الكهربية والمغناطيسية ظاهرتان من أكثر الظواهر التي يدرسها الباحثون الحديثون في الفيزياء. وعايشنا جميعًا شعور الصعق بالكهرباء الساكنة، ورأينا كيف أن المغناطيس يمسك بلوحات الطفل ويثبتها على ثلاجة العائلة. وحتى إن اتّحَدت الظاهرتان، حينئذًا تسمى بالظاهرة الكهرومغناطيسية، فهي حينئذٍ ما تزال مألوفةً لنا، فنجدها في موجات الراديو؛ لتوصِل برامج التلفاز والراديو لنا، أو حتى تمسك الذرات التي تكون جسدنا بعضها ببعض.
تجارب جديدة حول مجالات طاقة البوزيترونيوم
ما يلفت النظر ويدعو إلى الاهتمام أن نتائج تجارب جديدة أجراها (ديفيد كاسيدي – David Cassidy) وزملاؤه في (جامعة كوليدج لندن – College London University) بالمملكة المتحدة كفيلة بجعل الباحثين حول العالم يعيدون النظر في النظريات التي تصف تفاعل القوى الكهرومغناطيسية. وفي السنوات الماضية، درس الفيزيائيون سلوك ذرة غريبة تدعى (البوزيترونيوم – Positronium) ووجدوا اختلافًا صادمًا بين مستويات الطاقة المحسوبة نظريًا، والمقاسة عمليًا. والبوزيترونيوم هي ذرة تتكون من إلكترون وإلكترون مضاد (بوزيترون – Positron) فقط. ولأن تلك الذرة لا تحتوي على بروتونات أو نيوترونات، فهي لا تؤثر عليها القوى النووية القوية، وبالتالي فهي عينة معملية مثالية لدراسة النظرية الكهرومغناطيسية.
الجدير بالذكر أن هذا الاختلاف الذي أشرنا له هو 0.1% من تردد موجات الميكرويف اللازمة لإجبار الذرة لتغيير مستويات طاقتها. أيبدو ذلك الفرق ضئيلًا بالنسبة لك؟ لا تستعجل الحكم!
النظرية الكهروديناميكية الكمّية ووصفها للظواهر الكهرومغناطيسية
على مدار السبعين عامًا الماضية، ظن العلماء أنهم قد وصلوا إلى فَهمٍ دقيقٍ لآلية عمل القوى الكهربية والمغناطيسية. وفي عام 1948 طور الفيزيائيون نظريةً تعرف (بالنظرية الكهروديناميكية الكمية -Quantum Electrodynamics) وتختصر إلى QED، وقد جمعت تلك النظرية في طياتها الكهربية والمغناطيسية وميكانيكا الكم ونظرية أينشتاين لنسبية الخاصة. تلك النظرية خرجت لنا في الأساس لعمل تصحيح بسيط لبعض التنبؤات التي نتجت عن سابقتها «نظرية ديراك للكهرومغناطيسية».
في عام 1948، قام باحث يدعى (لويس لامب -Willis Lamb) بقذف ذرات هيدروجين بأشعة مايكرويف، ليجد اختلافًا في الانتقال بين مستويي طاقة قد توقع نظريًا أن يكونا متماثلين. سرعان ما نشر نتائجه أثناء مؤتمر (جزيرة شلتر – Shelter Island Conference) في صيف عام 1948. ذلك الاختلاف لم يكن بالأمر الجلل، كان فقط اختلاف جزء من المليون، لكن ما دعم موقفه هو حضور أحد زملاء العالم (بوليكارب كوش – Polykarp Kusch) إلى نفس المؤتمر ليعرض نتائج زميله العالم الذي وجد اختلاف في قيمة العزم المغناطيسي للإلكترون بمقدار 0.1% عن ما تتوقعه نظرية ديراك.
النظرية الكهرومغناطيسية كانت قادرة على التنبؤ بنتائج كلًا من لامب وكوش؛ لذلك اُستُغني عن نظرية ديراك واعتماد النظرية الكهروديناميكية الكمية كبديلٍ قويٍ لها طوال السبعين عامًا الماضية. والنظرية الكهرومغناطيسية هي واحدة من أكثر النظريات التي اُختُبِرَت بدقة شديدة، حتى أنها على سبيل المثال تتماشى مع نتائج تجربة كوش رقم برقم إلى الرقم الثاني عشر بعد العلامة العشرية. ودقة النظرية هي ما يجعل من نتائج تجربة كاسيدي وزملائه أمرًا مذهلاً: فأجروا التجربة بدقة شديدة، ولكن نتائج التجربة ما تزال تتعارض مع الحسابات النظرية المبنية على النظرية بنسبة 0.1%.
بالطبع قياس تردد موجات المايكروويف اللازم لانتقال مستويات طاقة البوزيترونيوم ليس بالأمر الهين، فالبوزيترونيوم يتكون من زوجٍ من المادة والمادة المضادة التي تُلاشي بعضها في بضع مئات من الأجزاء من مليار جزء من الثانية. بالإضافة إلى ذلك فإن البوزيترونيوم يتكون من خلال تخليق البوزيترون باستخدام شعاع ليزر قوي أو عن طريق شعاع من الجسيمات، ثم بعد ذلك تُقذف البوزيترونات على مادة تحتوي إليكترونات، والناتج هو ذرة بوزيترونيوم، وهذا ما يجعل قياسات البوزيترونيوم صعبة للغاية.
أما عن مجموعة كاسيدي، فقد ولَّدوا البوزيترونات باستخدام شعاع ليزر قوي، وفي حالة خاصة لتمديد العمر الافتراضي للبوزيترونات. كما استخدموا تكنولوجيا حديثة لتبريد ذرات البوزيترونيوم حال نشوئها. وأخيرًا استخدموا أشعة مايكروويف منخفضة القدرة للتأكد من جعل أي تشوهات في النتائج نتيجة عملية القياس نفسها صغيرة جدًا. والباحثون في تلك المجموعة في حيرة من أمرهم، فالخطأ في الحسابات النظرية شبه مستحيل، وأخطاء القياس واردة لكنها ضعيفة الاحتمال، والباحثون متفهمون لحدود دقة معداتهم ونشروا في بحثهم[2] بيانًا بدقةِ ومقدار عدم اليقين في الأجهزة المستخدمة في قياساتهم. وما يزال الاختلاف بين الناتج والقياس النظري بعيد تمامًا عن ما تخبرنا به نسبة عدم اليقين. وعلينا الاستعانة بتجارب أخرى للتأكد من نتائج تلك التجربة، وإذا استمر هذا الاختلاف في الظهور فإننا سنكون بحاجة إلى فيزياء جديدة إلى حد ما. أليس هذا رائعًا؟!
تعارض قياس الخصائص المغناطيسية للميوون مع التوقع النظري
ليست هذه المرة الأولى التي يظهر بها تعارض مثل هذا. ففي عام 2001 قاس مجموعة من الباحثون في معمل بروكهيفن الوطني بنيويورك ( Brookhaven National Laboratory) قياسًا دقيقًا جدًا للعزم المغناطيسي لجسيم الميوون. والميوون هو ابن عمٍ للإلكترون، لكنه أثقل وأقل استقرارًا منه. فحسَب هذا الفريق البحثي العزم المغناطيسي نظريًا بدقة تصل إلى 12 علامة عشرية، وكانت النتائج بنفس مقدار الدقة، لكن النتائج النظرية والعملية اختلفت في آخر رقمين عشريين، وهو غير متوقع حتى بعد أخذ نسبة الخطأ وعدم اليقين في الاعتبار. الأمر الذي إن تحققنا منه بتجربة أخرى سيضعنا أمام خيار واحد لا بديل له، وهو إيجاد بديل للنظرية الكهروديناميكية الكمية.
أما عن انتظار الفريق الذي يؤكد أو ينفي ذلك التعارض، فلا تقلق فلن يطول ذلك الانتظار. فهناك مجموعة بحثية في معمل (فرمي الوطني – Fermi National Lab) تعمل على هذا الأمر الآن وقت كتابة المقال، ومن المتوقع أن تكون نتائجها أكثر دقة بكثير من نتائج معمل بروكهيفن. كما أننا في انتظار النتائج ليعلنها فريق البحث في أوائل عام 2021.
حين نأخذ الدقة الفائقة للنظرية الكهروديناميكية الكمية في الاعتبار، وتلك التعارضات التي ظهرت بين النتائج النظرية والعملية، فإننا وفي حالة التأكد من كلتا الحالتين او إحداهما سنكون في مواجهة فيزياء جديدة. ومجرد التفكير في أننا قد نبدأ حقبة تظهر فيها قوانين جديدة تساعدنا على فهم الكون حولنا فهمًا دقيقًا، تجعلنا والمجتمع العلمي برمته في توقٍ شديدٍ لمعرفة نتائج تلك التجربة.