عادةً ما يُعرف ابن رشد (Averroes) بكونِه أبو التنوير، ومصدرًا للتحررِ في المجتمعاتِ الإسلاميّة المعاصرة.[1] لكن هل كان فكرُ ابن رشد تنويريًا بالفعل؟ هل كان دفاعُه عن الفلسفةِ بوضعِه شروطاً للنظرِ فيها مشروعًا تنويريًا حقًا؟ هذا ما سنحاولُ اجابته في هذا المقال.
مراتب الناس عند ابن رشد
يقسمُ ابنُ رشد الناس تقسيمًا يعتمدُ على التصديقِ، فمنهم من:
- يصدقُ بالبرهان.
- يصدقُ بالأقاويلِ الجدليّة تصديقِ صاحب البرهان.
- يصدقُ بالأقاويلِ الخطابيّة كتصديقِ صاحب البرهان.
يرفضُ ابن رشد التأويلَ لمن كان من غير أهلِ العلم، ويقولُ عند الحديثِ في تأويلِ صفة المعاد:
«ولذلك [ما نرى] أن من كان من الناسِ فرضه الإيمان بالظاهر، فالتأويل في حقِه كفرٌ، لأنه يؤدي إلى الكفرِ فمن أفشاه له من أهلِ التأويل فقد دعاه إلى الكفر……….وذلك أنه رام أن يكثرَ أهلُ العلم بذلك، [ولكنه] كثر بذلك [أهل] الفساد بدون كثرةِ أهل العلم.»[2]
ويضيفُ ابن رشد أن التصديقَ بالطرقِ الخطابيّة هو ما يجتمعُ عليه الجمهورُ؛ لما في تعلمِ الاقاويل البُرهانيّة من العسر. لذا، فالطرق البُرهانيّة لا يقدرُ عليها إلا أقلُ القليل. فالطرق الجدليّة، والخطابيّة ليست -بالطبع- طرقًا للوصولِ إلى الحقيقة؛ إذ نصلُ إليها عن طريقِ الاقاويل البرهانيّة. إنما غايةُ تلك الطرق الجدليّة، والخطابيّة فقط تصديقُ كافةِ الناس للحقائقِ المُثبتة بالطرقِ البُرهانيّة.
لذا يقول ت. ج. دي بور في كتابِه (تاريخ الفلسفة في الإسلام)، والذي يعرض فيه رؤية ابن رشد:
«والمنطقُ يمهدُ السبيلَ أمام معارفِنا؛ حتى ترتقيَ من الجزئيّ المحسوس إلى الحقيقةِ العقليّة المُجردة. أما العامة، فلا يزالون متعلقين بالحسِ، متعثرين في الضلال؛ وإن قصورَ فطرتهم، وقلةَ تَكوَّن عقولِهم -فوق ما اعتادوه من الخصالِ الرديئة- كلُ هذا يقعدُ بهم عن الكمالِ. غير أن الأمر لا يخلو من وجودِ طائفةٍ يتيسرُ لها الوصول إلى معرفةِ الحقيقة.»[3]
شرودنجر والتواصل العلميّ
يرى إرفين شرودينجر (Erwin Schrodinger) -عالم الفيزياء الشهير- أن استقلالَ العلمِ لا يقومُ على إمبريقيته (empiricism)، بل على عقيدةٍ تؤمنُ بوحدةِ الإدراك البشريّ. وكان يرى أن هناكَ طريقتان لتشييعِ العلوم:
- الأولى: تتصنعُ الشفقةَ مع من نالوا فرصًا أقل في التعليم، وهي ذاتُ نغمةٍ مُتعالية، وتصبح غريبةً بعد حذفِ المصطلحاتِ المتخصصة، والمعادلاتِ الرياضيّة.
- الثانية: تزدهي بحذفِها للمصطلحاتِ المتخصصة، والمعادلاتِ الرياضية؛ لتضعَ القارئَ في مساحةٍ فكريّة أوسع من مساحةِ المتخصص التقنيّ.
بينما يرى شرودنجر الأولى متعجرفةً وتتسم بالطابع الأبويّ، تمثلُ الثانية التواضعَ، واحترامَ غير المتخصصين.
