ما هو إشعاع الخلفية الكونيّ الميكرونيّ؟
هو ذلك الإشعاع الذي يُغطِّي كافةَ أرجاءِ الكون كُلِّه، وله توزيعٌ متساوٍ في كل مكانٍ في الكون. وقد جاءَ بهذا التنبؤ العالمُ راف ألفيرن (Ralph Alpherin) عام 1948 بمساعدةِ العَالِمَين روبرت هيرمان وجورج جامو(Robert Herman and George Gamow) في بحثه عن التفاعلات الانصهارية النووية للانفجار العظيم.
في عام 1963 كان العالمان أرنو بينز وروبرت ويلسون ( Arno Penzias and Robert Wilson) يدرسا بعضَ الأشعة -التي تحمل تردد إشعاع الميكرويف- الضعيفة الصادرة من مجرة درب التبانة، وقد لاحظا انتشار ضوضاءٍ في هذه الإشارات غير معروفة المصدر. وفي البداية اعتقد العالمان أن هذه التداخلات في الموجات قد يكون مصدرها طيور الحمام التي تقف على هوائيات أجهزة الاستقبال، وبالفعل تم تنظيف الهوائيات، وبعدها لاحظا عودة هذه الضوضاء مرةً أخرى، وفي النهاية اتضح أنها عبارةٌ عن إشارةٍ حقيقيةٍ وليست تشوشًا سببه طيورُ الحمام.
وفي عام 1965 تم إثبات صحة اكتشاف شعاع الخلفية الميكروني، وأصبح دليلًا قويًا لنظرية الانفجار العظيم، وحصل العالمان بفضل جهودهما في دراسة هذا النوع من الإشعاع على جائزة نوبل في عام 1978.
سُمِّيَ بهذا الاسم لأننا إذا نظرنا للفضاءِ السحيق ورصدنا المسافات الشاسعة التي يغلبها السواد وهذا ما يُسمَّى بالخلفية الكونية، أما الميكروني لأنه إشعاعٌ كهرومغناطيسي يتواجد في تردد موجات الميكروويف.
صورة للكون تُوضِّح إشعاع الخلفية الميكروني وهي أيضًا تُوضِّح توزيع درجات الحرارة بمتوسط 2.725 كلفن. الصورة مُلتقطة بواسطة القمر الصناعي (كوبي) التابع لوكالة ناسا.
ما نعرفه اليوم عن الإشعاع الميكروني هو أنه طيفٌ من التردداتِ باردٌ للغاية، تبلغ درجة حرارته 2.725 كلفن. فهو يُعتبر إشعاعٌ كهرومغناطيسي يقع في تردد أشعة الميكروويف الغير مرئية. وبالطبع يتم رصد هذه الترددات من الأشعة بأجهزةِ استقبالٍ خاصة مثل التيليسكوبات الراديوية. ولو تخيلنا قدرة أعيننا على رؤية هذه الإشعاعات، فسوف نرى السماء متوهجةً من إشعاع الخلفية الكوني بشكلٍ مُنتظِمٍ ومُبدع.
وبفهم تَكوُّن هذه الإشعاعات يتضح أنها من بقايا الانفجار العظيم، وقد حاول الكثير من العلماء وضعَ تفسيرٍ لكيفية تَكوُّن هذا الإشعاع، ولكن لا تزال جميع التفسيرات مُجرَّدَ احتمالاتٍ لم تتحقق عمليًا.
يمكننا اعتبار أن فترة إعادة الاندماج في مرحلةٍ مُبكِّرة من الكون هي المرحلة التي نشأ فيها إشعاع الخلفية الميكرونيCMB (Cosmic Microwave Background) عندما بَردَ الكون لدرجةِ حرارةٍ تصل لـ5000 درجة على مقياس فِهرنهايت مما سَمحَ للإلكترونات والبروتونات بأن تُكوِّن الذرات الأولية في الكون (ذرات الهيدروجين)، حيث كان الكون قبل ذلك مجرد جسيماتٍ من الإلكترونات والبروتونات الحائرة في الفضاء الفسيح، ولم تكن لها فرصة في التمسك ببعضها البعض وتكوين النواة ومن ثم الذرة. وفي هذه المرحلة انطلقت الفوتونات المعروفة باسم إشعاع الخلفية الكوني، وتضائل تفاعلها مع الذرات مما سمح لها بالهروب والانطلاق.
بدأ إشعاع الخلفية الميكروني في الانبعاث منذ 13.7 مليار سنة مضت بعد الانفجار العظيم، قبل وقتٍ طويلٍ من تَكوُّن المجراتِ والنجوم.
ومن خلاصة دراسة الخصائصِ الفيزيائية للإشعاع يمكننا أن نُحدِّد مزيدًا من التفاصيلِ عن كيف كان الكون في مرحلةٍ مبكرةٍ جدًا منذ ولادته، حيث الإشعاع الذي نرصده اليوم قادمٌ إلينا من مسافةٍ بعيدةٍ جدًا.
من أهم المُلاحظات العلمية في القرن العشرين هي أن الكون يتوسَّع بشكلٍ هائلٍ، حيث كان الكون في الماضي أكبر كثافةً وأكثر سخونةً وأقل حجمًا، وقد كان الكون في نصف حجم ما هو عليهِ الآن، وكانت كثافة المادة أكبر بحوالي ثمانِ مرات، وكانت درجة حرارة أشعة الخلفية الميكرونية ضعف ما هي عليه الآن، وفي مثل هكذا درجة حرارة مرتفعة كانت ذرات الهيدروجين متأينة؛ بمعنى أنها كانت عبارة عن بروتون وإلكترون غير مرتبطتين ببعضهما بعضًا. وفي هذه الأثناء لم تكن توجد هناك ذرةٌ في الكون، بل كانت عبارة عن إلكتروناتٍ متبعثرة، وكانت فوتونات إشعاع الخلفية الميكروني منتشرةً في الفضاء مثل الضوء في الضباب، بحيث لم تكن لها الفرصة للهروب من التفاعل مع الجسيمات المتبعثرة مرةً أخرى.
وعند دراسة إشعاع الخلفية الكوني يُعامل وكأنه إشعاع الجسم الأسود وفقًا لما تنبأت به نظرية الانفجار العظيم. وقد تحقق ذلك عمليًا عن طريق تجربة FIRAS على القمر الصناعي (كوبي) التابع لناسا (NASA’s COBE satellite).
تُوضِّح الصورة منحنى إشعاع الخلفية الميكروني وهو يبدو مماثلًا لإشعاع الجسم الأسود
ونظرية الانفجار العظيم تتنبأ بخصائصَ هذا الإشعاع
- فوتونات هذا الإشعاع تخضع لنظرية إشعاع الجسم الأسود، وفي الصورة نُلاحظ تتطابق منحنى الجسم الأسود مع أشعة CMB، ولكن لا يمكننا الحكم على دقة هذه البيانات من مجرد منحنى نظري.
- انبعثت فوتونات إشعاع الخلفية الميكروني CMB في فترة إعادة الاندماج من عمر الكون عندما كانت درجة حرارته 3000 درجة على مقياسِ كلفن، وكانت هذه الفوتونات مُزاحةً نحو الطول الموجي الأعلى وهو الأحمر، وفي رحلةٍ تقرب لـ13 مليار عامٍ عَبْرَ الفضاء الشاسع امتدت هذه الفوتونات لمنطقة أشعة الميكرويف في الطيف الكهرومغناطيسي، مع هبوطٍ ملحوظٍ في درجة الحرارة، إلى أن وصلت لـ 2.725 درجة كلفنية.
بالرغم من أن نظرية الانفجار العظيم لم تضع في الحسبان كل الملاحظات لخصائص CMB
إشعاع الخلفية الميكروني ممتدٌ في كلِّ أرجاء الكون، ومنتشرٌ بالتساوي تقريبًا في كلِّ جزءٍ من الكون، وهذا يُرجِّح فرضية أن الكونَ امتد بشكلٍ كبيرٍ وكانت فيما مضى متصلةً ببعضها بعضًا لتحقيق التعادل الحراري.
في الصورة توجد فروقٌ طفيفة في توزيع درجات الحرارة. الخط المنحني في الصورة هو الحد ما بين النصف الشمالي والنصف الجنوبي للسماء، وبسبب شكل توزيع الحرارة بهذه الصورة يؤكد ذلك نظريةَ الانفجار العظيم، ولكن توجد هناك بعض الشكوك:
- النصف الجنوبي درجة الحرارة به أعلى من النصف الشمالي
- المنطقة المُحاطة بدائرة في الأسفل تُسمَّى البقعة الباردة (cold spot) وهي تبدو أكبرَ من المتوقع.
ولكن نظرية الانفجار العظيم تتوقع توزيعًا متساويًا لدرجات الحرارة في الكون.
كما أن إشعاع الخلفية الميكروني مَنَحَنَا بعضَ المعلومات عن تكوين الكون، حيث اتضح أن معظم الكون يتكون من الطاقة المظلمة، وهي القوة الخفية المسؤولة عن تمدد الكون، والمادة المظلمة المسؤولة عن تماسك الكون بفعل جاذبيتها، والمادة المنظورة وهي التي نستطيع رصدها وتتكون منها كل الأجرام السماوية بما فيها مجرتنا ومجموعتنا الشمسية وكل الكواكب والنجوم التي نستطيع رصدها ليلًا.
مصــادر :
إعــداد: Abdelaziz Mohamed
مراجـعة علمية: Mostafa Ahmed Ali
مراجعة لغوية: Mohamed Sayed Elgohary