هل ما يتم تداوله من أن انشغالنا المستمر بهواتفنا الذكية هو ما يجعلنا أقل إنتاجية؟ هذا السؤال الخطير طرحه بنك إنجلترا مؤخراً في مقالة على مدونة البنك المركزي (يديرها موظفين وخبراء يعملون في البنك المركزي البريطاني) يتحدث فيها دان نيكسون (Dan Nixon) الذي يعمل في قسم المحتوى والاستراتيجية بالبنك عن بعض الأدلة التي تشير إلى أن ارتباطنا بالهواتف الذكية هو جزء من مشكلة التشتت أثناء العمل والتي يطلق عليها «أزمة الاهتمام أو الانتباه» والتي تجعل من الصعب العمل بكفاءة، وبالمحصلة فإن ذلك سيكون له تداعيات تؤثر على الاقتصاد ككل. حيث يُعد انخفاض الإنتاجية مشكلة في العديد من الاقتصادات المتقدمة، بما في ذلك الولايات المتحدة، فنجد على الصعيد العالمي، أنه لا يزال نمو الإنتاجية في أي مكان بالقرب من المعدل المسجل قبل الأزمة المالية لعام 2008. ويجاهد الاقتصاديون والسياسيون لتفسير السبب.
معركة الحصول على انتباهنا
يقول دان نيكسون أنه تم تصميم تطبيقات الهواتف الذكية وخلاصات الأخبار لجذب انتباهنا باستمرار. حيث تشير الأبحاث إلى أننا نشتت انتباهنا بنسبة 50٪ تقريبًا من الوقت. فهل يمكن لذلك أن يؤثر على الإنتاجية؟ ولماذا تُثار أزمة الاهتمام بشكل خاص في سياق صعود الذكاء الاصطناعي والحاجة إلى استحداث صفات بشرية مميزة؟ هل نفقد انتباهنا في عالم من التحميل الزائد للمعلومات؟ ما الذي نوليه الاهتمام إذًا؟ أصبحت هذه الأسئلة أكثر أهمية في العصر الرقمي مما ذي قبل. فمع صعود الهواتف الذكية على وجه الخصوص، انفجرت كمية المنبهات المتنافسة لاهتمامنا طوال اليوم. حيث وجدت دراسة استقصائية من عام 2013 أننا نتحقق من هواتفنا حوالي 150 مرة في اليوم، أي تقريبًا مرة واحدة كل 6 دقائق؛ ووجدت دراسة أحدث أن متوسط مستخدم الهاتف الذكي يقضي حوالي ساعتين ونصف كل يوم على هاتفه، موزعة على 76 جلسة. في سياق هذا التحول الثقافي الهائل، يظهر انتباهنا كمورد نادر، وأصبح ما يدُعى (اقتصاد الانتباه) مجالًا متناميًا من الدراسة. في هذه الأثناء، تبدأ نظرية الغفلة العقلانية بافتراض أن الحصول على المعلومات أمر مكلف، ومن ثم قد يتخذ صانعو القرارات قرارات تستند إلى معلومات غير كاملة.
تعتبر أزمة الاهتمام هذه واحدة من أعظم مشاكل العصر: ففي النهاية، كما لاحظ الفيلسوف الأمريكي (وليام جيمس – William James)، فإن خبرة حياتنا ككل تصل في النهاية إلى ما كنا نوليه الاهتمام. إذًا فلنرى، هل فعلًا يمكن أن تؤثر أزمة الاهتمام على الاقتصاد؟ سيكون أكثر الأماكن وضوحًا للنظر، نمو الإنتاجية، الذي كان ضعيفًا باستمرار عبر الاقتصادات المتقدمة على مدى العقد الماضي (وخلال هذا الوقت، ارتفعت الشحنات العالمية للهواتف الذكية إلى ما يقرب من عشرة أضعاف).
تأثير تشتت الانتباه على الانتاجية
تشكل عقولنا الجزء الأكبر من رأسمالنا البشري وما نوجه اهتمامنا تجاهه هو جزء لا يتجزأ من مخرجات نشاطنا العقلي. لذلك، تتوقع أن تكون لديك القدرة على الانتباه لتكون مساهمة رئيسية في الإنتاجية. فهناك القليل من الربط بين هذه الإنتاجية والإنتاجية في الاقتصاد ككل. ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن ملاحظة الحالات الداخلية (الانتباه) ورسم خرائطها للنتائج (الإنتاجية)، مع الأخذ في الحسبان العوامل الأخرى ذات الصلة، أمر صعب في حد ذاته. ومع ذلك، هناك بحث متصاعد يمكن أن يساعدنا في البدء في معالجة هذا السؤال. هدفي هنا، بدلاً من إعطاء إجابة محددة، هو وضع إطار للتفكير في هذه المسألة. أن المُلهيات في العمل سواء من رسائل البريد الإلكتروني الخاصة بالعمل أو إشعارات الهواتف الذكية أو ضوضاء المكاتب قد تتسبب في ضعف الإنتاجية عن طريق عاملين رئيسيين:
أولًا- التأثير المباشر لمشتتات الانتباه على مقدار الوقت المستغرق في العمل
تقدم الدراسات الاستقصائية تقديرات للوقت الذي يقضيه العمال في استخدام الإنترنت والتكنولوجيا المتنقلة أثناء ساعات العمل لأغراض شخصية. فنجد تقرير مؤسسة غرفة التجارة الأمريكية أن الأشخاص يقضون عادة ساعة من يوم عملهم على وسائل التواصل الاجتماعي، مع ارتفاعه إلى 1.8 ساعة بالنسبة لجيل الألفية. وفي غضون ذلك، وجدت دراسة أخرى أن حركة المرور إلى مواقع التسوق قد ارتفعت ما بين الساعة الثانية والرابعة بعد الظهر في أيام العمل بعد الظهر. ومن المرجح أن يكون الوقت الضائع الإجمالي أكبر من الوقت الذي يقضيه في تجنب العمل، لأن موظفي المكاتب عادة ما يستغرقون حوالي 25 دقيقة لاعادة التركيز على المهمة بعد التوقف بسبب تشتيت الانتباه. فتؤدي المُلهيات مباشرة إلى تقليل جودة العمل. على سبيل المثال، يُقدر تدفق رسائل البريد الإلكتروني والمكالمات الهاتفية بخفض معدل الذكاء لدى العمال بمقدار 10 نقاط، وهو ما يعادل خسارة نوم ليلة.
