعدد الأول. السنة الأولى: صيف 1978م.
- مثنوي مولانا جلال الدين الرومي. ترجمة إبراهيم الدسوقي شتا. الزهراء للإعلام العربي. القاهرة 1412 هـ – 1992م.