بينما كان (لاري هينش-Larry L Hench) الأستاذ بجامعة فلوريدا يستقل حافلة متجهة إلى مؤتمر علمي دُعِيَ إليه، كان يُعِد نفسه للحديث عن آخر أعماله البحثية وهو زجاج شبه موصِّل مُقاوم للإشعاع. وبينما تجاذب أطراف الحديث مع جاره في الحافلة وهو كولونيل ( كلينكر Klinker ) في الجيش الأمريكي أنهى للتو خدمته في فيتنام. فقال له الكولونيل (Klinker ) إذا كان بإمكانك صناعة زجاج يتحمل الإشعاع فهل يمكن أن تصنع شيئًا يتحمل البيئة الحيوية داخل الجسم البشري؟ كان الكولونيل قد عاد لتوه من فيتنام وقد رأى هناك عشرات من حالات بتر الأطراف التي لا يمكن تعويضها بتكنولوجيا هذا الزمن. ففي عام 1967 كانت البدائل المُتاحة للزرعات الطبية إما من البوليمرات أو المعادن والتي كان الجسم البشري يرفضها بإصرار.
مفكرًا فيما قاله الكولونيل (كلينكر-Klincker) بعد عودته إلى فلوريدا، بدأ هينش رحلته لتصميم مادة جديدة يمكنها تلافي المشكلات الموجودة في كل المواد المتاحة أمام الطب في عصره فهذه المواد وإن كانت غير مضرة ولا تتفاعل مع بيئتها الحيوية (bio-inert)، فإن الجسم يُعاملها دائمًا باعتبارها مواد غريبة ويعزلها بكبسولة من الألياف تمنعها من الالتحام بالأنسجة المُحيطة.
مُمَوَّلًا من الجيش الأمريكي بدأ Hench رحلته بافتراض بسيط «إن كان المكوِّن الرئيسي للعظام هو (الهيدروكسي أباتيت) وهو أحد مركبات فوسفات الكالسيوم، فإذا وُجِدَت مادة يُمكنها تكوين نفس المركب داخل الجسم،
ألا يمكن ألّا يتم رفضها أيضًا ؟!«.
أي مادة زجاجية هي عبارة عن شبكة مترابطة -ولكنها عشوائية – من الجزيئات بروابط تساهمية. معظم أنواع الزجاجيات التي نألفها – زجاج السليكا- مكونة من شبكة عشوائية من أكسيد السليكا مع نسب مختلفة من أكاسيد الكالسيوم والصوديوم. صنع Hench مادة زجاجية جديدة تُشبه في مكوناتها زجاج السليكا المألوف ولكنه أضاف قليلًا من الفوسفات وأصبحت نسبة الكالسيوم أعلى وبهذا احتوى الزجاج الجديد على المكونات الغير عضوية الأساسية في العظام – الكالسيوم والفوسفات -.
في أولى التجارب تَجلَّت إمكانيات هذه المادة بعد غرسها على عظام فئران التجارب، فبعد 6 أسابيع لم يكن هناك أي كبسولة محيطة، التصق هذا الزجاج الجديد بالعظام، التصق بشدة لدرجة أن إزالته قد يتسبب في كسر العظام نفسها، وكان هذا غير مسبوقٍ على الإطلاق! فلم يتعامل الجسم مع مادة مُصنَّعة كمادة غريبة يجب إما التخلص منها وإن لم يكن فعزلها ولكنها عاملها كمادة «حيوية». سجل Hench براءة اختراع لمادته الجديدة وسماها الزجاج الحيوي(45S5 Bioglass®) (45% سيلكا – 5% فوسفات) وفتح الباب لمجال جديد وهو (المواد النشطة حيويًا-Bioactive Materials)
بعد أبحاث مطولة اكتشف Hench وفريقه سبب هذه الظاهرة الفريدة. فالطبقة الخارجية للزجاج الحيوية –تذوب- بشكلٍ سريع جدًا داخل البلازما وتترسب ثانيةً على شكل أملاح (الهيدروكسي أباتيت المكربن-Carbonated Hydroxyapatite) بنفس التركيب الموجود في عظام معظم الثدييات، هذه الطبقة المترسبة تتفاعل مع بروتين الكولاجين – المُكوِّن العضوي للعظام-لتكون رابطة بقوة تساوي قوة العظام نفسها إن لم تكن تزيد.
فتح الزجاج الحيوي وبعض أشكاله المُعدَّلة باب التطبيقات واسعًا وكانت التطبيقات لانهائية في احتمالاتها. خلال عقد السبعينات استخدم الزجاج الحيوي في الآلاف من عمليات استعاضة العظام المختلفة، تم استخدامه في إنتاج عظام الأذن الوسطى صناعيًا بعد أن كانت هذه مشكلة بلا حل فعال تقريبًا في الماضي نتيجة لقدرته على الالتصاق بالأنسجة الرخوة داخل الأذن وحفظ عظام الفك بعد إزالة الأسنان ولمعالجة الأسنان الحساسة (عاج الأسنان-dentin) تركيبه الكيميائي يُماثل العظام تقريبًا لذا فالزجاج الحيوي يرتبط به أيضًا)
ولكن ارتباط الزجاج الحيوي بالعظام والأنسجة الرخوة وعاج الأسنان لم يكن نهاية القصة. فزيادةً على كونه زجاجًا يذوب في البلازما، كانت المركبات الناتجة عن الذوبان -أيونات الكالسيوم والفوسفات والسليكا- تُحفِّز عمل (الخلايا المُنتجة للعظام-osteoblast) وتزيد من كمية العظام التي تكونها. بسبب هاتين الخاصيتين أصبحت الزجاجيات النشطة حيويًا bioactive glasses خيارًا يُثير شهية أي باحث في هندسة أنسجة العظام، فهي تحفز تكوين عظام جديدة وإذا تم صُنعها على شكل (سقالات مسامية-porous scaffolds) لتعويض عيوب عظمية أو عظام ناقصة نتيجة كسور أو اورام فهي تذوب بالكامل في البلازما. اليوم أهم المحاولات لاستخدام الزجاجيات الحيوية النشطة هي مساعدة الجسم على إصلاح ما لا يمكنه إصلاحه عادةً من عظام مفقودة لأي سبب – يوجد حد طبيعي للحجم الذي يمكن للعظام معالجته إذا فقد وراءه لا يمكن للجسد إصلاح المفقود-عن طريق استخدامه مفردًا أو كجزء من مركبات أعقد كسقالات لملء الجزء الناقص (مهما كان حجمه) وتحفيز الخلايا على إنتاج مزيد من العظام التي تحل في النهاية محل المادة المستخدمة التي تتحلل نهائيًا تاركةً فقط عظامًا ملتئمة لم تكن لترجع طبيعتها قط بأي طريقة أخرى!
المراجع:
-
قصة اكتشاف الزجاج الحيوي وتطبيقاته معتمدة على الورقة التالية التي كتبها Larry Hench
Hench, L. L. (2006). The story of Bioglass®. Journal of Materials Science: Materials in Medicine, 17(11), 967-978.
-
Shelby, James E.Introduction to glass science and technology. Royal Society of Chemistry, 2005