هل يتسم جميع المرضى النفسيين بالعنف؟

هل يتسم جميع المرضى النفسيين بالعنف؟

في فيلم الجوكر الذي عُرض مؤخرًا، ولاقى رواجًا ساحقًا في العالم، حيث تُقدر إيرادات الفيلم بما يفوقُ 250 مليون دولار(1)(2)(3)(4).

الجملة القادمة بها حرق للأحداث.

انتهى الفيلم بإطلاقِ آرثر النار على رأس المذيع فرانكلين، ثم انخرطَ في نوبةِ ضحك هستيريةِ، كأنه لم يرتكب جُرمًا، مبررًا فعلته بكونه قد لاقى ما يكفي من المعاملة المزرية والاحتقار كمريضٍ نفسي، فهل يبدو الأمرُ منطقيًّا؟

تفضلُ هوليود الأمراض النفسيّة كمادةٍ دسمةٍ، لإنتاج المزيد من الأفلامِ التي تخلقُ علاقةً وثيقةً بين الأمراضِ النفسيّة وارتكاب المجازر الجماعيّة(5)، منها على سبيل المثال (سايكو، هالوين، الخطايا السبعة، فارس الظلام، صمت الحملان) وإن بدا الواقع مغايرًا لذلك، حيث وُجِدَ أن 90% أو ما يزيد من المرضى النفسيين بأمراضٍ خطيرةٍ لا يُقبِلون مُطلقًا على ارتكابِ أعمالٍ عنيفة. وبالإضافةِ إلى ذلك، يُحتمل أن يكون المرض النفسيّ الحاد سببًا فيما يقاربُ من 3-5% من جرائمِ العنف(6).

العلاقة بين المرض النفسيّ والعنف

لا توجدُ علاقةَ بيّنةً بين الأمراض النفسيّة وارتكاب الجرائم كما يروّج علم النفس الشعبي، لكن ربما  يقتصر لجوء بعض المرضى النفسيين لاستخدام العنف على فئاتٍ معينة كمدمني المخدرات، والمرضى الذين سبق ارتكابهم لأعمال عنف، والمصابين بالهلاوس والوساوس التي تدفعهم لإيذاء الآخرين أو لإيذاء أنفسهم، والشخصيّة السيكوباتيّة والشخصيّة  المعاديّة للمجتمع، والأشخاص العنيفون بطبعهم(7)، لكن ذلك لا يجعل هذه الأمراض النفسيّة موضع اتهام لتبريرِ أعمال العنفِ، فوصمة العار التي لحقت بهم دون ذنب، تدفعهم للتخفي، وأحيانًا الخشية من طلب العلاج، والتردد من الإفصاح عن مشاكلهم(8).

ما الدافع وراء استخدام العنف؟

يرتبط استخدام العنف ارتباطًا وثيقًا بالقدرة على ضبط المشاعر وخاصةً مشاعر الغضب، فعندما يشعر الشخص بدفقة قوية من مشاعرِ الغضبِ، يحاولُ المخ بشتى الطرق التعامل معها ربما عن طريق الصراخ أو الجري.

أما بالنسبة لمن لا يستطيعون ضبط مشاعرهم، فريثما تنتابهم مشاعر سلبيّة كالإحباط والغضب، يفشلون في القدرة على ضبطها وسرعان ما يلجؤون لاستخدام العنفِ، لذا يمكننا الجزم بأن الشخصيّات التي تفتقد القدرة على ضبط الذات عامةً هم من يتصرفون بعنف، ولا يقتصر الأمر على المرضى النفسيين فقط.

يفتقد بعض الأشخاص القدرة على ضبط الذات، إما بسبب عوامل جينية أو عوامل بيئية، فعادةً ما يعانون من الحساسية والهشاشة تجاه الأحداث العاطفية، ويصعب عليهم التعامل مع تلك المشاعر المضطربة بتريّث وهدوء، ربما أيضًا بسبب التعرّض المتكرر للضغوطات المستمرة والنبذ والاحتيال، مما يدفعهم للدخول في حلقات لا نهائية من اضطراب المشاعر وتدفق المشاعر السلبيّة، وللتخلّص من حِدّة تأثيرها يلجأون لاستخدام العنف(9)،(10)،(11) 

أيهما أخطر؛ امتلاك الأسلحة أم المرض النفسيّ؟

أجرت جامعة تكساس دراسة على مجموعة من الشبابِ يبلغ عددهم ستمائة وستين مشاركًا ( 62% منهم فتيات في الثانية والثلاثين تقريبًا، 34% هسبانيين، 27% سود البشرة، 26% بيض البشرة)، وقد أثبتت  الدراسة أن الذين يمتلكون أسلحة لديهم قابلية بثمانية عشر ضعفًا عن غيرهم ممن لا يملكون سلاحًا، بينما كانت قابلية المرضى النفسيين 3.5 مرة عن الآخرين، بل وأكدت أن الغالبية العظمى من حالات المرض النفسي لا علاقة وثيقة بينها وبين ارتكاب الجرائم العنيفة باستخدام الأسلحة الناريّة، فيما عدا الشخصيات العدوانية التي تميل ربما لتهديد الآخرين باستخدام الأسلحة، لكن العدوانية لا تعد مرضًا نفسيًا(12)،(13). وربما هذا ما أكده فرويد(14):

«ومنذ اللحظة التي دخل فيها السلاحُ عالم الإنسان، بدأ التفوّق الفكري تقريبًا يحلُّ محلَّ القوة العضلية البهيمية؛ لكن غاية القتال النهائية بقيت هي ذاتها: أن يُجبَر هذا الطرفُ أو ذاك على التخلِّي عن دعواه أو اعتراضه، وذلك بإيقاع الضرر به وتحطيم قوته. وكانت تلك الغاية تتحقق على أتم وجه إذا ما استطاع عنف المنتصر أن يقضي على خصمه قضاءً مبرمًا، أي أن يقتله. فلهذا العمل ميزتان: أولهما أنه لن يستطيع تجديد مقاومته، والثانية أن مصيره يمنع الآخرين من الحذو مثله. زِدْ على ذلك أن قتل الخصم يُرضي ميلًا غريزيًّا -الغريزة التدميرية-. فنيَّة القتل يمكن لفكرة أخرى أن تقابلها، هي أن الخصم يمكن أن يُستخدَم لتأدية خدمات مفيدة إذا ما أُبْقِيَ على قيد الحياة وفي حالة شديدة من الضعف والذعر. في هذه الحالة، يقنع عنف المنتصر بإخضاع الخصم بدلًا من قتله. وهذه هي البداية الأولى لفكرة الإبقاء على حياة الخصم. لكنْ، فيما بعد، تعيَّن على المنتصر أن يأخذ في حسبانه تعطُّش الخصم المنهزم إلى الانتقام وأن يضحِّي بشيء من أمانه ،هكذا إذن، هذه هي الحالة الأصلية للأشياء: السيادة لِمَن يمتلك القوة الأكبر، السيادة للقوة الوحشيِّة أو للعنف الذي يدعمه التفكير»

الخلاصة

ما نستخلصُه من مجمل هذه الدراساتِ أن الأمراض النفسيّة ليست العامل الرئيسي في ارتكاب أعمال العنفِ،كما أن الأمراض النفسيّة لا تُخلِي مسؤوليّة أصحابها عن بشاعةِ الفعلِ، فالعدوانية والعنف إحدى السمات الأساسية التي وُصِفت بها البشرية. ولذلك صرحَ رئيس الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين(15) فيليب دايفد (بالإنجليزيَّة: Phillips Davids):

«اتهام المرضى النفسيين على الدوام بارتكاب هذه الجرائم الشنيعة لا أساس له من الصحة، أثبتت الأبحاث العلميّة أن نسبةً ضئيلة جدًا من أعمال العنف تُنسب إلى أشخاص شُخِّصوا كمرضى نفسيين، كما أن نسبة المصابين بالأمراض النفسيّةِ على مستوى العالم متقاربة تمامًا، لكنهم لا يشهدون تلك الجرائم الفظيعة مثلما نشهدها نحن في الولايات المتحدة، ربما يُشَكِّل امتلاك الأسلحة النارية عاملًا هامًا، وتكتمل مكونات الوصفة المثالية لهذه الكارثةِ بإضافة العنصريّة، العدوانيّة، العصبيّة»

 

 

المصادر

  1.  “Joker (2019)”بوكس أوفيس موجو. مؤرشف من الأصل في 23 أكتوبر 2019. اطلع عليه بتاريخ November 23, 2019.
  2. ^ “Joker (2019)”ذي نمبرز. مؤرشف من الأصل في 9 نوفمبر 2019. اطلع عليه بتاريخ November 19, 2019.
  3. ^ “Joker (2019)”بوكس أوفيس موجو. مؤرشف من الأصل في 12 أكتوبر 2019. اطلع عليه بتاريخ October 12, 2019.
  4. ^ “Joker”Box Office Mojo. مؤرشف من الأصل في 24 أكتوبر 2019. اطلع عليه بتاريخ 24 أكتوبر 2019.
  5. كتاب أشهر 50 خرافة في العالم
  6. كتاب أشهر 50  خرافة في العالم
  7. Harris, A., & Lurigio, A. J. (2007). Mental illness and violence: A brief review of research and assessment strategies. Aggression and Violent Behavior, 12, 542-551. doi:10.1016/j.avb.2007.02.008
  8. https://www.psychologytoday.com/intl/blog/happiness-is-state-mind/201908/we-need-stop-blaming-mental-illness-mass-shootings
  9. Gardner, F.L & Moore, Z.E. (2008). Understanding clinical anger and violence: The anger avoidance model. Behavior Modification, 32:897–912.
  10. Siever, L. (2008). The neurobiology of aggression and violence. American Journal of Psychiatry. 169:429-442.
  11.   Herts, K. et. al. (2012). Emotional dysregulation as a mechanism linking stress exposure to adolescent aggressive behavior. Journal of Abnormal Child Psychology, 40(7):111-1122.
  12. McGinty, E. E., Webster, D. W., Jarlenski, M., & Barry, C. L., 2014. News media framing of serious mental illness and gun violence in the United States, 1997–2012. American Journal of Public Health, 104(3), 406–413.
  13. 3Lu, Y., & Temple, J. R. (2019). Dangerous weapons or dangerous people? The temporal associations between gun violence and mental health. Preventive Medicine, 121, 1-6.
  14. رسائل لماذا الحرب؟ بين فرويد وأينشتاين.
  15. https://www.apa.org/news/press/releases/2019/08/gun-violence-mental-health
شارك المقال:
0 0 votes
Article Rating
4 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي