«جاليليو جاليلي»، أول كفيف ينظر إلى السماء

_75edf676-5bc3-4832-9866-a1df7c43a371

عندما وصل إلى مسامع العالم الإيطالي «جاليليو جاليلي Galileo Galilei» نبأُ اختراع آلةٍ جديدة هي التلسكوب في منتصف عام ١٦٠٩، كان أول ما خطر بباله واستولى على عقله وكيانه أن يصنع بنفسه تلك الآلة ليوجهها إلى السماء. وبطبيعة الحال، فلا أظهر ولا أفضل من القمر ليكون أولَ ما يخطر ببال أي باحث لينظر إليه؛ فهو ثاني ألمع جسم في السماء بعد الشمس، ونوره ليس مُحرِقًا ولا ضارًا للعين إن حدقت به كأشعة الشمس. فلا شيء أكثر أمانًا منه ليُصوِّبَ إليه المرءُ نظرَه ليستخدم وليُجرِّب آلته الجديدة تلك. لقد أذهلت السماءُ جاليليو، أذهلته إلى درجة أنْ بدأ فورًا في إعداد تقرير ليكتب ويدون فيه ملاحظاته لينشرها ويعلنها أمام العالم أجمع. وبعد سنة واحدة، وفي عام ١٦١٠، نشر جاليليو كُتيِّبَه الذي حمل عنوان «رسالة سماوية Sidereus Nuncius» حيث سجل فيه مشاهداته للقمر، واكتشافه لأقمار كوكب المشتري، والكثير غيرها من الملاحظات القيّمة التي أبهرته وأبهرت الدنيا حينئذ.

تُرى ماذا عساه أن يرى جاليليو أول ما وجهه تلسكوبه إلى القمر؟ يجيبنا في بداية كتيبه «رسالة سماوية» ويقول لنا:

«أي شيء أجمل وأمتع للعين من أن تنظر إلى القمر! ذاك الذي يبعد عنا حوالي ستين قطرًا أرضيًا، أي شيء أجمل من أن تنظر إلى هذا الجسم البعيد كما لو كان يبعد عنا بمقدار قطرين اثنين فقط؟! إنه يبدو أكبر بمقدار ثلاثين مرة …. بعد النظر الجيد سوف يدرك أي شخص على وجه اليقين الذي تخبرنا به حواسنا بأن القمر ليس بأي حال من الأحوال سطحًا أملسًا ومصقولًا، ولكنه وعر وغير مستوٍ. إن سطح القمر يماثل سطح الأرض تمامًا، فتراه يعج في كل منطقة منه بجبال، وسهول، ومرتفعات، وتصدعات.»[1]

وفقًا لهذا «اليقين الذي تخبرنا به حواسنا»، يقول جاليليو أنه رأى من خلال تلسكوبه مناطق وعرة وتصدعات على سطح القمر. لقد كشف له التلسكوب الحجابَ عن شكلٍ جديد لسطح القمر، كأنه توأمٌ مماثل للأرض بكل صفاتها. والأهم من ذلك كله أنه رأى جبالًا. وما يجعل رؤيته للجبال اكتشافًا غاية في الأهمية هي النظرية السائدة عن الأرض والسماء والكون في زمنه. فقد كانت النظرة الأرسطية مسيطرةً على العالم كله، حيث ينقسم فيها العالَم إلى عالمين، عالَم أرضي، وعالَم سماوي. وبطبيعة الحال فإن الأرض كانت عالَمًا مشوهًا، مليئ بالجبال والهضاب والوديان، ذات سطح وعرٍ من مرتفعات ومنحدرات، العالم الأرضي عالم مشوة. لكن، وعلى العكس من ذلك، فإن العالَم السماوي لا يماثل الأرضَ بأي حال، فهو عالَم كامل، سطحه أملس، ليس فيه جبال ولا منحدرات ولا فوضى كما في الأرض. العالَم السماوي عالمٌ شبه إلهي، وبالتالي فهو عبارة عن أجسام كروية، تدور في دوائر منضبطة محكمة، لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا. وبما أن القمر جرمٌ ينتمي للعالَم السماوي فهو بالضرورة كامل، دائري، منتظم، أملس، غير متغير، لا تشوبه شائبة.

القول بأن القمر جسم به جبال وأودية مثل الأرض، يتعارض بشكل مباشر مع النظرية الأرسطية التي يتم تدريسها في المدارس والجامعات، والتي يقوم أساسها على هذا الانفصال القاطع بين العالَم الأرض والسماوي. وكما أشار جاليليو نفسه إلى هذا الأمر بأن اكتشافاته القمرية تعد دليلًا تجريبيًا قاطعًا لدحض النظرية الأرسطية وإثبات بطلانها، فكتب يقول:

«ومن خلال المشاهدات المتكررة لـ [البقع على القمر] توصلنا إلى نتيجة مفادها أننا بالتأكيد نرى سطح القمر ليس أملسًا، ولا مستويًا، ولا كرويًا تمامًا، كما تعتقد الغالبية العظمى من الفلاسفة عن طبيعة القمر وغيره من الأجرام السماوية. بل على العكس من ذلك، فهي غير مستوية ووعرة ومليئة بالمنخفضات والارتفاعات. وهو كوجه الأرض تمامًا المكتظ بسلاسل الجبال وأعماق الأودية هنا وهناك.»

كانت هذا الرأي الذي «تعتقده الغالبية العظمى من الفلاسفة» الأرسطيين واضعين حدًّا فاصلًا بين العالَم الأرضي والعالَم السماوي قد تم إثبات بطلانه بالتجربة المعتمدة على «اليقين الذي تخبرنا به حواسنا»، أو هكذا قال جاليليو. لكن إذا ما أردنا أن نُمعن النظرَ في الأمر، هل كانت مشاهدات جاليليو حقًا أدلةً تجريبيةً تدحض النظرةَ الأرسطية؟ هل كان جاليليو مخولًا أن يصلَ إلى هذا الاستنتاج الذي مفاده أن القمر به جبال وهضاب وأودية؟ بل هل كانت مشاهدات جاليليو أدلةً كافيةً تجبر المؤمنين بنظرية أرسطو على تركها والتسليم بعدم صوابها؟ وإذا لم تكن كافية، فهل يستطيع الفلاسفة الأرسطيين أن يبرروا نظريتهم عن كمال القمر والأجرام السماوية بعد مشاهدات جاليليو؟

رسم جاليليو للقمر بخط يده

صدق أو لا تصدق، تلك المشاهدات التي رآها جاليليو ودوّنها في رسالته السماوية، يمكن أن تكون متناسقةً ومتماشيةً مع النظرية الأرسطية، بل لقد كانت بالفعل متسقةً معها. فإذا ما نظرنا إلى أدلة جاليليو التجريبية بشكل فاحص ودقيق، سنجد أنها لا ترقى أن تكون دليلًا تجريبيًا قاطعًا على خطأ النظرية الأرسطية كما يبدو لأول وهلة. وذلك لعدة أسباب، أولًا: لا يمكن للإنسان أن يرى الجبالَ على سطح القمر، لا بعينه المجردة ولا حتى باستخدام التلسكوب، بل عليه أن يفرض أن ما يراه جبلًا. لكن هذا لا يمكن أن يُقبل إلا على قواعد وأسس مختلفة، فلا بد للمرء أن يعتقد أولًا أن هناك تشابه وتماثل بين طبيعة وقوانين الأرض وطبيعة وقوانين القمر، ومِن ثَمَّ يستطيع أن يفرض بعد ذلك أن ما يراه جبلًا. لكن القول بالتماثل بين قوانين وطبيعة كلًا من الأرض والقمر، يأباه خصوم جاليليو كل الإباء، وبالتالي يسهل عليهم رفضه وإنكاره، وإذا رفضوا الأساسَ الذي بنى عليه جاليليو ملاحظاته، فما رآه وافترضه بعد ذلك فهو مرفوض وساقطٌ بالضرورة. ثانيًا: استطاع هؤلاء المؤمنين بالنظرية الأرسطية أن يقدموا بالفعل تفسيرًا لما رآه جاليليو بشكل لا يعارض النظرة الأرسطية للعالَم. وعليه، فقد استطاعوا الاستمرار في الاعتقاد بكمال القمر والأجرام السماوية وأنه جسم أملس ومستوٍ وكامل حتى بعد مشاهدات جاليليو.

لا تكمن أهمية رسالة جاليليو في أنها قدمت أدلةً قاطعةً تجريبيةً للدحض النظرية الأرسطية، فرسالته ومشاهداته وفرضياته وحدها لا تكفي لإسقاط تلك النظرية واستبدالها بنظرية جديدة بين عشية وضحاها. لكن اللحظة الفارقة والإنجاز الفذ وغير المسبوق الذي أحدثته تلك الرسالة، أنها جعلت الناس كلَّها تنظر بأعينها ناحية القمر، أن ترى بنفسها، وتجرب بذاتها، وتختبر ما يُقال لها من نظريات ويتأكدون منها هم. ذلك التغيير في كيفية التعامل مع الأقوال العلمية بإخضاعها للمشاهدات والتجربة والفحص هو ما يعتبر ثورة غيّرت مجرى التاريخ بأكمله. فما يُقال من نظريات  لا بد أن يتسق مع ما نشاهده، والنظرية التي تقدم تفسيرًا أفضل لما نراه، هي التي سيتم قبولها واعتمادها، وهو الأساس المتين الذي قام عليه العلم الحديث.

لم تكن مشاهدات جاليليو القمرية وحدها كافيةً كما قلنا، فهي ليست أدلةً تجريبيةً بالأساس. لكن إذا ما أخذنا مشاهداته مع تجارب كثيرة أخرى، وأدلة إضافية متنوعة لأكثر من جرم سماوي، إذا ما أخذ كل هذا في الاعتبار، فهو ما يعد دليلًا قويًا على خطأ النظرية الأرسطية. فقد أكّد جاليليو أنه رأى القمر به جبال وأودية ومرتفعات ومنخفضات في جميع أنحائه. لكن عبارته تلك كان بها الكثير من المبالغة، فجاليليو لم ير الجبالَ بعينه. وهو ما أقرّ به بعد ذلك في خطاب إلى عالم فلك آخر، كتب له يقول: 

«لا أقول فقط إن تجاويف القمر وبروزاته لا تُرى، ولا يمكن رؤيتها من هذه المسافة، ولكن أيضًا لا يمكن رؤيتها حتى إذا كان بينك وبين القمر مسافة 100 ميل؛ لا يمكن أن تُرى جبال القمر تمامًا كما أنه لا يمكن رؤية أي شيء من جبال الأرض وأوديتها من نفس تلك المسافة أو أقل.»[2]

يكمل جاليليو خطابه متسائلًا: «كيف إذن أمكننا القول بأن سطح القمر به جبال مثل سطح الأرض؟» ثم يجيب هو بنفسه كي لا يترك القارئ في حيرة من أمره ويقول: «لا يمكننا أن نعرف ذلك بحواسنا فقط، لكن نستطيع الوصول إلى تلك النتيجة إذا ما أخذنا معًا ما يبدو لحواسنا مقرونًا بالتحليل العقلي ومدعمًا بالظواهر التي نراها.» القول إذن أن القمر سطحه جبليًا لا يعتمد على رصد حسي مباشر، لكنه تفسير لما ظهر وما رآه جاليليو في تلسكوبه. إنه استنتاج عقلي قائم على رصد حسي.

القارئ لِما كتب جاليليو سيجد أنه يكرر ويؤكد أكثر من مرة، وبأكثر من مثال، وبألفاظ مختلفة وقوية على هذا التماثل والتشابه بين الأرض والقمر، فيقول مثلًا فيما يخص القمر أن «تلك البقع البيضاء الذي يراها الإنسان وسط الظلام الدامس والمناطق المظلمة على سطح القمر، سوف يجد بعد ساعات قلائل أن عدد تلك البقع يبدأ في الزيادة ثم تظهر بقع جديدة في أماكن قريبة من البقع القديمة. ثم بعد فترة من الزمن ترتبط وتلتحم كل هذا البقع البيضاء وتلتئم جميعًا.»
هذا الوصف الذي وصفه جاليليو للبقع البيضاء على القمر يأتي بعدها بمثال مشابه على سطح الأرض ويقول: «أليست الشمس حين تشرق صباحًا تبدأ في إضاءة أعلى الجبال أولًا؟ ثم بعد ذلك بفترة وجيزة تبدأ الشمس في نشر أشعتها وإضائتها على مناطق خلف الجبال؟ ثم في وقت الظهيرة تكون كل المنطقة برمتها مضيئةً نتيجة تغطيتها كلها بأشعة الشمس؟» بعد هذين الوصفين لما يحدث من تغيّر حالة البُقع البيضاء على القمر، ومقارنتها بإضاءة قمم الجبال ثم الأودية ثم المنطقة كلها، بعد هذين الوصفين لا يجد القارئ إلا التسليم لما يقوله جاليليو، ليصل إلى النتيجة التي يريد جاليليو إثباتها، ألا وهي أن البقع المضيئة على سطح القمر هي قمم جبلية، وكلما أشرقت الشمس كلما زادت مساحة وعدد تلك البقع كما يحدث على القمم الجبلية على الأرض تمامًا. طريقة جاليليو واضحة، يريد أن يقول أن الظواهر التي تحدث على القمر تشبه تلك الظواهر التي تحدث على الأرض، والتفسير الذي يصلح لظواهر القمر، هو نفسه التفسير الذي نفسر به ظواهر الأرض، وبالتالي فإن السبب في حدوث الظاهرة التي تحدث على القمر، لا بد أن يكون هو نفسه السبب الذي يُحدث الظاهرة على الأرض.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: إلى أي مدى يمكننا تطبيق نظرية التماثل تلك؟ إذا سلّمنا بأن تشابه حركة ضوء الشمس على تلك المناطق في القمر هو نفسه حركة ضوء الشمس على الجبال في الأرض، وسلّمنا كنتيجة منطقية بأنه لا بد أن تكون على القمر جبال وأودية. ألا يحق لنا بعد ذلك أن نقول: إذا كان القمر يشبه الأرض في سطحه وجباله ووديانه وسهوله، فإذا كانت جبال الأرض تتكون من حديد فيجب أن تتشابه معها جبال القمر وتكون تلك الجبال من حديد أيضًا؟ وكأنني أسمع القارئ يقول: لا، ليس معنى قولنا أن القمر به جبال والأرض بها جبال، أن تكون جبالُ القمر مكونةً من نفس المواد التي تتكون منها جبال الأرض. وإن كنت أتفق معك عزيزي القارئ في إجابتك، إلا أننا من حقنا أن نسأل: إلى أي مدى يمكننا تطبيق هذا التماثل والتشابه؟ أنمد الخط على استقامته؟ أم نقف عند نقطة محددة؟ وإن كنا سنقف عند نقطة محددة، فما هي وكيف نعينها؟ 

ولعلنا نذكر الآن مثالًا على أحد مشكلات نظرية التماثل والتشابه بين الأرض والقمر. حينما قرأ العالم الألماني «جوهانيس كيبلر Johannes Kepler» ما كتبه جاليليو، وقد كان كيبلر مؤيدًا لنظرية كوبرنيكوس، فرح أشدَّ الفرح وأُعجب أشد الإعجاب باستنتاجات جاليليو، وكتب إليه رسالةً من فوره يُبدي فيها إعجابَه الشديد بمشاهدات جاليليو، وأنه مقتنعٌ بكل ما قال، حتى من دون أن يتأكد من الظواهر بنفسه؛ لأنه لا يملك تلسكوبًا كالذي عند جاليليو. كتب كيبلر لجاليليو يقول له وهو يحاول تطبيق مبدأ التماثل لكن بشكل أكبر: 

«لطالما تساءلت عن حجم تلك الجبال الوديان والكهوف، لماذا هي كبيرة جدًا بهذا القدر؟ هل الطبيعة هي التي جعلتها بهذا الشكل؟ أم أن هذا عمل أيادٍ متقنة؟ أنا أعتقد بشكل جازم أن هذا قطعًا من بناء كائنات حية تعيش على القمر، ولأنهم أكبر منا حجمًا، فقد بنوا وحفروا وديانًا كبيرة جدًا لتناسب أحجامهم. وبالتالي، نظرًا لأنهم يتمتعون بتلك الأجسام الضخمة جدًا، فإن سكان القمر يقومون أيضًا ببناء مشاريع عملاقة جدًا… أعتقد أن يومهم يعادل 15 يومًا من أيامنا على الأرض، ويتحملون الحرارة التي لا نطيق نحن تحملها… كما أنني أعتقد أن لديهم مدينة يسكنون بها تحت سطح القمر.»[3]

العالم الألماني جوهانبيس كيبلر

يبدو أن كيبلر قد أخذ مبدأ التماثل إلى مدى بعيد جدًا، لكن أليست هذه هي النتيجة المنطقية لهذا المبدأ؟ إذا كان هناك تشابه بين الظواهر على الأرض، والظواهر على القمر، وإذا كان هناك تشابه بين أسبابها على الأرض والقمر، فما الذي يجعل اعتقاد جوهانيس كيبلر خاطئًا، إذ قال إن هناك كائنات حية على القمر، كما أن الأرض بها كائنات حية؟ لماذا يكون فرضنا بأن على القمر جبال لتشابه الظواهر يكون فرضًا صحيحًا ومبررًا؟ لكن إذا فرضنا بأن هناك كائنات حية على القمر كما أن الأرض بها كائنات حية، لماذا يكون فرضنا هذا ليس صحيحًا وليس مبررًا؟

كان على جاليليو أن يجد معيارًا منضبطًا نستطيع به أن نعرف ما هو حد التشابه بين الأرض والقمر؟ أفي الظواهر فقط؟ أم في أسبابها؟ أم في جغرافية كل منهما؟ أم في تركيب مادة كل منهما؟ أم في المناخ؟ أم في القابلية للحياة؟ بصيغة أخرى، في أي شيء تتشابه الأرض والقمر؟ وفي أي شيء يختلفان؟ وكيف نعرف هذا الحد الفاصل؟

كان اقتراح جاليليو أن التشابه بين الأرض والقمر هو في الطبيعة الجغرافية فقط، فشكل الأرض يماثل شكل القمر، وبالتالي فقد رفض التشابه في وجود حياة على كل منهما كما اقترح كيبلر، واكتفى جاليليو بأن وضع حد التشابه في الظواهر والأسباب وشكل تضاريس أو جغرافية كل منهما. لكن أصحاب النظرية الأرسطية لم يقفوا مكتوفي الأيدي، فإذا كان من حق جاليليو أن يرفض التماثل بين الأرض والقمر في وجود الحياة، أليس من حق الأرسطيين أن يرفضوا التماثل بين الأرض والقمر في جغرافية وطبيعة كل منهما؟ ولهذا فقد كتب العالم الإيطالي «جوليو سيزار لا جالا Giulio Cesare la Galla» كتابًا يرد فيه على أفكار جاليليو، قائلًا:

وهل التشابه في الظواهر معناه التشابه في أسبابها؟ النار على الأرض لا تنتج إلا من نار، لكنها كذلك تنتج من الشمس، مع أن الشمس ليست نارًا إلا أنها تتسبب في إيجاد النار. فلدينا ظاهرة واحدة، وهي وجود النار، ولها سببان مختلفان. فحتى لو تشابهت الظواهر على القمر مع الظواهر على الأرض، وكان سبب تلك الظاهرة على الأرض هي الجبال، فليس معناه أنه هو نفسه السبب على القمر، فالتشابه في الظواهر ليس معناه بالضرورة التشابه في أسبابها.

لم يكن أحد يعتقد في هذا التوقيت – بما فيهم جاليليو نفسه – أن الشمس هي نجم من ملتهب من نار، لذلك فقد كانت حجة «جوليو لاجالا» قوية وكان يجب الإتيان بأدلة أخرى ترجح طرفًا على طرف، خاصةً وأن البقع السوداء على القمر كان لها تفسير بالفعل في النظرية الأرسطية؛ إذ أن بقع القمر لا تحتاج تلسكوبًا كي تُرى، بل يمكن رؤيتها بالعين المجردة. والنظرية الأرسطية ظلت مستمرة ما يقرب من ألفي عام، فليست تلك الظاهرة التي يراها الناس كل ليلة حين ينظرون إلى القمر طوال ألفي عام، ليست هذه الظاهرة بشيء جديد ولا عصيّ على التفسير. فقد كانت وجهة النظر الأرسطية أن تلك البقع المظلمة التي نراها على القمر، ترجع في الأصل إلى اختلاف كثافة المواد التي يتكون منها القمر، فالقمر في الأصل جسم مستوٍ، أملس، دائري، منتظم تمامًا، لكن المواد التي يتكوّن منها القمر تختلف درجات كثافتها، وبالتالي تبدو بعضها بيضاء وبعضها سوداء. 

يمكننا أن نقول إن الظواهر التي رآها جاليلو على القمر لم تكن وحدها كافية لخلق نظام شمسي جديد، ولم تكن كافيةً لتنحية النظرة الأرسطية بشكل كامل، لكن إذا ما أضفنا مشاهدات جاليليو للقمر، ومعها أكتشافه لأقمار كوكب المشتري، ومعها قوانين كيبلر، ثم النجاح الباهر في تفسير الظواهر الفلكية، كل هذه الأدلة مجتمعة هي ما نحت النظرة القديمة جانبًا، وأرست بدلًا عنها نظرية كوبرنيكوس، ومن بعدها تطور العلم الحديث كله.

أما جاليليو، فبعد أن حاكمته الكنيسة، وقضت عليه بالإقامة الجبرية في بيته حتى موته، قد كُفَّ بصره في آخر سنة في حياته، ولم يستطع بعدها أن يرى أي شيء. ذلك الأعمى الذي فقد بصره قبل أن يموت، كانت عيناه هي أول عين بشرية تنظر إلى السماء باستخدام التلسكوب، كان جاليليو أول إنسان ينظر إلى الأعلى حينما كانت البشرية كلها تنظر إلى الأسفل.

فريق الإعداد
الدورالاسم
إعدادمحمد رضا
تدقيق لغويّمحمد الجوهري
شارك المقال:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي