كنّا قد بدأنا آنفًا سلسةً عن نشأةِ الأدبِ في مِصر القديمة توقًا لمعرفة كيف بدأ السابقون وكيف كانت ملامحُ حياتِهم التي نقلوها تدوينًا وتوثيقًا لما ارتشفوه من تجاربِ الحياةِ على اختلافِ ألوانِها وشتَّى مناحيها؛ علمًا و أدبًا وفنًا فـ تنقشُ أناملُهم تاريخَهم سطورًا على جدرانِ المعابدِ، والمسلّاتِ، وصحائفِ البردي؛ لتخلِّفَ أثرًا كلما تعتَّق بقَنينةِ الزَّمن كلما زادَ أصالةً وعَبَقًا..
توقفنا في المقالِ الأوَّل من سلسلةِ نشأة الأدبِ في مِصر القديمة بختامِ حقبة المملكة القديمة تمهيدًا لما سيعقُبُها في المملكة الوسطى..
إن المملكة الوُسطى تُعد عصرًا ذهبيًا للأدب المصري القديم؛ حيث ظهر خلال هذا العصر ما تم تصنيفه أنه المخطوطات المصرية الوسيطة؛ بما تحتويه من أرقى شكل للهيروغليفية والتي يمكن مشاهدتها منقوشة على الآثار والتحف في المتاحف اليوم. تعقِّب باحثة المصريات (روزالي ديفيد-Rosalie David) على تلك الحقبة قائلة:
«إن الأدب في تلك الحقبة يعكس العمق والنضج الذي تحولت إليه الدولة عقب الحرب الأهلية وثورات الفترة الانتقالية المصرية الأولى. حيث تطورت الأنواع الأدبية لتشمل ما يُدعى بالأدب التشاؤمي الذي يجسد تحليل النفس والتشككات التي راودت المصريين آنذاك»
تُعد «مزامير داوود» أحد أنواع الأدب التشاؤمي وأحد أعظم أعمال حقبة المملكة الوسطى ليس فقط لأنها تناولت إدراك عميق للتجارب الحياتية المُعقدة ولكن أيضًا لصياغتها صياغة نثرية راقية للغاية. كما تُعرف بعض أهم أعمال ذلك النوع الأدبي بالأدب التعليمي وذلك لأنها دائمًا ما تتضمن درسًا ما؛ ومن تلك الأعمال:
(حوار بين رجل وروحه- The Dispute Between a Man and his Ba (soul))، (القروي الفصيح- The Eloquent Peasant)، (هجاء المِهَن – The Satire on the Trades)، (نصائح الملك أمنمحات الأول لابنه سنوسرت الأول- The Instruction of King Amenemhet I for his Son Senusret I)، (نبوءات نفرتي- the Prophecies of Neferti)، (معاتبة إيبوير- Admonitions of Ipuwer)
يُعد «حوار بين رجل وروحه» أقدم نص انتحاري في العالم. يتضمن العمل حوار بين الراوي وروحه حول مصاعب الحياة وكيف على المرء أن يتكيف معها. قد تذكرك بعض المقاطع بالأعمال الرثائية الكنسية أو الدينية، تحاول الروح مواساة صاحبها من خلال تذكرته بالأشياء المبهجة للحياة، مثل أفضال الآلهة، وكيف أن عليه الاستمتاع بالحياة بقدر استطاعته لأن حياته ستنتهي عاجلًا أم آجلًا. قام باحث المصريات (ويليام كيلي سيمبسون- W.K. Simpson) بترجمة النص وأدرج له عنوان «الرجل المُنهك من الحياة» وأعرب عن رفضه لتفسير النص بـ سياق انتحاري. يقول سيمبسون:
«لقد تم ترجمة نص هذه المدوَّنة البردية بصفته حوار بين رجل وروحه حول الانتحار. إلا أنني أرى أن هذا النص يتمحور حول فكرة مختلفة. ما يتم طرحه في هذا النص ليس محاورة وإنما تجسيد نفسي لرجل يعاني الاكتئاب من واقع شرور الحياة للحد الذي يصل به إلى عدم القدرة على تقبل المغزى الحياتي الصالح للوجود. بينما تعاني نفسه من عدم القدرة على المواءمة والشعور بالسلام النفسي».
الأعمال الأخرى التي تمت الإشارة إليها تحتوي على محاورات على النسق ذاته من العمق وتجسيد التجارب الحياتية. في «القروي الفصيح» يظهر رجل فقير لديه القدرة البليغة على التحدث والتعبير؛ والذي قد تمت سرِقَته من قِبَل أحد الأغنياء مُلّاك الأراضي؛ يقوم الرجل الفقير بتقديم دعوة لرئيس البلدية؛ إلا أن رئيس البلدية ينبهر بفصاحته مما يجعله يتلكأ في تحقيق العدالة ليستمع أكثر إلى الرجل. وعلى الرغم من أن القروي قد نال حقه في النهاية إلا أن النص يجسد إجحاف وجوب المَنْح لذوي السلطة في الوقت الذي عليهم أن يقوموا بمهامهم وتحقيق العدالة بلا مقابل.
وفي «هجاء المِهَن»؛ يقوم رجل بـ إسداء النُصح لابنِه ليمتهن الكتابة؛ حيث يرى أن الحياة تجربة عصيبة وأفضل نموذج حياتي من الممكن أن يختبره إنسان هو ذلك الذي يجلس فيه لا يقوم بـ شيء سوى الكتابة. بينما يتم تصوير جميع المِهَن الأخرى كـ عناءٍ وكَدٍّ سيزيفي* بينما الحياة أغلى وأقصر من إهدارها في عناءٍ كهذا.
تم استخدام فكرة إسداء النُصح الأبوي للابن حول أفضل نهج حياتي في العديد من الأعمال. على سبيل المثال «تعليمات الملك أمنمحات» تقدم لنا شبح الملك المُغتال يقوم بنصح ابنه ألّا يثق في من هم بالقرب منه حيث أن الناس ليست دائمًا كما تبدو؛ وأن الأفضل أن يكون الإنسان مصدر عزاء نفسِه وسُلوانِها بينما يتوخى الحذر من الجميع. ثم يقُص شبح أمنمحات كيف قُتلَ غدرًا بيدِ من ظنهم عبثًا أقرب الناس إليه بعدما ظن أن الله قد كافأه عن حياته التقيّة بـ منحه أُناسًا يستطيع الوثوق بهم. في مسرحية شكسبير «هاملت» يقوم بولونيوس بنصح ابنه بعدم إهدار الوقت مع من يكاد يعرفهم؛ ولكن يمنح ثقته فقط لمن أثبتوا جدراة استحقاقها. بينما شبح الملك أمنمحات الأول يقر بـ أن حتى هذا المسار إنما هو مسار فاشل ليس على ابنه انتهاجه:
«لا تمنح ثقتك حتى لـ أخٍ
لا تتخذ أحدًا خليلًا
لا تقرِّب إليك رفقاءً حميمين
فلا تتوقع أن تجني منهم الخير
عندما تأوي إلى فراشك ليلًا؛ دع قلبَك يسهر على راحتِك
فـ ليس للإنسان أحد يسانده في يومه العصيب»(سيمبسون، 168)
إن الملك أمنمحات الأول (1991-1962 ق.م) كان الملك الأول للأسرة ال 12 الحاكمة وقد تم اغتياله على يد أحد المُقربين له. وهذه التعليمات التي تحمل اسمه قد تم تدوينها لاحقًا بواسطة كاتب مجهول، ربما بـ أمر من سنوسرت الأول (1971- 1926 ق.م) حتى يمجِّد أبيه ويذُمّ زمرة المتآمرين. وقد تم الثناء على الملك أمنمحات الأول في «نبوءة نفرتي» الذي تم فيها التبشير بقدوم ملك –أمنمحات الأول- الذي سيكون خادمًا معاونًا للناس، كما يقوم بحل مشاكل دولته، وتدشين عصرًا ذهبي. وعلى الرغم أن هذه النبوءات قد كُتبت بعد وفاة الملك أمنمحات الأول؛ فقد تم تقديمها وكأنها نبوءات حقيقية تسبق مجئ حكمه. هذه السمة المتضمنة تدوين رؤى ونبوءات بعد حدوث ما تشير إليه هذه البوءات بالفعل هي سمة أخرى من «أدب النارو» لبلاد ما بين النهرين؛ حيث يتم إعادة تفسير الحقائق التاريخية لتتناسب مع أغراض الكاتب. في هذا الجزء من نبوءات نفرتي يتم التركيز على عظمة الملك أمنمحات ولذلك تم وضع النبوءة بتاريخ سابق لعصره من أجل تدعيم فكرة أنه الملك المُختار من الآلهة لتحقيق مصيره وإنقاذ دولته. يتضمن هذا الجزء أيضًا فكرة شائعة في أدب المملكة الوسطى وهي المفارقة بين عصر الازدهار للملك أمنمحات الأول –العصر الذهبي- وما يسبقه من عصر الشقاق والفوضى.
في «معاتبة إيبوير» يتم تضمين فكرة العصر الذهبي بشكل أكثر اكتمالًا. يعتبرها البعض بمثابة تقرير تاريخي؛ كما يتم اعتبارها كـ نوع أدبي تعليمي يتناول المفارقة بين النظام والفوضى حيث يتم فيها تناول عصر اليأس والتشكك في مقابلة العصور السابقة حيث كانت الحياة أسهل وجميع الأمور مستقرة.
يقوم البعض ممن يميلون إلى مواءمة النصوص الإنجليلية بالتاريخ المصري بالاستشهاد بـ «معاتبة إيبوير» كـ دليل على الضربات العشر التي وردت في سفر الخروج ولكن ليس الأمر كذلك.
إنها ليست فقط لا تتضمن أي علاقة بالضربات العشر الإنجيلية ولكنها نوع من النصوص الأدبية المعروفة في الكثير من الثقافات التي تضمنتها عبر التاريخ حتى اليوم.
قد لا يُعد مبالغة القول بـ أن الجميع في مرحلة ما في حياتهم يقومون بالمقارنة بين ماضيهم وحاضرهم. تقوم «معاتبة إيبوير» بتوثيق مثل تلك التجربة، بـ شكل أكثر بلاغة من أي تدوين آخر، ولكن من الصعب جدًا الاعتداد بها كـ تقرير توثيقي تاريخي حقيقي.
إلى جانب تلك الأعمال النثرية كان هناك أيضًا ضمن الناتج الأدبي للمملكة الوسطى المجموعة الشعرية المعروفة باسم «دفن هاربر» أو «أنشودات هاربر» والتي تتساءل عن وجود الحياة الأخرى بما يوصف عنها من مثالية وعن رحمة الآلهة؛ وفي الوقت نفسه تتناول ترانيم لهؤلاء الآلهة تؤكد وجود حياة ما بعد الموت. كما تُعد «حكاية الملاح التائه» أحد أهم الأعمال النثرية لأدب المملكة الوسطى إلى جانب «قصة سنوحي». تجسد «حكاية الملاح التائه» مصر بـ أنها أفضل مكان في العالم من خلال قصة ملاح تحطمت سفينته على جزيرة مهجورة ورغم أن عُرضَت عليه كُلُّ سبل السعادة والتَرَف، يرفضها كلها في سبيل عودته إلى مصر، بينما تعكس قصة سنوحي نفس المعنى من خلال قصة رجل يُنفى عقِبَ اغتيال أمنمحات الأول، بينما يتوق للعودة إلى وطنه.
إن المنعطفات المعقدة التي خاضتها مصر في العصر الوسيط الأول (2181-2040 ق.م) انعكست في ما تلاها من أدب العصر الوسيط. وعلى نقيض المزاعم المتضمنة في بعض المراجع المصرية المعاصرة فليس العصر الوسيط الأول عهد فوضى وظلام وكرب عظيم؛ ولكنه مجرد عهد لم تنعم فيه مصر بسلطة حاكمة قوية؛ وقد أفضى مثل ذلك الوضع إلى ديمقراطية الفن والثقافة خلال تطور أساليب ومذاهب الفنون الفردية والتي كانت قيمتها تضاهي قيمة الفن الملكي في عهد المملكة القديمة. وعلى الرغم من ذلك يرتأي كَتَبَة المملكة الوسطى أن العصر الوسيط الأول بمثابة انفصال عن ما تكللت به المملكة القديمة من ازدهار. تم ترجمة «معاتبة إيبوير» بواسطة علماء المصريات في العصور اللاحقة بأنها رصد للفوضى والاضطراب الذي أُضرِمَ في مصرقبل عهد المملكة الوسطى، ولكن في حقيقة الأمر لو لم تكن تلك الفوضى من أجل حرية التعبير والاكتشافات الفنية التي أنجبها العصر الوسيط الأول، لما كان بمقدور الكَتَبَة إنتاج ما قدموه من أعمال.
إن كتابة السِيَر الذاتية الملكية وقوائم القرابين التي تميزت بها المملكة القديمة والتي كانت مقتصرة خلالها على الملوك والنبلاء فقط؛ أصبحت متاحة للجميع في العصر الوسيط الأول طالما أن الفرد قادرٌ على تحمل تكلفة بناء مقبرة سواءً كان ذا نسبٍ ملكي أم لا.
وفي هذا السياق فإن أدب المملكة الوسطى قد يشمل حكايا تثني على الملوك أمثال أمنمحات الأول، أو تجسيد أفكار وانفعالات بحّار معروف أو راوي مغمور في صراعٍ بينه وبين روحِه. إن أدب المملكة الوسطى قد أفسح النطاق للفنون التعبيرية بما أضافه من موضوعات شتّى بإمكان الكاتب تناولها؛ فكان ذلك غير ممكن دون المرور بـ العصر الوسيط الأول.
عقب حكم الأسرة الثانية عشر، والتي تم إبان عهدها ما ظهر من أعظم الأعمال، حكمت مصر الأسرة الثالثة عشر بما عُرف عنها من الضعف والتدهور في جميع المجالات إلى الحد الذي مكّن بعض القوى الأجنبية من اكتساب بعض السلطة على صعيد مصر. قد تم توصيف فترة حكم الهكسوس من قبل الكَتَبَة -كما تم توصيف العصر الوسيط الأول- بـ عهد الفوضى والظلام؛ على الرغم من بعض الإسهامات التي شكلها الهكسوس في الثقافة المصرية والتي لم يُلق لها بالًا في أدب المملكة الحديثة اللاحقة.
وهي الحقبة التي سنتناولها في المقال القادم لنعرف عن ملامح الأدب في المملكة الحديثة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أسطورة سيزيف هي إحدى أساطير الميثولوجيا الإغريقية والتي تجسد فكرة العناء الأبدي؛ عندما استطاع سيزيف أن يخدع إله الموت ثاناتوس مما أغضب كبير الآلهة زيوس، فـ كان عقابه متمثلًا في حمل صخرة من أسفل الجبل لأعلاه؛ فـ إذا وصل القمة تدحرجت إلى الوادي فـ يعود إلى رفعها في حلقة سرمدية بلا نهاية.
كتابة وترجمة: آلاء محمد مرزوق