«هيباتيا» امرأة في مواجهة الجمود الفكري

vxsR4pjm8VNFrywz9TQLj3loxNB1

|


حقيقةً لانعرف الكثير عن صاحبة هذا الوجه ذو الملامح الهادئة، ربما لأنَّه لم يصل إلينا إلا القليل من إنتاجها العلمي، ولكن الطريقة الوحشية التي ماتت بها كانت سببًا كافيًا لتسليط الضوء على مسيرتها العلمية، حتى أصبحت رمزًا نسائيًا بارزًا وتجسيدًا لمعاناة أصحاب الفكر في المجتمعات التي تنبذ الاختلاف.

نشأة هيباتيا وتعليمها:

يوجد الكثير من الجدل حول تاريخ مولدها، فالبعض يرى أنها ولدت في عام (355) ميلاديًا، والبعض الآخر يرى أنها ولدت في عام (370) ميلاديًا وهو الأمر الراجح، أمَّا عن نشأتها فقد نشأت هيباتيا في بيئةٍ تُهمش النساء، فقد سيطر على المجتمع أفكار الفلسفة الأرسطية التي كانت ترى أنَّ النساء لسن كنظائرهن من الرجال من حيث القدرات الفكرية، ولكن كان للبيت الذي تربَّت فيه فضلًا كبيرًا في تكوين شخصية استثنائية غير مبالية بالمعتقدات السائدة في مجتمعها آنذاك؛ كان والدها ثيون (Theon) عالم في الرياضيات والفلك وآخر رئيس لمتحف الإسكندرية، فكان لهذا الأب أثرًا عظيمًا في حياتها العلمية، حيث أرسلها في سن مبكرة إلى أثينا وروما  لدراسة الفلسفة.(1)

إسهامات هيباتيا في ميادين العلوم المختلفة:

أخذت هيباتيا على عاتقها مهمة تعليم أهل الإسكندرية عندما عادت إليها بعد إتمام دراستها، فعلى الرغم من جمالها الذي لا يمكن تجاهله فضَّلت أن تسلك طريق العلماء واختارت الزّي الأكاديمي، فكان الطلاب يسافرون إليها من جميع الأمصار لسماع محاضراتها في الفلسفة والفلك والرياضيات، فقد كانت خطيبةً مفوهةً حتى وصفها البعض ب(منيرفا) في إشارة إلى إله الحكمة عند الإغريق. حظت هيباتيا بحب واحترام شديدين من طلابها، ليس هذا فحسب بل لم تكتفِ هيباتيا بإلقاء المحاضرات، بل سعت لإكمال مسيرة والدها في الحفاظ على التراث الرياضي والفلكي اليوناني، فبعد أن قام والدها بعمل تعليقات على كتاب الأصول ل(إقليدس)، وكتاب المجسطي(Almagest) والجداول اليدوية(Handy Tables) ل(بطليموس)، علَّقت هي بدورها على كتاب القطوع المخروطية في الهندسة لكاتبه أبولونيوس(Perga conics)، وسلسلة أرثماتيكا (Arithematic) ل(ديوفانتوس السكندري) وهي سلسلة من الكتب التي تعرض مجموعة من النظريات الحسابية، هذا بالإضافة إلى كتاب الجداول الفلكية(Astronomical table) وهو نسخة مُنقحة من تعليقات والدها على كتاب المجسطي، وقد عدَّها البعض أول امرأة عالمة في الرياضيات. كانت إسهاماتها في مجالات العلوم المختلفة أساسًا بَنى عليه كلًا من (إسحق نيوتن) و(ديكارت) و(غوتفريد لايبنتس) أبحاثهم ونظرياتهم.(1)(2)

الأوضاع الاجتماعية وظهور حركة الأفلاطونيين:

كانت الإسكندرية في القرن الرابع الميلادي مدينةً حافلةً بمزيجٍ من الديانات المختلفة؛ الأمر الذي أثَّر على الوضع السياسي والاجتماعي آنذاك، فبالإضافة إلى المسيحية التي كانت الديانة الرسمية للبلاد، وجدت أيضًا اليهودية، ومجموعةً كبيرة ممن بقي على عبادة الآلهة الإغريقية، وغيرها الكثير من الديانات. فقد ساد جو من التوتر وعدم التعايش ليس فقط بين أصحاب الديانات المختلفة ولكن أيضًا بين الفرق المسيحية، وترتب على ذلك أنَّ أغلب المدارس في ذلك الوقت كانت تقبل المتقدمين من أهل ديانتها فقط، ولكن في ذلك الحين كان الجلوس لسماع محاضرات هيباتيا متاحًا لكل الطلبة على اختلاف خلفياتهم الدينية، وخير دليل على هذا هو سينيسيوس(Synesius) الذي كان واحدًا من أشهر طلابها وقد كان مسيحيًا وأسقفًا لمدينة طلميثة فيما بعد.

