ميكانيكا الموائع (الجزء 2)

ميكانيكا الموائع (الجزء 2)

في المقالة السابقة أخذنا لمحة عن فرعٍ جديدٍ من أفرع الفيزياء وهو ميكانيكا الموائع، وها نحن هنا في طريقنا لإكمال ما بدأنا، لنتعرف معًا إلى خصائص تلك الموائع، التي ستفتح لنا الباب لفهم ظواهر حياتيّة، قد لا يكون لها تفسير عند بعضنا.

أنواع خصائص الموائع

إن تقسيم الخصائص (التي هي بدورها تقسيم للشكل الذي يظهر عليه النظام الفيزيائيّ) دلالة على أهمية تنظيم الملاحظات العلميّة، إلى أقسام لها خصائص محددة، لتسهيل دراستها، فالخصائص الفيزيائيّة نوعان: إمّا مُكَثّفة أو شُمُوليّة.

الخصائص المكثّفة (Intensive properties)

هي تلك الخصائص التي لا تعتمد على كتلة أو كمّيّة المادّة في النظام الفيزيائيّ.

الخصائص الشموليّة (Extensive properties)

هي الخصائص التي تعتمد على كتلة أو كمّيّة المادّة بداخل النظام.

ولمعرفة هل الخاصيّة التي نتعامل معها شموليّة أم مكثّفة علينا أن نسأل أنفسنا سؤالًا: إن قسّمنا النظام الفيزيائي المعزول إلى نصفين، هل تتأثر  قيمة تلك الخاصية في أي من النصفين عما كانت عليه سابقًا أم لا؟

سنجد أن قيمة بعض الخصائص مثل درجة الحرارة والضغط لم تتغير عنها في النظام الأساسيّ، أما الطاقة الكلية والكتلة والحجم فقيمتهم تصبح نصف القيمة للنظام الأصلي، ومن هنا نصل إلى أن الخاصّيّتين الأولتين هن خواص مكثّفة والخواص الأُخرى خواص شموليّة.

الاتصال

كم من الصعب أن تدرس سريان الماء في الأنبوب دراسة جزيئيّة، فتعامل المائع في الأنبوب على أنه جيش جرار من الجزيئات المتدفقة!
تسمح خاصّيّة الاتصال (Continuum) لنا أن ندرس إحدى خصائص المائع كدالّة تتغيّر باتصال بدون ثقوب، بحيث تكون للخاصّيّة قيمة مُحدَّدة في كل جزء من أجزاء المائع، وللاستمتاع بتلك الخاصّيّة لا بُدَّ أن يتوافر شرط في النظام الذي تدرِسه، وقبل أن أبين لك ذلك الشرط دعني أُبيّن لك أمرين:

أولًا : أن النظام الفيزيائيّ هو منطقة في الفراغ نهتم بدراسة الظواهر الفيزيائيّة داخلها ونختار أنْ نُهمل ما هو خارجها، وفي تلك الحالة قد يكون النظام، هو الغلاف الجوّي، أو البحر الأحمر، أو قطعة من أنبوب طولها متر، أو حيّز داخل الأنبوب على شكل مكعب طول ضلعه نانو متر واحد.

ثانيًّا : أن المسار الحر الوسطيّ  (Mean free path) لجزيء ما، هو متوسط المسافة التي يسيرها الجزيء في الفراغ قبل الاصطدام بجزيء آخر، ويرمز له بالرمز (ƛ).

والشرط للقول بأن جريان المائع، هو جريان متصل، هو أنه لا بد أن يكون ناتج قسمة  (ƛ) على (L) أقل من 0.01. حيث إن (L) هو أي من أبعاد النظام الفيزيائيّ الذي تدرسه وتريد أن تتحقّّق من اتصال المائع فيه. وتلك النسبة تُعرَّف بعدد كنودسن (Knudsen number).

الكثافة

الكثافة هي مقدار الكتلة مقسومة على الحجم الذي تشغله تلك الكتلة في الفراغ. وبشكلٍ عام فإن كثافة السوائل أكبر  من كثافة الغازات. والكثافة تتناسب عكسيًّا مع درجة الحرارة، فبزيادة درجة حرارة المائع تقل كثافته. والكثافة تتناسب طرديًّا مع الضغط بالنسبة للغازات، أما السوائل فكثافتها  تزداد بمقدار طفيف عند زيادة الضغط بشكلٍ كبيرٍ. فلك أن تعلم أن زيادة ضغط الماء لمائة ضعف، تؤدّي إلى زيادة الكثافة بنسبة نصف بالمائة فقط! من أجل ذلك فإن السوائل توصف أنها غير قابلة للانضغاط  (Incompressible) وهي صفة مهمة للسوائل، سنتطرَّق إليها لاحقًا.

ضغط البخار والحياة اليوميّة

ضع كوب ماء أمامك وانظر إليه. أنت ترى سائلًا ذا حجم ثابت، يملأ حيّزًا من الفراغ، لا ترى قطرات ماء تخرُّج منه راقصةً أو ما شابه. والحقيقة أن كل السوائل تكون في حالة اتزان بين الحالة السائلة والحالة الغازية، فبعض جزيئات الماء التي في الكوب تتحول إلى بخار ماء بشكل مستمر فتبتعد عن السطح، ثم تعود إليه مرة أخرى لتتحول إلى الحالة السائلة، وإذا قمنا بتغطية الكوب، واحتفظنا بدرجة حرارته، فإن عدد الجزيئات التي تتحول من الحالة السائلة إلى الغازية في أي وقت يساوي عَدَد الجزيئات العائدة من الحالة الغازيّة إلى سطح السائل مرة أخرى؛ وهذا يعرف باسم اتزان الحالة (phase Equilibrium)، ومعنى أن يكون معدل التبخر مساويًا لمعدل التكثف، معناه أن ضغط البخار المتجمع فوق سطح الماء ثابت، ومقدار ذلك الضغط هو ما يعرف بضغط البخار (Vapour pressure)، وضغط البخار يختلف من سائل لآخر، ولنفس السائل فإن ضغط البخار يتناسب طرديًا مع درجة الحرارة. أي أن كمية بخار الماء المتجمع فوق سطحه في درجة حرارة 90 درجة مئوية أعلى منها في درجة حرارة 5 مئوية.

ومن كلامي هذا نستنتج أنه إذا زادت درجة حرارة السائل فإن معدل التبخر سيزداد، دون زيادة ملحوظة في معدل التكثف إلى أن يصل ضغط البخار إلى الضغط المساوي لضغط البخار في درجة الحرارة الجديدة، عندئذ يصل السائل إلى اتزان الحالة.

سؤال من الحياة.. لماذا إذا انسكب كوب ماء على أرض ملساء في الشتاء، لا يلبث بضع ساعات حتى تجده قد تبخر؟ كثيرًا ما راودني هذا السؤال سابقًا والإجابة عنه كالتالي:-

ميكانيكا الموائع (الجزء 2)
قطرات مياه  منسكبة، على وشك أن تتبخر. بواسطة: Damir Mijailovic

دعونا في البداية نختار حيز النظام الفيزيائي الذي نريد دراسته، ولنقل أن هذا الحيز هو ارتفاع سنتيمتر واحد فوق سطح بقعة الماء، وبما أن درجة حرارة الغرفة منخفضة فقليل فقط من الماء سيخرج إلى السطح ليتحول إلى بخار ماء يملأ الحيز الذي ندرسه حتى نصل إلى قيمة ضغط البخار عند درجة الحرارة تلك فيساوي معدل التبخر معدل التكثيف، إلى هنا لم نفعل سوى أننا أعدنا ما قلنا مسبقًا، لكن الجديد أن النظام الذي اخترناه ليس نظامًا مغلقًا، فسرعان ما تأتي الريح الخفيفة مدفوعة بحركة الهواء في الغرفة، فتزيح ذلك الهواء المشبع بالبخار داخل الحيز  إلى خارجه، واضعة مكانه هواء جديدًا جافًا، وبقعة الماء لا حول لها ولا قوة، بذلت ما بذلت لتصل إلى اتزان الحالة، وها هي وقد ذهب كل ذلك سدًى تتبخر بعض جزيئاتها من جديد لتصل إلى درجة ضغط البخار للماء في تلك الدرجة، وما يلبث الحيز الذي ننظره أن يتشبع بالبخار حتى تذروه الرياح يمنة ويسرة خارج الحيز. والبقعة تعيد الكرة، مرة بعد مرة وهي تستنفذ، حتى تصير بخارًا قد تشتت في كل أنحاء الغرفة بعد ساعة أو ساعات.

التكهف: تطبيق حياتي على تبخر الموائع[2]،[3]

يوجد الماء على الأرض في الحالة السائلة بين درجة حرارة 0 و100 مئوية، وهذه المعلومة ينقصها أن الماء يكون سائلًا في ذاك الحيّز فقط عند الضغط الجوي، لكن إذا زاد الضغط أو قل فإنه ذلك الحيز يتغير. بل إنّه من الممكن أن يتبخر الماء عند درجة حرارة الغرفة إذا كانت الضغط منخفضًا بما فيه الكفاية. يمكنك رؤية ذلك في المقطع التالي: فإذا تم وضع كوب ماء في صندوق وتم تفريغ الهواء تدريجيًا من ذلك الصندوق فستجد الماء على حالته يبدأ في التبخر.

من هنا أصل إلى الاستنتاج أنه يمكن للماء ان يتبخر إذا انخفض الضغط بما فيه الكفاية.

ودعوني ألقي الضوء على أن ضغط الماء لا ينخفض فقط باستعمال مضخة تفريغ الهواء، بل إن المناطق التي يكون جريان المائع فيها أسرع يكون الضغط فيها أقل، فهب أن لدينا مروحة طوربيد لسفينة أو غواصة تدور تحت الماء بسرعة كبيرة، ستجد أن هذه المروحة عندما تدور تنتج وابلًا من فقاعات بخار الماء خلف المروحة. هذه الظاهرة تدعى التكهف – cavitation وهي تحدث لأن ضغط الماء عند حافة المروحة يكون قليلًا بما فيه الكفاية لتبخير الماء عند درجات الحرارة المنخفضة فتنتج فقاعات بخار الماء ، وهذه الظاهرة ستجدها أيضًا في الخلاط المنزلي، وأنابيب الماء حيث تجري المياه بسرعات عالية.

عند دراستي لتلك الظاهرة للمرة الأولى تعجبت من نظرة العلماء والمهندسين إلى التكهف على أنه ظاهرة خطيرة يجب التقليل منها. فمَ المانع أن نضيف بعض المرح إلى سريان المائع؟

والواقع أن تلك الظاهرة خطيرة حقًا، ففقاعات البخار سرعان ما تترك المروحة فتتحرك بضع سنتيمترات لتجد نفسها في منطقة ذات ضغط مرتفع وهذا الضغط يعتصرها فيضغطها ويشوه من شكلها حتى تنفجر مكونةً موجة صدمة وكأن موجة الصدمة هذه قد نتجت من قنبلة بحجم ضئيل، وموجة الصدمة هذه ترتطم بجدار المروحة أو جدار أنبوب المياه فيبدأ بالتآكل شيئًا فشيئًا إلى أن يبلى مع الوقت كما هو  مبين بالصورة في الأسفل، والحل لهذه المشكلة أن تدور مراوح السفينة أو الغواصة بشكل أبطأ للحد من ظاهرة التكهف، لكن هذا من شأنه أن يبطئ سرعة السفينة، لذا فإن جهود المهندسين تنصب في هذا المجال على تصميم مروحة ذات أشكال معينة بحيث تعطي أقوى قوة دفع ممكنة لأقل سرعة دوران للمروحة.

ميكانيكا الموائع (الجزء 2)
مروحة طوربيد متآكلة بسبب التكهف. By: ErikAxfah

 

شارك المقال:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي