كان هنالك أمرٌ غريبٌ حيال السجين رقم ٤٨٥٩. كحال العديد من زملائه السجناء، قُبض على ٤٨٥٩ من قبل النازيين وحُجز في معسكر جديد على مشارف بلدة «أوشفينجم»، معسكر أوشڤيتز للاعتقال والإبادة الشهير!
في أعقاب الغزو النازي لبولندا عام 1939م، شرع المحتلون في الحال في إنشاء شبكة من المعسكرات والسجون. من بين هؤلاء؛ سيصبح “أوشفيتز” المعسكر الأشهر والأشد فظاعة في نظام معسكرات الاعتقال النازي. بعد بدء تشغيل المعسكر ومع وصول أول سجناء في مايو 1940، كان أوشفيتز صرحًا غامضًا حتى رغبت المقاومة البولندية في معرفة المزيد عنه. وكان شغلها الشاغل والسؤال الذي راود المقاومة على الدوام: ما الذي كان يحدث بالضبط في ثكنات الجيش المحوَّلة إلى معسكرات نازية في ضواحي مدينة أوشفينجم؟
إن الاسم الحقيقي لـ ٤٨٥٩ هو «ويتولد أو فيتولد بايليكي»، الاسم الذي لم يجلب للقليل الذين عرفوه وقتها سوى الظنون والشكوك بأن بيليكي لم يكن إلا خائنًا حصل على ما يستحقه بينما كان الواقع مختلفًا تمامًا. ذلك الواقع وتلك الحقيقة التي ظلَّت غير معروفة في بولندا حتى سقوط النظام الشيوعيّ في عام 1989م. كان ويتولد بايليكي الجندي المخضرم الذي شارك في الحرب البولندية السوفيتية في (1919-1921م) وفي معركة وارسو؛ متحمسًا للمساعدة في المقاومة البولندية بأي طريقة ممكنة وشغوفًا بمعرفة ما يجري خلف أسوار أوشفيتز وبين جدرانه المريعة. وعلى ذلك رسم بايليكي خطة بسيطة وهي أن يتحول هذا الجندي إلى سجين في أكثر الأماكن خطورة وجزعًا على وجه الأرض آنذاك، ومن هناك يبدأ في جمع وتهريب المعلومات الاستخباراتية حول المكان ويرسلها إلى قادته في بولندا. قدم خطته للتسلل إلى المخيم لرؤسائه في خريف عام 1940م، وتم التصديق عليها وقبولها بشغف على الفور.
انضم بايليكي حاملًا بطاقة هوية مزوَّرة تحمل اسم «توماس زيرافينسكي» إلى مسيرة احتجاج ضد النظام النازي في وارسو في 19 سبتمبر. تم القبض عليه على الفور واحتجازه مع 2000 مدني بولندي لمدة يومين في ثكنات سلاح الفرسان القديمة حيث تعرض للتعذيب والضرب القاسي بالهراوات المطاطية، ومن ثم نُقل بايليكي، أو زيرافينسكي، إلى أوشفيتز ومُنح رقم السجين ٤٨٥٩. ووقتها كان الجزء الصعب على وشك أن يبدأ.
بمجرد دخول المخيم، شرع بايليكي في تكوين حركة مقاومة سرية على الفور وأطلق عليها اسم (اتحاد المنظمة العسكرية – Zwiazek Organizacji Wojskowej)، كانت أهدافها زيادة معنويات النزلاء من خلال تهريب المواد الغذائية والأدوية والملابس إلى المخيم، بالإضافة إلى جمع المعلومات الاستخباراتية وتهريبها إلى خارج المخيم، وبذلك بدأ “ويتولد” في توثيق وحشية الحياة اليومية في معسكر السجن الذي يضم بالأساس عسكريين وسياسيين إلى معسكر مكرَّس فقط للإبادات الجماعية، الشيء الذي جعله دومًا على بعد خطوة واحدة من الموت.
خلال السنتين ونصف السنة التي قضاها بيليكي في المخيم؛ تمكَّن من تهريب كميات هائلة من المعلومات لرؤسائه في المقاومة البولندية، كما حرص على تدريب أعضاء (ZOW) على الاستيلاء على المخيم في حال ظهور أي فرصة لتحقيق ذلك. وبحلول أكتوبر 1940م، بدأتْ تقارير بايليكي حول الظروف في المخيم تصل إلى وارسو. تم تهريبها من قبل السجناء المفرج عنهم والسجناء الهاربين والعمال المدنيين الذين اقتنعوا بمساعدة (ZOW)، وسرعان ما تم إرسال تلك التقارير المفجعة إلى الحكومة البولندية في منفاها في لندن، والتي بدورها نقلتها إلى حكومة تشرشل.
وصل تقرير بايليكي الأول إلى لندن في ربيع عام 1941م، كان تقريرًا موجزًا عن سادية النازيين مع السجناء في المخيم. وبمرور الوقت، خاصةً من مايو 1942م فصاعدًا، بدأت طبيعة تقارير بايليكي تتغير حيث أُلحق المخيم في عام 1941م بمعسكر ثانوي جديد تم إنشاؤه في بيركيناو وأطلق عليه “أوشفيتز الثاني”، كان الهدف الأساسي من معسكر بيركيناو هو إيواء أسرى الحرب بعد الغزو النازي للاتحاد السوفيتي. لكن بالطبع سرعان ما قُتل هؤلاء الأسرى بسبب إرهاقهم جوعاً ومرضًا. وهنا أصبح تحول “أوشفيتز- بيركيناو” من سجن إلى مصنع للموت! قُدّر عدد المقتولين في “أوشفيتز- بيركيناو” وحده ما زاد عن مليون يهودي وبولنديين وغجر ومثليين جنسياً وأي شخص آخر لم يرقَ للكيان النازي أو اعتبروه فائضًا عن الحاجة. من بين الستة ملايين يهودي الذين قتلوا على أيدي النازيين في الهولوكوست، لقى واحد من كل ستة حتفه في “أوشفيتز-بيركيناو” الوحشيّ.
سيطر الذهول على أفراد المقاومة البولندية إثر ما ورد في تقارير بايليكي عن القتل والتعذيب على نطاق واسع في أوشفيتز، بل استحال على البعض تصديقه من الأساس. لم يكن لديهم شكٌ بأن البريطانيين سيتصرفون على الفور حين تصل لهم أوصاف بايليكي لأفران الغاز والمقابر الجماعية وعمليات الإعدام العقابية والمعاناة الإنسانية المستحيلة خلف جدران أوشفيتز-بيركيناو، ولكن المساعدة لم تأتِ قط. حتى أحد المطالب التي طلبتها المقاومة البولندية بقصف خطوط القطار التي حملت السجناء إلى بوابات بيركيناو تم رفضه،كان ذلك ليوقف عمليات القتل ولو مؤقتًا، لكنه لم يحدث قط.
بحلول عام 1943م، كان البوليس النازي السري على وشك كشف أمرالـZOW ، الأمر الذي أسفر عن مقتل العديد من أعضائها البارزين. هنا أصبح من الواضح لبيليكي أن المعلومات التي كانت بحوزته عن المخيم كانت مهمة للغاية بحيث لا يمكنه المجازفة بفقدانها إذا كُشف أمره، وبالتالي فقد حان الوقت للخروج من هناك قبل أن يتم تعذيبه وقتله هو الآخر. تمكن من الحصول على نقل إلى مخبز المخيم، الذي كان يقع على بعد ميلين خارج أسوار أوشفيتز. بمساعدة من صديقين، قام بايليكي بقطع خطوط الهاتف والتنبيه في المخبز، وتغلب على الحارس وهرب باستخدام نسخة من مفتاح الباب الأمامي للمبنى. غادر فيتولد بايليكي معسكر أوشفيتز ليلة 26 أبريل 1943م بعد عامين ونصف هناك.
عاد بايليكي إلى وارسو وإلى مقر المقاومة البولندية، المعروف باسم “جيش الوط”. وقام بتجميع وكتابة تقرير نهائي شامل عن وقته في أوشفيتز والفظائع التي شهدها هناك، ذلك التقرير الذي عُرف باسم “تقرير فيتول”، والذي كان رصدًا مُفصلًا لعمليات الإعدام الجماعي والتعقيم القسري والتجارب البربرية الفظيعة للنازيين. وبعد تقديمه هو الآخر، لم يتم اتخاذ أي خطوة تجاه أوشفيتز مجددًا، ولا حتى تعطيل خطوط المواصلات في المخيم. ستظل تلك واحدة من أكثر الفرص الضائعة المأسويّة في الحرب، بل في التاريخ الحديث كلّه.
وفي صيف عام ١٩٤٤م ومع تقدم السوفييت نحو العاصمة البولندية، اشترك بايليكي في انتفاضة الجيش المحلي في وارسو حيث قام الجيش البولندي بمهاجمة القوات الألمانية على أمل أن ينضم الجيش الأحمر إلى القتال وتحرير المدينة. ولكن لسوء الحظ؛ لم يكن لدى ستالين نفس الهدف ولم يمتلك رغبة في رؤية المقاومة البولندية وحكومة البلاد تدير بولندا بعد الحرب فقد أراد أن يحكمَ البلادَ النظامُ الشيوعيّ ولتحقيق هذا الهدف، سيكون من المفيد إذا تم محو جيش الوطن البولندي من الصورة نهائيًا.
وهكذا جلس الجيش الأحمر جانبًا يشاهد الهجوم الألماني المضاد الذي سرعان ما سحق الانتفاضة البولندية سحقًا وأسفر عن عدد مهول من القتلى والمصابين ولم يحرّك ساكنًا في ردع عمل انتقامي شنيع آخر من قِبل ألمانيا النازية التي قامت بتخريب وهدم مدينة وارسو الرائعة وتخريب إرثها الثقافي المذهل…
بالطبع تم أسر بيليكي بعد الانتفاضة وقضى بقية الحرب في الأسر في البداية في بلدة لانسدورف في سيليزيا ثم في معسكر لأسرى الحرب في مورنا في بافاريا. تم تحرير ذلك المعسكر من خلال تقدم القوات الأمريكية في 28 أبريل 1945م. انضم بايليكي فور تحريره إلى قسم الاستخبارات في الجيش البولندي الثاني وتم إرساله إلى إيطاليا. لم يبقَ هناك لفترة طويلة، وكان قراره بالعودة إلى وطنه هو الذي حسم مصيره.
عاد فيتولد بيليكي إلى وارسو تحت اسم مستعار مجددًا في ديسمبر عام 1945م ليبدأ من جديد في جمع المعلومات الاستخبارية لكن هذه المرة عن النظام السوفيتي العدائي الذي كان الآن مسؤولاً عن بولندا بعد الحرب. وعلى الرغم من تحذيره لأنه أصبح كارتًا محروقًا معروفة هويته؛ إلا أن بايليكي آثر اختيار الواجب فوق الحفاظ على روحه ومواصلة عمله بغض النظر عن المخاطر. لقد كان قراره المؤسف سوء تقدير قاتلًا حيث أُلقي القبض عليه في أبريل عام 1947م وألقي به في السجن مجددًا وللمرة الأخيرة.
قضى بايليكي ما يقرب من عام من التعذيب والحرمان على أيدي خاطفيه السوفييت، ثم عُقدت محاكمة صورية في 3 مارس 1948م وبالطبع كان حكم الإعدام حينها مجرد نهاية مفروغ منها، تحصيلًا حاصلًا لا أكثر. تم إطلاق النار على فيتولد بايليكي في الجزء الخلفي من الرأس في سجن موكوتوف بوارسو في 25 مايو عام 1948م. كان يبلغ من العمر آنذاك 47 عامًا.
لم تكن قصة ويتولد بايليكي معروفةً حتى سقوط النظام الشيوعيّ في عام 1989م. حينها شاع اسم الرجل الذي تطوع بنفسه بالدخول إلى أوشفيتز وأصبحت بطولته معروفة على نطاقٍ واسع. كان ويتولد بيليكي رجلًا شجاعًا للغاية تحمَّل طوعًا أهوال معسكر اعتقال أوشفيتز ونجا ليحكي الحكاية.
الآن وبفضل الكاتب الصحفي “چاك فيرويذر” وكتابه (The Voluteer-المتطوع) يمكننا معرفة تفاصيل قصة ويتولد بايليكي المذهلة… أصبح بايليكي اليوم شخصيةً تبجيليةً، بطل الشعب البولندي وحصل بعد وفاته على أعلى وسامٍ عسكريّ في بولندا، وسام النسر الأبيض في عام 2006م.
ترجمة: زهرة المنصوري
مراجعة علمية: عمر بكر
تَدقيقٌ لُغَوِيّ: محمود خليفة
تحرير: هدير جابر