ثانيُا- انخفاض الإنتاجية باستمرار بسبب تشتت العقول بشكل معتاد
الفكرة هنا هي أن التشتت المتكرر قد يؤدي إلى قدرة أقل باستمرار على العمل، علاوة على التأثيرات المباشرة.
يلاحظ جيمس وليامز أنه يمكن للحظات مشتتة أن تؤدي بسرعة إلى أيام مشتتة. وتتشكل عاداتنا من خلال الطريقة التي يتم بها تصميم التكنولوجيا الاستهلاكية، مثل تطبيقات الهواتف الذكية، بحيث تكون إدمانية قدر الإمكان أو “اختطاف العقل” كما يقول تريستان هاريس. يقدم هاريس أمثلة مثل التمرير الذي لا نهاية له لصفحة آخر الأخبار (newsfeed)، والذي تم تصميمه ليجعلك ترغب في التمرير أكثر في حالة ظهور شيء جيد. فنجد أن الآلية النفسية في اللعب هنا هي (المكافآت المتغيرة المتقطعة) وهي نفس الطريقة التي تجعل الناس مدمنين للمخدرات على ماكينات القمار.
وهناك بعض الأدلة على أن المُلهيات تسبب المزيد من التشتت في مكان العمل. حيث وجد مارك (2015) أن العمال الذين يتوقفون عن العمل بسبب المنبهات الخارجية -مثل إشعارات الرسائل- يكونون أكثر عرضة لاحقًا إلى (المقاطعة الذاتية) أي إيقاف ما يفعلونه والتبديل إلى شيء آخر قبل الوصول إلى نقطة فاصلة. وبعبارة أخرى، إذا استمر تشتيت انتباهك عن طريق المنبهات الخارجية، فمن المرجح أن يتخبط ويتوه عقلك من تلقاء نفسه.
كلما زاد عدد مصادر الإشعارات المختلفة في مكان العمل والتي تتنافس على جذب انتباهنا، سنجري مزيدًا من التدقيق في القنوات المختلفة في محاولة للاستمرار في متابعة الأمور. وتكمن المشكلة في أن طريقة العمل هذه التي يطلق عليها الاهتمام الجزئي المستمر التي تعمل على تجزئة انتباهنا، تقلل من تركيزنا على المهمة المراد انجازها. في الواقع، يعد هذا تباينًا في تعدد المهام وهذا أمر مرفوض على نطاق واسع. فكما يقول كال نيوبورت إن وسائل الإعلام مثل البريد الإلكتروني، بعيدة كل البعد عن تعزيز إنتاجيتنا، وتعمل في نهاية المطاف على تشتيت العمل.
كيف نتصرف تجاه الحفاظ على انتباهننا
يقوم الأفراد والمؤسسات باستكشاف طرق لمواجهة مشكلة انخفاض الاهتمام. فنجد بعض الشركات تحتضن مهمة واحدة كطريقة للعمل، وبعض التجارب للتخلص من البريد الإلكتروني. على سبيل المثال تقديم دورات ذهنية لتركيز الانتباه إلى اللحظة الحالية، والتي ثبت أنها تحسن من تركيز الأشخاص.
في طرق البحث المستقبلية، يمكن أن يُسلط المزيد من العمل التجريبي الضوء على العوامل التي تم ذكرها سابقًا للحصول على تقدير للإنتاجية. من الناحية المثالية، فنحتاج أن نلاحظ مباشرة كيف أن رأس مال الاهتمام والإنتاجية يختلفان عبر الشركات وعبر الزمن وكيف يؤثر ذلك على الأجور. وفي حالة عدم وجود ذلك، ربما توجد مجموعات بيانات تسمح لنا بقياس المكاسب التي تحققت في إنتاجية الشركات التي تستخدم استراتيجيات لتعزيز اهتمام الموظفين، مقارنة بالشركات الأخرى في نفس الصناعة التي لا تستخدمها.
لاحظ أن التركيز هنا على فهم الرابط من الانتباه إلى الإنتاجية. وقد يشمل ذلك ملاحظة الدور الذي تلعبه التقنيات الرقمية في التسبب في تقلص الانتباه. ولكن بطبيعة الحال، فإن التأثير الكلي للتكنولوجيات الرقمية على الإنتاجية هو مشكلة أوسع (من المحتمل أن تعزز الإنتاجية، على سبيل المثال، من خلال تقليل تكاليف البحث).
المصدر
إعداد: إسراء حسني
مراجعة: عبدالله أمين
تحرير: زياد اشامي