يميل البشر إلى تصنيف الألوان إلى فئاتٍ مثل الأحمر. وبالرغم من قدرتنا على تمييز درجات الأحمر بما فيها الياقوتي والقرمزي؛ اتضح أن الطيور تصنف الألوان إلى فئات أيضًا مما يؤثر على قدرتها على تمييز الألوان.
إن كمية المعلومات التي تصل إلى أعضائنا الحسية كل ثانية قادرة على سحقنا إن لم تكن مناسبة لقدرتنا على تصنيفها إلى فئات، ويُعد إدراك الألوان خير مثال على تلك الظاهرة، فعند قطف حبَّات الفراولة، يمكننا بكل سهولة تمييز الحبَّات الناضجة عن غير الناضجة من خلال درجات الاحمرار المختلفة التي تشير إلى النضوج.
على الرغم من قدرتنا على تمييز التدرجات المختلفة لحبَّات الفراولة الناضجة، فإننا نميل إلى تعميم تلك التدرجات واعتبارها متساوية، فعند المقارنة بين الألوان وإن كانت الاختلافات بينها على نفس مقياس الانفصال؛ فإن قدرتنا على إدراك الفوارق بين الألوان من فئتين منفصلتين مثل: (الأحمر) و(البرتقالي) تكون أكبر من قدرتنا على إدراك الفوارق بين الألوان التي تنتمي إلى فئة واحدة، ويُطلق على تلك القدرة المُعززة على التفريق بين الألوان في فئات مختلفة مصطلح الإدراك اللوني الفطري (بالإنجليزية: Categorical colour perception).
وقد ثبتت بالفعل وجود الشروط المسبقة اللازمة للقدرة على تصنيف الألوان إلى فئات المختلفة في الطيور، تطوَّر البشر وأقرباؤهم القريبون بحيث يمتلكون ثلاثة أنواع من الخلايا المخروطية للاستشعار اللوني في العين، أما الطيور فقد تطورت لتملك أربعة أنواع من تلك الخلايا، تمتلك الطيور قدرات مذهلة على تمييز الألوان، بما في ذلك القدرة على إدراك مدى الأشعة فوق البنفسجية للطيف، حيث قدمت دراسة سابقة بارزة دليلًا واضحًا على أن الطيور يُمكنها التعميم بين ألوان معينة وهكذا تقسِّم سلسلة الألوان التي تستقبلها إلى فئات منفصلة، لكنه لم يكن معروفًا ما إذا كانت تلك القدرة تؤثر على كيفية استقبال الطيور للألوان المتشابهة وإما تساعدها في تحديد الاختلافات الأساسية في الألوان.
حقق (كيفس-Caves) وزملاؤه فيما إذا كانت قدرة الطيور على تصنيف الألوان تؤثر على قدرتها على إدراك الألوان وبالتالي ما إذا كانت تلك الحيوانات لديها إدراك لوني فطري.
ابتكر المؤلفون مجموعة تجريبية مبتكرة، حيث قدموا لإناث عصفور الزيبرا (بالإنجليزية: Zebra finches) جهازًا أخفوا بداخله الطعام أسفل أقراص ملوِّنة، كان الطعام موجودًا أسفل الأقراص الملوِّنة بلونيّن، وغائبًا أسفل الأقراص الملوٍّنة بلون واحد، وسمح هذا البرنامج التدريبي للمؤلفين باختبار مدى إدراك الطيور لاختلافات الألوان من خلال قدرتهم على تحديد الأقراص ثنائية اللون عند البحث عن الطعام.
ودرس المؤلفون مجموعة من الألوان من البرتقالي إلى الأحمر، وقسَّموا هذا الجزء من الطيف إلى ثمانية درجات من الألوان، بذل (كيفس) وزملاؤه جهودًا عظيمة باستخدام نماذج فسيولوجية لحاسة إبصار الألوان عند الطيور؛ وذلك لجعل كل الخطوات بين التدرجات متكافئة الحجم على المقياس التي ترى به الطيور الألوان.
تستحق تلك الألوان الاهتمام لأن منقار عصفور الزيبرا لونه أحمر أو برتقالي، ويعتمد لون المنقار على كمية صبغة (أستازانتين- Astaxanthin) والتي تعكس صحة الطائر المناعية؛ وبذلك يُمكن أن تُقدم تلك الألوان معلومات حول لياقته، ويبدو أن الإناث قادرة على التمييز، ليس فقط بين الذكور ذوي المنقار الأحمر والبرتقالي، بل أيضًا بين الذكور الذين يتلوّن منقارهم بدرجات الأحمر المختلفة، ومع ذلك فإن تفضيل الإناث للذكور بناءًا على تدرجات لون المنقار مازال محل نقاش.