وكان لصدى أفكارِ شرودنجر أثرٌ على والتر بنيامين(Walter Benjamin)، الذي بدوره كان يرى أن المثقفَ اليوم ينبغي ألا يعتليَ مكانًا أعلى من المواطنِ العادي ويطلقَ الأراءَ، بل ينبغي أن يعملَ تحت رقابةِ العامة.
يرى إدغار زيلسل (Edgar Zilsel) أن فكرة أن العلمَ يقومُ على جهودِ العباقرة وحدهم، ما هي إلا محضُ خرافةٍ. وعلى النقيض، قد كان التحولُ من فلسفةِ القرون الوسطى إلى الإمبريقيّة الحديثة نتاجًا لأفكارِ الحرفيين. فبسببِ تأثرِ الحرفيين بالمنافسةِ الاقتصاديّة، أصبحوا هم الرواد الفعليّون للملاحظة الإمبريقيّة، والتجريب، والبحث العلميّ.
أما عن لودويك فليك (Ludwik Fleck)، فيعتقدُ أن هناك تفكيرٌ مماثل للتفكير العلميّ عند الصناعِ، والملاَّحين، والحَلَاقَّين، والدَبّاغ، بل حتى عند مجموعةٍ من الصبية تلهو. إذ أنه يعتقدُ أن طريقةَ التفكير تلك كانت ضروريةً بين المجموعِ عند الحاجة إلى أداءِ مُهِمة. لذا فأنه يرى مساحةً كبيرةً مُشتركةً بين التفكير اليوميّ، والتفكير العلميّ.[4]
ابن رشد على مقعد الاتهام
يقولُ كانط في بداية مقاله «ما هو التنوير؟»:
«التنويرُ هو خروجُ الإنسانِ من القصورِ الذي يفرضُه على نفسِه. القصور عجزُ الفردِ عن استخدامِ فهمه دون توجيهِ الآخر»[5]
بهذا المعنى للتنوير، يَصعبُ وصفُ ابن رشد بصفةِ التنويريّ كما يزعمُ الكثير. وبرغم هذا، لا ننكرُ أن التواصلَ العلميّ لم يكن سهلًا، إذ لم تكن الطباعةُ قد اُخترعت بعد، فضلًا عن التواصلِ الرقميّ، اللذان شكلا ثورتين في عالمِ التواصل. ولكن كما يقولُ فؤاد زكريا:
«…. لم تكن هناك وسائلُ للإعلام -بخلافِ التعليم المنظم- سوى التلقين المباشر من شخصٍ إلى آخر…… هذا النوعُ من الإعلامِ المباشر كان يؤدي في العصورِ الغابرة، وظيفةً مزدوجة. فمن الممكن إذا ساده مبدأُ الحوار، أن تنجمَ عنه نهضةٌ عقليّة عظيمة، وهو ما حدثَ بالفعلِ عند اليونانيين، حيثُ اقترنَ الإعلام عن طريقِ الحوار، وعن طريقِ الخطابة السياسيّة المقترنة هي الأخرى بالمناقشةِ والحوار، بنظامٍ ديمقراطيٍّ فريدٍ من نوعه، ساد حياة اليونانيين طوال فترة غير قصيرة من تاريخهم القديم. أما إذا ساده مبدأ التلقينِ من طرفٍ واحد، والخضوعِ التام من الطرفِ الأخر، فإنه يؤدي إلى تقويةِ السلطة الفكريّة عند القلةِ ذات الشأن من أهلِ العلم، ومن ثم يكون عائقاً في وجه أيّ نهضةٍ علميّةٍ حقيقيّة». [6]
وهنا يشيرُ فؤاد زكريا إلى أثرِ الديمقراطيّة على التواصلِ العلميّ؛ فهو ما يجمعُ بين التجربةِ اليونانيّة، وتجربة شرودنجر. تحُول الديمقراطيّةُ النخبةَ العلميّة من كونِها مُوَجِهة للمجتمع إلى كونِها مُتفاعِلة معه، إذ تتحولُ المؤسسةُ العلميّة إلى مؤسسة تخدمُ الدولةَ، وتتأثرُ بقراراتِ العامة.