ميكانيكا الكم بين يديك

ميكانيكا الكم بين يديك

قد تبدو ميكانيكا الكم للقارئ فيها للوهلةِ الأولى بالنظرية الخيالية التي تصف عالمًا من الأشباح غير عالمنا. كيف لقططٍ افتراضيةٍ أن تُوصَفَ بالحياة والموت في نفس الوقت؟ أو لفوتونٍ مُحدَّدٍ أن يذهب في اتجاهين في الوقت ذاته؟ كيف لمثل هذه النظرية أن تفسر أيًّا مما نراه في حياتنا اليومية؟

من الجهاز الذي تقرأ من خلاله هذا المقال إلى ذرات الكاربون في ال(DNA) خاصتك، تجد ميكانيكا الكم تلعب دورًا حيويًّا في هذه الآفاق.

لنرى إذَن حصادَ رحلةِ الـ100 عامٍ من ميكانيكا الكم!

حال العلوم الطبيعية قبل 1900م

قبل أن نعرف ما أضافته ميكانيكا الكم إلى حياتنا اليومية، علينا أن نفهم أولًا كيف غيَّرت ميكانيكا الكم مجرى الفيزياء والعلوم الطبيعية على حدٍّ سواء. بالعودةِ إلى الفترة التي سبقت نظرية بلانك حول تكميم الطاقة الحرارية، كان الباحثون منصبين على دراسة الخصائص المختلفة للمواد كأطياف الذرات المختلفة ومعاملات انكسار الضوء في المواد، ومعاملات التوصيلية والمقاومة الكهربية للمعادن المختلفة، فتجد مثلًا آلاف الأوراق قد نشرت عن الطول الموجي لأطياف ذرات مختلفة دون ورقةٍ واحدةٍ تخبرنا لماذا تظهر خطوط الأطياف وما مدلولها، والجدول الدوري ذاته الذي يُعتبر طريقة تنظيمية مُثلى للعناصر، لم يكن قائمًا البتة على أساسٍ نظري.

قدَّمت ميكانيكا الكم تفسيرًا كميَّا للمادة، معلنةً بذلك عن انتهاء عصر الفقر النظري، بفضل تلك النظرية نحن الآن على دراية بكل تفاصيل التركيب الذري، والجدول الدوري وُضِع له تفسير نظري مبسط، وآلاف الصفحات من خطوط الطيف يمكن الآن وضعها تحت إطارٍ نظريٍّ أنيق، وقد عززت نظرية ميكايكا الكم فهمنا الكمي للجزيئات، والمواد الصلبة والسائلة، بالإضافة إلى الموصلات وأشباه الموصلات، وهي في الوقت ذاته تعطي شرحًا دقيقًا للعديد من الظواهر العجيبة في الحياة، مثل التوصيلية الفائقة، والميوعة الفائقة، والحالات الأكثر غرابةً للمادة مثل مادة النجوم النيوترونية و(تكاثف بوز-آينشتاين – Bose-Einstein condensate) الذي تظهر فيه ذراتُ الغاز كما لو كانت (ذرة فائقة – super-atom) واحدة. ولذلك أصبحت ميكانيكا الكم هي بعينها الأداة الأساسية للعلوم ولكل تكنولوجيا حديثة. [3]

المفتاح لعالم الإلكترونيات

في حوارٍ له مع مجلة (العلمي الأمريكي – Scientific American)، قدَّم البروفيسور جيمس كاكاليوس (بجامعة مينيسوتا – University of Minnesota) هذا الحوار[1]:

على الرغم من كل العجائب الموجودة في العالم الكمِّي، إذا استطاع المرء أن يتقبل ثلاث حقائق كمية أساسية وهي:  أن الضوء يتكون من جسيمات، والمواد لها طول موجي مصاحب لحركتها، وأن كلًّا من الضوء والمادة لهما (لف مغزلي – spin) ذو قيم محددة، فسيكون بإمكاننا فهم كيف يعمل الليزر والترانزيستور وكثير من تطبيقات التكنولوجيا الحديثة.
لنأخذ الليزر مثلًا في عين الاعتبار؛ فتخبرنا معادلات شرودنجر أن الإلكترون في الذرة يمكن أن يكون له قيم متقطعة معينة (كأن نقول مثلًا أن الإلكترون له طاقة تساوي 1 أو2 ولا تساوي أي قيمة بين هاتين القيمتين)، وهذا قد تم تأكيده عمليًّا، وهو بالمناسبة سبب ظهور الأطوال الموجية للذرات على الشكل المتقطع الذي تظهر عليه، ولشرح كيفية عمل الليزر دعونا نأخذ هذا المثال لتوضيح الصورة. لنقل أنك الآن جالسٌ في مدرج أمام مسرح، تستمتع بمشاهدة عرضٍ موسيقيٍّ في مقعدك الخلفي، ولكنك لاحظت مع الوقت وجود شرفة علوية أعلاك فقررت الصعود إليها، من المعروف أنك تحتاج إلى اكتساب طاقة وضع كي تنتقل إلى هناك، وعند وصولك إلى الشرفة وقبل استقرارك فيها وجدت طابقًا أوسط بين شرفتك العليا ومقعدك الأخير، فغيرت رأيك واتجهت إلى هذا الطابق مباشرةً، بعد وقت ليس بطويلٍ من مكوثك هناك قررت أن تنزل مجددًا إلى المقعد الذي تركته أولًا لتجد أن كل رفقائك في هذا الصف الأخير قد رافقوك في رحلتك من المقعد إلى الشرفة إلى الطابق الأوسط رجوعًا إلى المقعد مجددًا.

ميكانيكا الكم بين يديك
شعاع ليزر أخضر متوسط الكثافة. المصدر:Seibersdorf Labor

لنعِد صياغة هذا المثال مجددًا ولكن لنستعِض عن الحاضرين بالإلكترونات وعن المقاعد والشرفة بمدارات الطاقة المسموح بها للإلكترون، فلكي ينطلق الإلكترون من مدار الطاقة الأخير إلى مدار طاقة أعلى عليه أولًا أن يكتسب طاقة، وبعد نزوله إلى الطبقة المتوسطة التي تُسمَّى في حالة الإلكترون بمدار الطاقة شبه الاستقراري (Metastable Energy level ) يمكث هناك فترة تصل إلى جزء من 100 مليون جزء من الثانية (يبدو أن الإلكترونات سريعة الملل)، ثم يعود إلى مداره الذي بدأ من ليستقر فيه، ولكن في عودته لا بد أن يفقد الطاقة التي اكتسبها على شكل ضوء له طول موجي (لون) محدد، ونحن قلنا من مثالنا الذي ذكرناه أن هذا الإلكترون لم يذهب في تلك الرحلة وحده، بل شاركه فيها العديد من الإلكترونات الأخرى، وفي اللحظة التي تنزل فيها جحافل الإلكترونات متزامنةً من الطبقة الوسطى إلى المدار الأصلي، تطلق موجاتٌ من الضوء متزامنة ولها نفس الطول الموجي (اللون). بزيادة عدد الإلكترونات المشاركة في هذه الرحلة يكون لدينا شعاع ليزر ذو طاقة أعلى. ببساطة شديدة، هذا ما يحدث داخل جهاز الليزر على المستوى الكمي. لم يكن الذي استخدم قوانين ميكانيكا الكم لصنع الليزر على دراية بكيفية استخدام الليزر، ولكن الآن نعرف جيدًا أهمية استخدامه في مشغلات ال CD والاستخدامات الطبية، والعسكرية، والصناعية الأخرى.
الأمر ذاته بالنسبة إلى الترانزيستورات، فقد صنعت هذه العقول الصغيرة لتمثل (عنصر منطقي – Logic element) في الدوائر الكهربية التي كانت تستخدم في البداية فقط لتكبير موجات الراديو. فبوصل الترانزيستور بجهد كهربي يوجد احتمالان، إما أن يسمح الترانزيستور للإلكترون أن يمر وهذا ما نطلق عليه مجازًا (1)، وإما أن يجعل من الصعب جدًّا على الإلكترون أن يمر وهذا ما نطلق عليه (0). إذا جمعنا أكبر عدد من هذه الترانزيستورات بطريقة ذكية يمكنا عمل لغة كاملة من ال(0) وال(1) التي تعتبر الشيفرة الحالية التي تحمل في طياتها كل حرف في هذا المقال الذي تقرؤه من جهازك.

ميكانيكا الكم بين يديك
دائرة كهربية (لوحة أم) تحتوي على ترانزيستورات و إلكتونيات أخرى.

هل كان الجيل الأول من علماء ميكانيكا الكم على درايةٍ بكل ما سَتُحدِثُهُ نظرياتهم -التي بَدَت بعيدةً كل البعد عن التطبيق في عالمنا اليومي- في عالم التكنولوجيا؟ بالطبع لا؛ لكن المشترك بينهم هي المنهجية العلمية التي جعلتهم يضعون افتراضات أفضل لتفسير ظواهر لم تكن الفيزياء الكلاسيكية قادرة على تفسيرها والإيمان بهذه الافتراضات كنظرية مقبولة طالما وافقتها الاختبارات العملية.