نشأت حركة الأفلاطونيون كردة فعل على الهيمنة الكنسيَّة في ذلك الحين خاصةً بعد إصدار قرار ينص على أنَّ رجال الدين الذين يشتغلون بعلم الرياضيات أو الفلك لا يُعدون من أبناء الكنيسة؛ الأمر الذي زاد من حدة الأوضاع، وقد دعت حركة الأفلاطونيون إلى التمسك بالتعاليم الفلسفية ل(فيثاغورس) وكان أغلب المنتسبين لهذه المدرسة الفلسفية هم علماء الرياضيات ومن بينهم هيباتيا التي تبنَّت الفلسفة الأفلاطونية، ولكن لم يثبت تاريخيًا أنَّها شاركت في أي حركات معادية للسلطة الحاكمة.

وفي عام (389)م أعلن (ثيوفيلوس) رئيس أساقفة الإسكندرية الحرب على الوثنية وقام بتدمير معبد الإله سيرابيس(Serapis)، ولكن وعلى الرغم من عدم تقبُله لما تُلقيه هيباتيا من محاضرات، فلم يقف (ثيوفيلوس) عائقًا أمام مساعيها العلمية، ربما يرجع ذلك لعلاقة الصداقة التي كانت تجمعه ب(سينيسيوس).

لم يمضِ وقتًا طويلًا حتى توفي (ثيوفيلوس) مخلفًا وراءه رئيسًا جديدًا لأساقفة الإسكندرية وهو  (سيرسل) الذي رأى الأفلاطونيين كعدو يجب أن يُدمر، بدأت حينها حملة لتشوية صورة هيباتيا ووالدها واتهامهما بممارسة السحر الأسود والشعوذة، الأمر الذي أنذر باقتراب النهاية.(3)(4)

وفاة هيباتيا:

تحكي لنا هذه النهاية القاسية مأساة أصحاب الفكر في كل العصور، ففي مشهد من أكثر المشاهد وحشيةً في تاريخ الإسكندرية الرومانية كانت نهاية هيباتيا؛ في طريق عودتها من إلقاء محاضراتها في أحد أيام شهر مارس من عام (415)م، ترَصَّد لها مجموعة من الغوغاء المتطرفين الذين طافوا بها شوارع الإسكندرية جرًا حتى تسلخ جسدها ثم قاموا بإحراق جثتها بعد موتها دون ردة فعل من السلطة ودون اتخاذ أي إجراء في حق من قتلها.

يُثار جدل تاريخي واسع حول كونها قُتلت بإيعاز من (سيرسل) رئيس الأساقفة، الأمر الذي لا نستطيع إثباته حتى الآن، وقد ترتب على موتها هجرة العديد من العلماء الذين رأوا أن الإسكندرية بعد موت هيباتيا لم تعد مكانًا آمنًا لأصحاب الفكر.(4)

 

إعداد: تسنيم مجدي

مراجعة علمية وتصميم : عمر بكر
تدقيق لغوي: أمنية أحمد عبد العليم

المصادر:
1- Hypatia | mathematician and astronomer [Internet]. Encyclopedia Britannica. [cited 2017 Nov 15]. Available from: https://www.britannica.com/biography/Hypatia

2- Happy Pi Day! Celebrating Women in Mathematics [Internet]. Biography.com. [cited 2017 Nov 15]. Available from: https://www.biography.com/news/pi-day-famous-female-mathematicians

3-Synesius of Cyrene – Livius [Internet]. [cited 2017 Nov 15]. Available from: http://www.livius.org/articles/person/synesius-of-cyrene
/
4-Skyscript: The Life and Work of Hypatia by Sue Toohey [Internet]. [cited 2017 Nov 15]. Available from: http://www.skyscript.co.uk/hypatia.html

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي