هل سبق لك وأن ذهبت إلى إحدى الغرف في منزلك ثم توقفت فجأة وشعرت بالدهشة وتساءلت عن سبب مجيئك؟ هل سبق لك واختبرت تلك الظاهرة التي تعرف بالـ(Déjà vu) وهي الشعور بأنك رأيت حدثًا ما بكل تفاصيله من قبل رغم أنه حدث للتو؟ حسنًا، ربما يوجد تفسير لكل ذلك، وهو إنك -حرفيًا- عبارة عن شريحة مدمجة!
في ذلك الصباح الذي بدأت فيه بالشك في أنني ربما لا أكون موجودًا حقًا، كنت قد تفحّصت أحد المقالات على الإنترنت، والذي كان يبدو في بادئ الأمر كدعابة لسؤاله عن أننا قد نكون موجودين بداخل محاكاة حاسوبية. وبعد قراءة سريعة، كانت قد أخذتني الدهشة بشكلٍ كبير؛ إن الحجج التي كانت تستند إليها المقالة كانت في غاية الإحكام، ومع ذلك، شعرت بفزعٍ رهيب من تلك الفكرة التي تقول أنه ربما تكون كل ذكرياتنا وكل عواطفنا وجُلّ شخصياتنا ليست أكثر من مجرد شيفرة إلكترونية مكتوبة للتو.
إن تلك الفكرة التي تنادي بأن الكون الذي نعيش فيه ليس أكثر من محاكاة حاسوبية، عادةً ما كانت تُعامل على إنها أقرب إلى نظرية المؤامرة، أو حتى ضرب من الخيال العلمي، بيد أنه يوجد عدد ليس بالقليل من الفيزيائيين، والفلاسفة، والباحثين الأكاديميين يعتقدون بأنها نظرية مشروعة وقابلة للبحث، وإذا نظرنا إلى واقعنا نظرة شديدة التفحُّص بإمكاننا أن نرى فيه نسخة عالية التعقيد من المحاكاة الحاسوبية.
يأتي الهيكل الأساسي للطرح الأكثر موضوعية الذي يدعم نظرية المحاكاة من نيك بوستروم (Nick Bostrom) وهو فيلسوف سويدي. يفترض بوستروم أن النمو المطرد والتقدم الذي تعيشه التقنيات الحاسوبية سوف يثمر في المستقبل عن إمكانية أن يتوصّل البشر إلى التقنيات الإلكترونية التي ستسمح لهم بصناعة محاكاة دقيقة لأسلافنا في الماضي.
ومع ذلك، فإن الحجج التي يستند إليها بوستروم ستبدو غير عقلانية لو افترضت إمكانية خلق محاكاة في المستقبل دون الاعتقاد بأن ذلك ربما قد حدث بالفعل، وعلى الرغم من امتلاكنا للوعي لكننا غير مدركين لذلك الأمر. وقد نقد بوستروم ذلك الفرض في ثلاثة احتمالات:
- إن البشرية ستنقرض قبل أن تتوصل إلى التقنية اللازمة التي ستسمح لها بصناعة محاكاة للبشر.
- إن البشرية ستتوصل إلى التقنية اللازمة لتصميم وخلق محاكاة بشرية، ولكنها لن تقدم على القيام بالأمر لعدم توفر الدوافع الكافية.
- إن البشرية ستتوصل إلى التقنية اللازمة لتصميم وخلق محاكاة بشرية، وستقدم على القيام بالأمر فعلًا. إن صح ذلك الفرض، فما المانع إنه ربما تكون قد تمت بالفعل ونحن نعيش بداخلها الآن؟
هنالك أيضًا مدارس فكرية أخرى قد توصّلت إلى نفس الاستنتاج. ماكس تيجمارك (Max Tegmark) وهو عالم كونيات بمعهد ماساتشوستس للتقنية (MIT)، قد لاحظ أن الكون يميل إلى أن يكون مؤسس على مجموعة من القوانين الرياضية، والذي يحيلنا إلى فكرة الترميز أو التشفير البرمجي الذي وضع بواسطة مصمم الكون. تسلسل فيبوناتشي، وهو تسلسل بسيط من الأعداد فيه كل عدد هو حاصل جمع العددين السابقين له، وقد وجد هذا التسلسل متكررًا في كثير من المواضع داخل كوننا، وكأنه شيفرة افتراضية. نحن نراه في مخروطيات أشجار الصنوبر وفي أفرعها، وفي الكائنات البحرية الحلزونية، وفي المجرات الحلزونية، وفي نسب أجسام الحيوانات، وفي الحمض النووي وحتى أرحام النساء تتبع نفس التسلسل العددي. وكأن المسؤول عن تصميم الكون قد شعر بالكسل وقرر فقط أن يقوم بالتكرار على طريقة القص واللصق.
من خلال ذلك تلوح مشكلة أخرى في الأُفق، فنحن لا نملك أي وسيلة لكي نتعرف ما إذا كنا نعيش داخل محاكاة مُصممة من قِبل واقع حقيقي، أم نحن نعيش في محاكاة مُصممة من قِبل محاكاة أخرى، أم حتى إنه يوجد تسلسل لعدد لا نهائي من العوالم غير الحقيقية. إن التفكير في مثل ذلك الأمر أشبه بمحاولة إحدى الشخصيات الافتراضية في أحد برامج المحاكاة للتحكم في نفسها داخل جهاز الحاسوب الخاص بالمبرمج، وباعتبار أنه حتى هذا المبرمج هو شخصية افتراضية في محاكاة حاسوب آخر، فإن ذلك يضع أمامنا عددًا لا نهائي من المستويات والاحتمالات.
وفي ذلك الصدد، فقد رجّح إلون ماسك (Elon Musk) إمكانية أننا نحيا داخل واقع حقيقي بأنها لن تزيد عن واحد في المليون. ويُرجع إلون ماسك ذلك الترجيح إلى التقدم الكبير الذي يشهده عالمنا في مجال التكنولوجيا الرقمية؛ فنحن في بضعة عقود فقط انتقلنا من ألعاب الأتاري بسيطة التركيب إلى الألعاب ثلاثية الأبعاد التي تُلعب بين عدة لاعبين حول العالم عن طريق الإنترنت.
تكمُن المشكلة في حجة ماسك في أنه يتخيل العلاقة بين مصمم المحاكاة والحياة داخل المحاكاة بطريقة مشابهة لتلك العلاقة بين مُشغّل الألعاب الإلكترونية والعالم الرقمي الموجود بداخل شاشة التلفزيون، بيد أن ذلك التصوّر ليس صحيحًا بالضرورة، فنحن لا نملك أي طريقة لنتعرف إذا ما كنا نعيش في محاكاة رقمية، أو كمومية، أو غير ذلك. ومع ذلك فنحن يصعب علينا تخيُّل أي سيناريو خارج الإطار الرقمي لأنه جُلّ ما نعرفه.
إن ذلك المسار يقودنا إلى الاستخدام الفعلي للفظ محاكاة؛ هنالك اتجاهات فكرية تقول بأن كلمة محاكاة وكلمة دين هما لفظان يُعبّران عن نفس المعنى. فنحن طول حقبة كبيرة من تاريخنا قد آمنا أننا نعيش في محاكاة، فقط بدون استخدام تلك الكلمة.
فهنالك العديد من التشابهات بين نظرية المحاكاة والدين. أولًا بسبب عدم وجود أدلة ملموسة، فمن أجل الاعتقاد بنظرية المحاكاة يتطلّب الأمر الإيمان بذلك، على الأقل بقدر ما يتطلّبه الاعتقاد بالدين. إن معظم الديانات تطلب أشكالًا من الطقوس تُقدّم للآلهة، والتي قد تشمل العبودية، ذلك ما يبدو مشابهًا لنظرية المحاكاة، فنحن نسمح لمصممنا بالتجربة والاستفادة من وجودنا بطريقة مشابهة.
وكمعظم قصص الخلق التي وردت في الأديان، فإن نظرية المحاكاة أيضًا تفترض وجود كيان ما هو الذي قام بتصميم الكون وقام بصنع المخلوقات الذكية بداخله. وفي نفس السياق فإن الموت وفقًا لنظرية المحاكاة بمثابة تسجيل الخروج (log out) من الأوهام أو التوقّف عن كونك موجودًا كلّيًا، أو حتى الانتقال إلى واقع آخر. وفي الحقيقة تلك الأفكار لا تختلف على الإطلاق عن المفاهيم الدينية لفكرة الآخرة والحياة بعد الموت أو فكرة تناسخ الأرواح.
عادة ما يزعُم منتقدو الدين أن الهدف منه هو التعامل مع الظواهر التي يخشاها البشر ولا يستطيعون السيطرة عليها وإحالة تلك المعضلات إلى ما فوق الطبيعة، وتحديدًا الموت. وبافتراض التشابه الكائن بين نظرية المحاكاة والدين، فإن نظرية المحاكاة يمكن أن ينظر لها أيضًا على إنها أحد إنتاجات عالم قلق ومهموم، يائس من إمكانية فهم الغرض من وجوده. وعليه، فإن الدين ونظرية المحاكاة كليهما يقدمان تفسيرات مُبسّطة للأسئلة المُعقّدة بشأن معنى الحياة والهدف من وجودنا، وهنا تكمن جاذبية الفكرتين.
مثل تلك المحاكاة قد تكون صُممت بواسطة مؤسسة علمية بتصريح حكومي -بفرض أن مجتمع ما بعد الإنسان (posthuman society) سيكون لديه نفس الهيكلية الإدارية الموجودة لدينا الآن- أو ربما تكون قد صممت بواسطة طفلٍ ذي تسع سنوات يعبث بجهاز حاسوب. ربما تكون تجربة اجتماعية، أو حتى مغامرة مفرغة من المعنى هدفها فقط الترفيه. ألم تشعُر يومًا بالضجر الشديد وتخيلت نفسك في لعبة تتحكم فيها بمصائر الناس وتعبث بهم كما تشاء؟ نعم إنه كذلك بالضبط. نحن لا نملك إلا أن نأمل فقط ألا يتضح يومًا ما أن ذلك كان علّة وجودنا.
ربما لن نستطيع التأكُّد يومًا من أننا نعيش داخل محاكاة أم لا. بيد أن هذا قد يكون شيئًا حسنًا، فهناك بعض النظريات التي تقول بأننا لو تمكنا من الوصول إلى مستويات مرتفعة من الوعي، ربما سيؤدي ذلك إلى الإغلاق (shut down)، بنفس الطريقة التي نضغط بها على مفاتيح ctrl-alt-delete في لوحة مفاتيح الحاسوب عندما يعاني جهاز الحاسوب من خلل أو علّة.
على أيِّ حال، هنالك بعض الباحثين يعتقدون بأن يمكن أن تظهر بعض الأدلة التي تشير إلى أننا نعيش داخل محاكاة. على سبيل المثال، لو اضطر صانعو المحاكاة يومًا ما إلى التدخل في واقعنا من أجل تعديل شيءٍ خاصٍّ بالقوانين الطبيعية للكون، فربما سيكون ذلك ملحوظًا.
ولكن، كما يشير الفيلسوف ديفيد تشالميرز (David Chalmers) نحن لن نستطيع امتلاك دليلٍ قاطعٍ أبدًا على أننا نعيش داخل محاكاة، لأن أي دليل قد يكون هو نفسه جزءًا من المحاكاة.
ترجمة: مايكل ماهر
مراجعة لغويّة: حمزة مطالقة
تحرير: نسمة محمود
المقال الأصلي