يحمل تاريخ مصر قصتين مختلفتين لهليوبوليس، أولهما هليوبوليس القديمة التي أقامها سنوسرت الأول في المملكة الوسطي وهي مدينة أون التى تقع فى ضاحية المطرية التابعة للقاهرة بزاوية منفرجة من خط المترو على حافة هليوبوليس الحديثة. أُنشئت هذه المدينة لتكون مجمعًا دينيًا كبيرًا، وقفت بها مسلتان رهبةً و سحرًا، إلى أن أتى أغسطس عام 12 ق.م لنقلهما إلى الإسكندرية لتُطوى هليوبوليس القديمة في ذاكرة التاريخ وتصبح طيّ النسيان. وثانيهما مولد هليوبوليس الجديدة على يد البارون إدوارد إمبان، كان مهندسًا مدنيًا بلجيكيًا يعمل بالتجارة و مشاريع النقل الكبرى، وكان يحلم ببناء مدينة جديدة كواحة خضراء في الصحراء على مقربة من القاهرة واختار معبد الشمس هليوبوليس القديم ليكون موضع ميلاد مدينته الجديدة عام 1900م.
كان فكر البارون إمبان سابقًا لوقته، يغلب عليه الجانب التجاري الذى يعلم جيدًا كيف يُروّج لموقع مدينته الجديد رغم وجودها في وسط الصحراء. كانت فكرته تعزيز موقع مشروعه من خلال خلق خطوط نقل جديدة تربط ما بين مدينته هليوبوليس والقاهرة.
أسند البارون إمبان المشروع للمعمارى الشاب ارنست جاسبر على أن تكون المدينة ذات طابع يتوافق مع التقاليد المحلية، فكان الطراز السائد للمباني يجمع بين الطراز الفاطمي والمملوكي والعثماني، متماشيًا مع حركة آرت نوفو التي انتشرت فى أوروبا في ذلك الوقت. أما التخطيط العمراني لمدينته فجاء متبعًا لنظرية المدينة الحدائقية لهوارد، والذي اعتمد فكره التخطيطي على خلق مدينة تجمع ما بين مميزات الريف ومميزات المدن معًا في إطار واحد .
احتوت مدينة البارون على العديد من المباني السكنية ذات الواجهات الطويلة والتي لها الطراز الفاخر للقصور وكذلك مناطق لسكن العمّال القائمين بأعمال البناء في هليوبوليس مع مراعاة توفير اشتراطات البناء الصحي لهم وضمان مستوى معيشي جيد متبّعًا في ذلك فكر العمارة الاجتماعية الذي ظهر في أوروبا أثناء الحرب العالمية الأولى. توفرت أماكن مختلفة للخدمات، وانتشرت الحدائق والأماكن الترفيهية والتجارية لجذب الناس وتشجيعهم على التفاعل الاجتماعي في هذا السياق العمراني الجديد. كذلك اتّبع تخطيط الشوارع فكر المُخطِّط العالمي هاوسمان في باريس، فجاءت الشوارع كبيرة ومتسعة، و كانت الميادين شاسعة، واستخدمت المباني نفسها كعلامات بارزة في المدينة.
استُخدمت المواد المحلية في البناء خاصة بعد الأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم في ذلك الوقت وعطلت حركة استيراد المواد من الخارج، فصُنع القرميد من سليكات الكالسيوم، وصُنعت القوالب ذات اللون الأبيض المستخدمة فى الواجهات في مصنع خاص لهذا الغرض، والذي تم تشييده في شمال المدينة اعتمادًا على مواد محلية زهيدة الثمن، بينما استُخدم الآجر الحجري و أعمدة الجرانيت المصقولة القادمة من أسوان. إلى جانب ذلك لم تغِب تطبيقات تكنولوجيا البناء الحديثة والتي تمثلت في الأعمدة الخرسانية والعوارض الأفقية والشرفات الواسعة.
وفي عام 1907م، قرر البارون إمبان تشييد قصره الجديد بواحته الخضراء الجديدة هليوبوليس، واختار له طرازًا معماريًا هنديًا ليظهر المبنى مميزًا عما حوله. أُسند العمل إلى المعماري ألكسندر مارسل، واستمر البناء حتى عام 1910م، ليعلوَ قصر البارون باهرًا في وسط الصحراء كمعبد هندي كبير. بدأت الحياة تدبّ في القصر الجديد، حيث يأتي إليه كبار الزوار من مختلف البلدان في استضافة أسرة البارون، وبدأت تقام الولائم والاحتفالات، واستمرت الحياة في القصر لجيلين وأكثر.
وفي عام 1956م، بيع القصر إلى شركة لرجال أعمال سوريين وسعوديين. كان هدف تلك الشركة تحويل القصر إلى ملهى عام أو فندق، وقد عارضت الحكومة المصرية ذلك الاستخدام، وبعد مفاوضات دامت عدة سنوات نجحت الحكومة -متمثلة في وزارة الاسكان- في شراء القصر عام 2005م، ليبدأ العمل على ترميم القصر وفتح أبوابه للجمهور، ومازالت أعمال الترميم قائمة حتى الآن.
كانت هليوبوليس قائمة في وسط الصحراء كواحة خضراء جميلة منفصلة عن القاهرة إلى أن التحمت تمامًا مع القاهرة مع مرور الزمن وانتشار العمران واتساعه فيما بينهما، فبعد أن كان قصر البارون يُطلّ وحيدًا على الصحراء، أصبح الآن جزءًا من القاهرة يراه كل من يمر ذاهبًا أو عائدًا من المطار.
ما رأيكم بزيارة هليوبوليس واستحضار قصتها؟ أنصحكم بزيارة حي الكوربة الذي مازال محتفظًا بالكثير من روح هليوبوليس وملامحها الأصلية.
المصادر :
1- دوبروفولسكا، أجنيسكا، ياروسلاف دوبروفولسكي. هليوبوليس: مدينة الشمس تولد من جديد. القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2008.
2- Monarchy & Dynasty
إعداد: أريج كيوان
مراجعة علمية: لميس معوض
تدقيق لغوي: هاجر زكريا
تحرير: نسمة محمود