ميكانيكا الكم في عين عصفور [2]

قد تبدو ميكانيكا الكم لك الآن وأنت تقرأ هذا المقال نظرية قابلة للتطبيق على المجال الذري والجزيئي فقط، ولكن الحقيقة أن تأثيرها موجود وفعال في جسم الكائنات الحية. المعروف أن طائر (أبو الحناء – Robin) الأوروبي يهاجر سنويًا من الشمال إلى سواحل البحر المتوسط، لطالما كانت هذه الهجرة سبب حيرة طويلة؛ كيف يعرف طائر الروبين طريقه كل عام البالغ طوله آلاف الكيلومترات دون أن يَضِّل؟
قدَّم العلماء لتفسير هذه الظاهرة ستة مقترحات، لكن أيًّا منها لم يكن مرضيًا على الجانب العملي، لكن المتفق عليه أن هذه القدرة على معرفة الاتجاهات نابعة من خاصيَّة تسمى (الاستقبال المغناطيسي – Magnetoreception).
ظل الأمر على هذا الحال حتى عام 2000م حين قام كلٌّ من (ثوريستين ريتز – Thorsten Ritz) و(كلاوس شولتين – Klaus Schulten) بتقديم ورقة بحثية لنموذج[4] (زوج الجذور – Radical pair model)، والجذر في الكيمياء هو جزيء يحتوي على إلكترون وحيد (غير مشترك في رابطة أو متصل مع إلكترون آخر).

ميكانيكا الكم بين يديك
رسم توضيحي لنموذج زوج الجذور للعالم ريتز.

حسب هذا النموذج فكل شيء يحدث داخل بروتين يدعى الكريبتوكروم (Cryptochrome) يوجد داخل شبكية العين، فينص النموذج على أن تفاعل يحدث داخل الكريبتوكروم ينتج جزيئين كل منهما يحتوي على إلكترون وحيد. هذان الإلكترونان الوحيدان في حالة من التشابك الكمي بحيث إن اتجاه اللف المغزلي لأحدهما يؤثر على اتجاه الللف المغزلي للآخر لحظيًّا مهما كان البعد بينهما. هذا التشابك الكمي يعطينا احتمالين: الاحتمال الأول أن يكون اتجاه اللف المغزلي للإلكتونين دائمًا في نفس الاتجاه، والاحتمال الآخر أن يكون اتجاه اللف المغزلي للإلكترونين دائمًا في اتجاهين مختلفين. الذي يحدد أرجحية أحد احتمالي حالة التشابك الكمي هو التغير في اتجاه المجال المغناطيسي للأرض بالنسبة إلى العصفور. في كل احتمال من الاحتمالين يحدث تفاعل كيميائي مختلف ينتج مركبات بيولوجية مختلفة، وإذا كانت هذه المركبات يمكن أن تنقل من خلال إشارات عصبية إلى المخ، فسيكون لدينا نموذج كامل عن كيفية معرفة عصفور الروبين الأوروبي الاتجاهات من خلال نموذج يعتمد على مبدأ أساسي من مبادئ ميكانيكا الكم (التشابك الكمي) يبدأ بشبكية العين انتهاءً بالمخ.

نشر ريتز أيضًا ورقة أخرى في عام 2004 لتجربة له[5]؛ حيث عرَّض طيور الروبين إلى مجال مغناطيسي متذبذب قد توقع مسبقًا أن يبطل قدرة الروبين على معرفة الاتجاهات، وبالفعل قد حدث!

محدودية فهمنا لظاهرة ما لا تعني خطأها، ولا هي دلالة على قصورها، إنما هو قصور طبيعي في فهمنا لطبيعة ميكانيكا الكم، ولقد بدأنا في الآونة الأخيرة ذلك العصر الذي تفرض فيه ميكانيكا الكم نفسها بقوة فيما يتعلق بالتكنولوجيا الحديثة أو تفسير الظواهر التي لم يكن لها تفسير من قب.

أما إن كنت من الذين لا يفهمون ميكانيكا الكم، فلا تقلق، لست وحدك! إنما هي فقط المرجعية العلمية التي تجعلنا نعلم أن ما قاله العقل السليم وصدقته التجربة المضبوطة هو علم راسخ سواء صادف هوانا أم خالفه، ونحن في انتظار المزيد من عجائب ميكانيكا الكم أن تغير صورة الحياة التي عرفناها.


المصادر:

[1] Matson, J. (2010, November 2). What Is Quantum Mechanics Good for? Retrieved from https://www.scientificamerican.com/article/everyday-quantum-physics/.

[2] OFFORD, C. A. T. H. E. R. I. N. E. (2019, June 1). Quantum Biology May Help Solve Some of Life’s Greatest Mysteries. Retrieved from https://www.the-scientist.com/features/quantum-biology-may-help-solve-some-of-lifes-greatest-mysteries-65873.

[3] Kleppner, D. (2000). One Hundred Years of Quantum Physics. Science, 289(5481), 893–898. doi: 10.1126/science.289.5481.893

[4] Ritz, T., Adem, S., & Schulten, K. (2000). A Model for Photoreceptor-Based Magnetoreception in Birds. Biophysical Journal78(2), 707–718. doi: 10.1016/s0006-3495(00)76629-x

[5] Ritz, T., Thalau, P., Phillips, J. B., Wiltschko, R., & Wiltschko, W. (2004). Resonance effects indicate a radical-pair mechanism for avian magnetic compass. Nature429(6988), 177–180. doi: 10.1038/nature02534

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي