ميكروبات الموت !

deathmicrobes

     عندما تموت الكائنات العليا بما فيها الإنسان؛ فإنَّ تريليونات من الميكروبات صغيرة الحجم والتي لا تُرى بالعين المجردة تعتاش على أجسادها من خلال عملية التحلل، والتي تبدأ أول أطوارها مباشرةً في خلال دقائق معدودة من توقف الجسم عن أداء وظائفه التي تعطيه صفة الحياة، ثم تستمر هذه العملية لفترة تتراوح من عدة أسابيع إلى عدةأشهر حتى يكون الجسم قد تحلل بالكامل.

     أَخَذَ مفهوم «التحليل الميكروبي ما بعد الممات-Postmortem Microbial Analysis» لأول مرة هيئته كفرع علمي مستقل عام 2014 م، حين حاول مجموعة من الباحثين الأمريكيين التعرف على التغيُّر الحاصل لتركيبة الأنواع الميكروبية التي تسكن جسم الإنسان بعد موته، مقارنةً بما كان عليه الحال أثناء حياته؛ لذا قام الباحثون بأخذ عينات للدم والأعضاء الداخلية الأخرى مثل: المخ والقلب والطحال والكبد، من مجموعة من الجثث البشرية، ثم قاموا بتحليلها للبحث عن أي علامة لوجود ميكروبي فيها؛ وقد أظهرت العينات تغيرًا مستمرًا كميًا-في الأعداد-، ونوعيًا-في الأنواع-للمحتوى الميكروبي للجسم مع مرور الوقت، وقد كانت النتائج مثيرةً مما دفع الباحثين إلى صك مصطلح جديد لهذا الفرع البحثي: «ثاناتوميكروبيوم-Thanatomicrobiome» 1,2)

التسمية:

     ليس للمصطلح الإنجليزي مقابل عربي مألوف، ولكن يمكننا مقاربة المعنى إلى العربية من خلال الإشارة إلى نقطتين:

  1. يُعرَف «ثاناتوس-Thanatos» وفقًا للأسطورة الإغريقية كشخصية تُجسِّد الموت، وهو ابن «نيكس-Nyx» إلهة الليل، و «إيريبوس-Erebus» إله الظلام، والأخ التوأم ـ«هيبونس-Hypons» إله النوم، وبذلك يكون ثاناتوس مسؤولًا عن وظيفة تتسم بالرهبة، وهي مرافقة أرواح البشر في رحلتهم من عالم الحياة إلى العالم السفلي، حيث تتمكن هذه الأرواح من مواصلة «الحياة» للأبد دون حاجة للجسد.3
  2. الشِق الثاني من المصطلح المُبتَدَع «ميكروبيوم-Microbiome» هو مصطلح علمي معروف، يمكن ترجمته للعربية إلى المحتوى الميكروبي، ومادمنا نتكلم عن الإنسان فيُعرف المحتوى الميكروبي بمجموع المحتوى الوراثي للكائنات الدقيقة التي تعيش على أو في جسم الإنسان أثناء حياته.4

     و على هذا يمكن اعتبار «المحتوى الميكروبي ما بعد الموت-Thanatomicrobiome» ترجمة مناسبة مقاربة للمعنى، ويمكن تعريفه ب: المحتوى الميكروبي الموجود في التجاويف والأعضاء الداخلية بعد الموت.5

حدود الفرع العلمي الجديد:

     يؤكد الباحثون على أنَّ الفرع الجديد يختص فقط بدراسة «الميكروبات أو الأحياء الدقيقة Microbes-» بعد الموت، تمييزًا له عن الفرع الآخر «نيكروبيوم-Necrobiome» والذي يُعنَى بدراسة كل الأنواع الحية التي تنمو على أجسام الكائنات الحية بعد موتها، بما فيها الكائنات العليا مثل الحشرات.

     كذلك فإنَّ الفرع الجديد يهتم بدراسة النشاط البكتيري بعد الموت في الأعضاء مثل الدم والمخ والأعضاء الداخلية، وهو بذلك يختلف عن دراسة المجتمعات الميكروبية التي تستقر أو تتحرك على أسطح الأجزاء المتحللة من الأجسام الميتة فيما يُعرف باسم «Epinecrotic microbial communities ».5

ماذا يحدث لأجسادنا بعد الموت؟

     بعد الموت، تبدأ أعداد الأنواع بكتيرية التي تعتمد بشكل أساسي على أنشطة الجسم الحي مثل «لاكتوباسيلاس-Lactobacillus» في التناقص التدريجي حتى الاختفاء، وبينما تختفي تلك الأنواع، تنتشر أنواع أخرى في أماكن لم تكن مأهولة بها من قبل، كبعض الأنواع التي كانت توجد طبيعيًا على الجلد تجد طريقها إلى الدم والعقد الليمفاوية، وبعض الأنواع التي توجد طبيعيًا في الأحشاء الهضمية تخترق الأمعاء الدقيقة وتنتشر في أعضاء أخرى. خلال سبعة أيام يصبح الجسد مستعمرًا بالكامل بالبكتيريا، حتى أكثر المواقع تعقيما في الجسد كالقلب تصبح موطنًا للبكتيريا؛ غير أنَّ ذلك لا يدوم للأبد، فمع جفاف الجسم، تموت البكتيريا أو تبحث عن بيئة أخرى مناسبة.1

كيف يمكن الاستفادة من هذه الدراسة؟

     توفر هذه الدراسة مجموعة من الأسس التي يقوم عليها فرع علمي، يمكن من خلالها دراسة التحولات التي تحدث للجثث واستنتاج معلومات ذات نفع منها.2

     حتى الآن، يعتبر التغيُّر الكمي والنوعي للكائنات الدقيقة خلال فترة زمنية محددةإحدى أهم النتائح الملموسة ذات التطبيق العملي من هذه الدراسة؛ فيمكن عن طريق هذه النتيجة تحديد ساعة الوفاة من خلال تقدير أعداد وتحديد أنواع البكتيريا الموجودة في الجثة.1

     يرى الباحثون أنَّ هذه الدراسة على ارتباط وثيق بفرع آخر من دراسة الميكروبات وهو ميكروبيولوجيا التشريح (Autopsy microbiology)؛ إذ يمكنها -على سبيل المثال- أن تؤكد وقوع عدوى قبل الوفاة عندما يكون سبب الوفاة غير معروف.2

     على الرغم من الجهود المبذولة في هذه الدراسة، فإنَّها لم تتطرق سوى إلى الزمن كعامل مؤثر على النمط الميكروبي، ومازال هناك مجموعة من العوامل الأخرى تنتظر الدراسة مثل: الرطوبة، والحرارة، وتأثير بعض الأمراض المزمنة، وتناول مواد دوائية أو كيميائية معينة على المحتوى الميكروبي ما بعد الموت.1

     تقدم هذه الدراسة، وما سوف يتلوها من دراسات في نفس المجال، معلومات قيمة تساعد على فهم أفضل للطب الشرعي وفروعه في المستقبل.

المصادر:

  1. http://sc.egyres.com/OfPsM
  2. Can, I., Javan, G.T., Pozhitkov, A.E. & Noble, P.A. Distinctive thanatomicrobiome signatures found in the blood and internal organs of humans. Journal of microbiological methods106, 1-7 (2014).Available at: http://sc.egyres.com/L6m39
  3. http://sc.egyres.com/y1VrP
  4. http://sc.egyres.com/622cv
  5. Javan, G.T., Finley, S.J., Abidin, Z. & Mulle, J.G. The Thanatomicrobiome: A Missing Piece of the Microbial Puzzle of Death. Frontiers in microbiology7, 225 (2016).Available at:http://sc.egyres.com/kXOyi

 

إعداد وتصميم:  Mohamed Abo-Elgheit 

مراجعة علمية: Mohamad Moustafa Ali

مراجعة لُغَويَّة: Omnea Abd El-Aleem

 

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي