3ـ هل الفلسفة غير مفيدة؟
هل تظن أنك شخصٌ صالح؟
حسنًا، يعتقد هذا الفيلسوف أن بوسعك أن تكون أفضل.
يوضح (بيتر سينجر-Peter Singer) السبب في أن مساعدة الآخرين ليست اختيار بل إلزام.
أذهب إلى المنتزه وألمح طفلة قد وقعت في بركة وتصارع الغرق. لا أحد سواي، لا والديها ولا مربيتها ولا أي شخص. هل علىّ أن أنقذها؟ سأبتل ومن المحتمل أن يتلف حذائي وسيتوجب عليّ إلغاء ميعاد. لكن، لايختلف إثنان على وجوب إنقاذ هذه الطفلة؛ وذلك لأنه لا شيء مما سبق يُضاهي أهمية إنقاذ حياتها.
لنفترض أنك تلقيت رسالة فحواها أن تتبرع لإنقاذ حياة طفلة تعيش في قارةٍ أُخرى. إذا قررت أني بحاجة لهذا المال كي أشتري معطفًا؛ ومما سبق سيعتقد معظم الناس -تقريبًا- أني لم أفعل شيئًا خاطئًا، وفي نفس الوقت ليس هذا هو الصواب.
يرى الفيلسوف الأُسترالي بيتر سينجر مؤلف كتاب (أخلاقيات تطبيقية-Practical Ethics) والذي يطرح فيه الحالتين السابقتين، أنه لا فرق بين أي منهن، ويقول: «لو أن بإمكاننا منع شيء سيء من الحدوث دون التضحية بشيء ذا أهمية أخلاقية بالمقارنة؛ فلزامًا علينا فعله».
طبقًا لبيتر، أن هذه القاعدة الأخلاقية لا تنطبق فقط على افتراض وجود طفلة تغرق في بركة أمام أعيننا وإنما على أي حالة مماثلة نحو مساعدة أُناس يعيشون في فقر مدقع. كما يؤكد على أن المساعدة ليست -كما يُعتقد في الغالب- أنها فضيلة يُستحب فعلها وإنما يُعد عدم المساعدة أمرًا مقبوحًا.
في هذا المقال قمنا بمحادثة مع بيتر سينجر عبر بريده الإلكتروني لمعرفة ما هو الشكل الأمثل لمساعدة الطفلة التي تغرق في البركة.
من هم الأشخاص الواجب مساعدتهم؟
يُبين بيتر سينجر المولود في عام (1940 م) والبروفيسور بجامعتي (برنستون-Princeton) و (ملبورن-Melbourne) أننا إذا أردنا التبرع بالمال يجب أن نفكر فيمن يعيشون في فقر مدقع في بلدان العالم الثالث؛ ذلك لأن أوضاعهم قاسية ومساعدتهم ستكون أكثر فاعلية، كما صرح: «هذه البلدان يعيش أهلها بأقل من (700) دولار سنويًا ولا يملكون في الكثير من الأحيان حتى مياه صالحة للشرب، ولا الخدمات الصحية الأساسية، ولا يتوافر تعليم لأبنائهم، في المقابل يمتلك الأُناس الأكثر فقرًا في إسبانيا مقومات الحياة الأساسية، بالتالي؛ لإحداث تغيير بارز في حياتهم فسيصرف مبالغ أكثر من اللازم صرفها لإحداث تغيير بارز في حياة قاطني البلدان النامية».
يعترف بيتر سنجر أننا نميل غريزيًا لمساعدة الأشخاص الأكثر قُربًا، لكن يجب أن نعيد النظر دوريًا فيما يُستلزم وفيما لا يُستلزم فعله.
إنه لشيء نبيل أن نولي الأولوية لعوائلنا، لكن في الوقت نفسه ليس معقولًا أن نفضل مساعدة شخص لا نعرفه يبعُد عنا مسافة (50) كم، عن مساعدة آخر أكثر استحقاقًا للمساعدة يبعُد عنا مسافة (5000) كم.
تُواجه وجهة نظر بيتر سينجر ببعض الانتقادات، حيث يرى البعض أن القرب عامل هام؛ وعللوا ذلك أنه من الأيسر بسط العلاقات وتمويل الأشخاص والمجتمعات الأكثر قُربًا وبالتالي؛ فمساعدتهم أكثر فاعلية.
بكم يجب التبرع؟
القدر المخصوص للتبرع يعتمد على ما إذا كان ذا قيمة أخلاقية بالمقارنة مع حاجياتنا. فمثلًا، أحذية جديدة وسيارة وعشاء في مكان فخم والتنزه أوقات العُطلة…إلخ، على الأقل بعضًا من هذه الأشياء ذات ثقل أخلاقي أقل من الفقر المدقع الذي يمكن منعه بالمال الذي يُنفق في هذه الأشياء.
يقول بيتر سينجر: «بوسع الكثير منا أن يقدم أكثر مما يفعل، لكن الأهم أن يشرع الناس في إعطاء شيء ذا قيمة بارزة؛ كي نتمكن من خلق ثقافة يكون القضاء على الفقر العالمي فيها حجر زاوية في حياة أخلاقية. عندما يألف الناس عادة العطاء حتى ولو بنسبة (1%) من جملة ما يملكون، سيكون من اليسير فيما بعد رفع هذه النسبة».
قد لا تُشكل نسبة الـ (1%) فرقًا لغالبيتنا، لكن في المقابل يمكن أن تُحدث فرقًا في حياة أُناس آخرون.
عبر الموقع الإلكتروني (The Life You Can Save) يمكننا حساب الحد الأدنى للتبرع سنويًا الذي يتناسب مع الدخل السنوي لكل فرد، والذي يصل حتى (14%) كحد أقصى في حالة ما إذا كان الدخل السنوي أكثر من مليون دولار.
ألح بيتر سينجر في العديد من مقالاته في ذكر دراسة تشير إلى أن الأشخاص الأكثر كرمًا دائمًا ما يكونوا أكثر رضًا عن حياتهم. يعتقد (إيمانويل كانت-Immanuel Kant) أن العمل الأخلاقي الخالص متنزه عن الغرض، ولا يُؤدى برضا شخصي. لا يتفق بيتر سينجر مع كانت حيث أنه يرى أن الشعور بالرضا المُولد من مساعدة الآخرين هو جانب يوضح الرغبة في المساعدة من الأساس.
أليس من الأفضل التعاون مع منظمة غير حكومية تعطى مقابل للمساعدة؟
أجاب بيتر سينجر المُناصر لمبدأ النفعية بأن ذلك يتوقف على مبتغاك وعلى المال الذي ستُحَصِلُه، حيث أن هدفه كمؤيد للنفعية الاهتمام بما قد يقدم أفضل النتائج. يًرشح بيتر سينجر الموقع الإلكتروني (80.000hours) الذي يقوم بجمع معلومات لكي تتمكن من انتقاء الخيار الأكثر ملائمة لك.
أحد مؤسسي هذا الموقع الإلكتروني هو الفيلسوف (ويليام ماكاسكيل-William MacAskill) الذي يعتقد أن أي سبق خيري يمكن أن يكون عملًا ذا قيمة أخلاقية؛ لأنه سيدر ربح جيد وسيتم التبرع بقدر كبير منه؛ لذا هو عمل يمكن اعتباره من النظرة الأولى أخلاقي تمامًا كالعمل في منظمة خيرية.
لكن، أليس هذا عمل الحكومة؟
في الواقع، فرضية الطفلة التي تغرق في البركة لا تُقنع كل الناس. كتب عالم الأعصاب (كنان مالك- Kenan Malik) في كتابه (The Quest for a Moral Compass) أن هذه الفرضية لا يُمكن نقلها للواقع. فلا يمكن على أية حال المقارنة بين حالة الطفلة التي لا يمكن لأحد أن ينقذها غيري وملايين الأشخاص الممكن مساعدتهم من قِبل كثيرين آخرين. فهذه نقرة وهذه نقرة من وجهة نظر أخلاقية.
وبالنسبة لسؤال من يقع على عاتقه مساعدة الآخرين؟ يذكر (جون كيكس- John Kekes) أن غالبيتنا بالفعل ساعد الآخرين وأن المسؤولين هم من يجب عليهم على وجه الخصوص إعادة توزيع الثروات. بالطبع، بوسع كل منا أن يفعل المزيد لكن لا يعني أننا ملزمين أخلاقيًا بهذا.
أجاب سينجر: «يمكننا الجدال لوقت طويل في مسألة من المسؤول الأساسي عن مساعده هؤلاء، وعلى الرغم من أننا جميعًا متفقين على أن الحكومة هي المسؤولة. إذًا؛ ما الذي يجب أن نفعله إن لم تُعر الحكومة هذه القضية إهتمامًا، وبينما نحن كذلك يموت الكثير من الأطفال؟ هذه الحالة بالضبط هي ما تحدث للمواطن الإسباني، فالحكومة الإسبانية تخصص (0.14%) سنويًا للتبرعات من إجمال الإنتاج القومي طبقا لإحصائية لعام (2005 م) والتي تعد أقل نسبة تبرع بين الدول المتقدمة. بالتأكيد يستطيع بل ويجب على المواطنين الإسبان مطالبة ممثليهم المنتخبين أن يتفاوضوا مع حكومتهم لرفع النسبة، لكن بينما هم كذلك يمكنهم ان يشرعوا بالمبادرة بأنفسهم».
متابعةً لقضية الطفلة التي تغرق في البركة، بلا شك سيتواجد من يراقب الطفلة، وبالطبع سيتوافر في هذا المكان الاحتياطات اللازمة للتعامل مع مثل هذه الحوادث. في مثل هذه الحالة، يمكننا الخوض في جدال بشأن من عليه إنقاذ الطفلة، وبينما نحن نتجادل، ستكون الطفلة قد غرقت.
هل المنظمات غير الحكومية لا تُدار بشكل جيد؟
يعتبر بيتر سينجر أن هذا ليس صحيحًا غالبًا؛ ذلك لأن الحد الأعلى من النفقات المخصصة لإدارة مشروع خيري لا تتخطى الـ (20%) والتي لا تُنفق إلا للضرورة، نحو تعيين أية مشروع أكثر استحقاقًا بالمال. تذكر أيضًا، أن أغلب هذه المنظمات تعمل لأجل المساعدة ولا يمدون العون لحكومات فاسدة.
على الرغم من كل ذلك فالاحتياط واجب ولذا؛ نصح سينجر بمواقع مثل (Give Well) هذا الأخير يتيح معلومات حول العديد من المنظمات الخيرية وتأثيرها. كما يوفر أيضًا الموقع الإلكتروني الخاص بسينجر ميزة حاسبة تتيح لك الفرصة لمعرفة فيما سيستخدم تبرعك. على سبيل المثال التبرع بقيمة ثلاث دولارات يُستخدم في شراء سرير مزود بطارد حشرات والذي يساهم في الحماية من مرض الملاريا، أما التبرع بمبلغ خمسين دولارًا يساهم في إجراء عملية المياه البيضاء.
لكن هذا المال أنا من قمت بتحصيله ولي كامل الحق في إنفاقه كما أشاء.
ليس لدى بيتر سينجر أية مشكلة ضد حق الملكية، لكن تذكر أن عملنا ومجهودنا ليسا وحدهما صاحبي الفضل في تكوين ثرواتنا؛ لأن من المحال أن نبدأ من الصفر، حتى وإن لم نرث ثروة كبيرة، فبالصدفة البحتة وُلِدنا في مجتمع يتوافر فيه خدمات صحية ومدارس وجامعات وملبس ملائم وغيره. علاوة على أن مهاراتنا تعتمد بشكل كبير على جيناتنا، أي أننا في حالة تبادل منافع مستمر؛ لأن جزء كبير مما نملك مدنين بفضله للآخرين.
ضرب سينجر في كتابه مثلًا لتوضيح ذلك مُستندًا على تجربة (حجاب الجهل- veil of ignorance) الخاصة بـ (جون روالز- John Rawls)، لو أن أسلافنا قد عاشوا في الخليج العربي لكُنا أغنياءً الآن؛ وذلك بفضل البترول الموجود صدفةً تحت الأرض، لكن لو فُرض ووُلدنا في الصحراء؛ لكنا الآن في حالة فقر شديد دون أن نقترف أي ذنب. حسنًا، لنتخيل أننا سنولد في الكويت أو تشاد، ولكن لا نعرف بالتحديد في أيهما سنولد. هل حينها سنقبل أن لا تكون مساعدة من هم في تشاد إلزامية على سكان الكويت؟ وهل سيستوي عندها مسألة محل ميلادنا لأنه سيكفي العمل بجد لتحصيل ثروة؟
ترجمة: رُقية التهامي.
مراجعة: مُحمد فتحي
المصدر:https://verne.elpais.com/verne/2017/01/26/articulo/1485441754_340230.html