في البداية، اختبر (كيفس) وزملاؤه عصافير الزيبرا باستخدام أزواج الألوان المتقاربة وفقًا لمقياس الألوان المُكون من ثمان تدرّجات، ولاحظوا أن الطيور ميّزت بين اللونيّن مختلفيّ الفئة أفضل من زوجيّ الألوان المتقاربة في التدرج، مما يضع اقتراحًا وهميًا بوجود خطٍ فاصلٍ بين تدرجات الأحمر والبرتقالي، وبعد ذلك، تحرى الكُتّاب إن كانت الطيور أفضل في التمييز بين أزواج الألوان ذوات المستوى المتقارب الذي يفصل بينهم الخط الفاصل المقترح، مقارنةً بقدرتهم على التمييز بين أزواج الألوان من جانب واحد من حدود الفئة، واستطاعت عصافير الزيبرا تجاوز هذا الاختبار لتثبت بذلك قدرتها على الإدراك اللوني الفطري.
وتُعد تلك النتيجة رائعة ومثيرة للتفكير، وذلك لعدة أسباب: فالطيور هي الحيوانات الوحيدة -بجانب الرئيسيات- التي ثبت امتلاكها للإدراك اللوّني الفطري، ومازال هناك الكثير من العمل الواجب إنجازه للتحقق إذا كانت هناك عوامل أخرى للألوان مثل: الكثافة، ونقاء الطيف، تؤثر على الإدراك الفطري لدى الطيور، وسيكون من المثير للاهتمام أيضًا تحديد ما إذا كانت قدرة عصفور الزيبرا على تصنيف الألوان إلى أحمر وبرتقالي له علاقة باختيارات التزاوج، ومع ذلك فقد يصعب اختبار ذلك لأن اختيار شريك التزاوج قد يعتمد على مجموعة من الخصائص الذكورية الأخرى، مثل: مُعدل الذكور لعرض تودّدهم وليس فقط لون المنقار.
ويؤثر هذا العمل أيضًا على فهمنا لإدراك الإنسان للألوان، وهناك جدل مستمرٌ حول ما إذا كانت اللغة -بما فيها مصطلحات الألوان مثل الأحمر والأزرق والأخضر والأصفر- تؤثر في إدراك اللون، وتعتقد إحدى مدارس الفكر أن فئات الألوان لها أساس ثقافي ولغوي، بحيث أن الأشخاص تتحلى بصفة الإدراك الفطري اللوني -التمييز الأسرع والأدق للألوان في فئات مختلفة- فقط في حالة إذا كانت اللغة التي يتحدث بها الفرد تحتوي أسماءً لفئاتٍ مُعينةٍ من الألوان تتم مقارنتها.
أما مدرسة الفكر الأخرى فتعتقد أن إدراك اللون يعود لأساس بيولوجي غير معتمدٍ على تأثيرات ثقافية ولغوية، وتتضمن الأدلة التي تدعم وجهة النظر تلك، مُلاحظة أن المصطلحات الخاصة بألوان معينة تتجمع حول نفس التدرجات عبر اللغات المختلفة، وكذلك حقيقة أنَّ الأطفال الرضع يمكنهم أن يُميزوا بين الأحمر والأخضر والأزرق والأصفر والبنفسجي، حتى قبل أن يتعلموا الكلمات الخاصة بتلك الألوان، إن اكتشاف (كيفس) وزملائه لقدرة الطيور على الإدراك اللوّني الفطري يُضيف مزيدًا من الأدلة لدعم الأساس البيولوجي لهذه الظاهرة.
هذا وصِيغَ مصطلح (الإدراك الفطري) لوصف القدرة البشرية على تمييز الأصوات في وحدات منفصلة تُسمى الصوتيات، وتساعد على تمييز كل كلمة عن الأخرى، ويظهر إدراك عناصر شبيهة بالصوتيات في الحيوانات أيضًا بما في ذلك الطيور. يُمكن وصف الإدراك الفطري بأنه آلية من أعلى لأسفل للتركيز على الإشارات الحسية الرئيسية عن طريق فصل هذه الإشارات عن المعلومات الهائلة الأخرى، وتوجد طريقة أخرى لتحقيق ذلك الفصل وتعتمد على أسلوب من أسفل لأعلى ويُطلق عليها (الترشيح المقابل-Matched filter) ويقترح هذا المفهوم أن كثيرًا من الأجهزة الحسية للحيوانات صُممت كمرشحات لا تدرك سوى المدخلات الحسية الهامة للكائن الحي عن طريق فصلها عن المعلومات الحسية الضخمة الأخرى التي لا تمثل أي أهمية، ويُمكن لهاتين الطريقتين أن تُمكِن الحيوانات من التعامل مع الكم الهائل من المدخلات الحسية اللازمة للإبلاغ عن اختياراتها وسلوكياتها.
ترجمة: رنا السعدني
مراجعة علمية: أحمد شلبي
المصدر: