في هذا الوقت من العام يهدأ الحديث ويسكن عن جائزة نوبل، بعد الثّوْرَة (بالسّين والثّاء) الّتي تملأ الآفاق والأسماع في بداية شهر أكتوبر من كلّ عامٍ. في هذا المقال أريد تسليط الضّوء على بعض النّقاط حول جائزة نوبل، الّتي أزعم أهمية إيضاحها.
وفاة ألفريد نوبل قبل موته
لا أريد أن أبدأ الحديث بشكلٍ تقليديٍّ عن العالم السّويديّ «ألفريد نوبل Alfred Nobel»، ذاك العالِم الفَذّ الّذي يعرفه الصّغير والكبير، فالسّؤال المهمّ هو: ما الّذي دفع ألفريد نوبل إلى إنشاء هذه الجائزة؟
على الرّغم من عدم بوح ألفريد نوبل بالسّبب وراء اتّخاذه هذه الخطوة، يمكننا التّكهّن بشكلٍ كبيرٍ حول ماهيّة الدّافع وراء هذه الجائزة. ففي عام 1888 كان الأخ الأكبر لألفريد نوبل، والّذي يُدعى «لودفيج نوبل Ludvig Nobel»، في زيارةٍ إلى مدينة «كان Cannes» الفرنسيّة، وأصيب بسكتةٍ قلبيّةٍ كانت سببًا في وفاته. حينها أخطأت الصّحف الفرنسيّة وخلطت بينه وبين أخيه ألفريد نوبل، وبدلًا عن كتابة نعيٍ لوفاة لودفيج، ظنّوا أنّ ألفريد نوبل هو الّذي تُوُفّيَ، وكتبوا في عنوان الصّحيفة باللّغة الفرنسيّة يقولون: «Le marchand de la mort est mort» أي: مات بائع الموت. كما كتبت الصّحف تقول: «مات أمس الدّكتور ألفريد نوبل، الرّجل الّذي صار فاحش الثّراء لأنّه وجد طريقةً أسرع لقتل النّاس».[1]
الأمر الّذي ساء ألفريد نوبل كثيرًا حين قرأ نعيَه في الجرائد وهو حيٌّ يُرزق، وأثّرت العبارات القاسية الّتي كتبتها عنه الصّحف فيه بشكلٍ كبيرٍ، وهذا الكره الّذي يحمله النّاس تجاهه. وعلى الرّغم من أنّ ألفريد نوبل كان رجلًا صالحًا، ولم يكن يومًا من دعاة الحرب والدّمار، وأنّ اختراعه الشّهير (الدّيناميت) قد أساء إلى سمعته لاحقًا حين استُخدم في الحروب بدلًا من الأعمال الصّناعيّة والبنائيّة؛ إلّا أنّ ألفريد نوبل ظنّ أنّ سلاحًا مدمّرًا كهذا يمكن أن يساعد في إيقاف الحروب بين الدّول، فحين تكون هذه القوّةُ الغاشمةُ متاحةً في أيدي النّاس، ستتوقّف الجيوشُ عن القتال مخافة الدّمار والهلاك.[2]
ولا نستطيع أن نقرّر ما إذا كانت وجهة نظر ألفريد نوبل صحيحة أم خاطئة. فيمكن الاستدلال على خطأ تقديره؛ إذ إنّه برغم وجود الدّيناميت لم تتوقّف الحروب -كما كان يتوقّع-، ونشبت الحرب العالميّة الأولى بعد فترةٍ ليست بطويلةٍ من وفاته، وبعدها بعشرات السّنوات كانت الحرب العالميّة الثّانية، ممّا يعني أنّ الدّيناميت لم يشارك في الحدّ من الحروب بل زاد الأمرَ سوءًا على سوءٍ.
ولكن على الجانب الآخر، يمكن أن ندلّل على صواب فكرته؛ إذ إنّ استخدام أمريكا للقنبلة النوويّة وإلقائها على اليابان، هو ما أدّى إلى توقّف الحرب العالميّة الثّانيّة، ممّا يعني أنّ وجود سلاحٍ مدمّرٍ أو قوّةٍ غاشمةٍ -سواءً كان الدّيناميت أو القنبلة النوويّة- يمكن أن تكون له السّلطة بحيث يُوقف الجميعَ عن خوض حربٍ خاسرةٍ، وهو ما كان يتوقّعه ألفريد نوبل.
كان لاستخدام الدّيناميت الّذي اخترعه نوبل في الحروب بدلًا عن الأعمال الصّناعيّة، ولقراءته نعيَه ولسمعته السّيّئة في الجرائد، أثرٌ بالغٌ في محاولة تحسين صورته أمام النّاس، فأنشأ جائزة نوبل، ومنها جائزة نوبل للسّلام محاولةً لتغيير هذه الصّورة الّتي تركها اختراعُه في نفوس النّاس.
كانت تلك الوصيّة الّتي كتبها نوبل ولم يخبر أحدًا عنها. كانت صادمةً لجميع أقربائه. فقد تبرّع بمقدار 94% من ثروته لإنشاء تلك الجائزة، ما يعني حرمان أسرته من الميراث الضّخم الّذي كانوا يتوقّعونه (يعادل 300 مليون دولارٍ اليوم).[3] واعترضوا وقتئذٍ بشكلٍ كبيرٍ على إنشاء تلك الجائزة، بل عارض ملك السّويد أيضًا، الملك أوسكار الثّاني، منح جائزةٍ بهذا المبلغ الضّخم لأشخاصٍ من بلدانٍ أخرى وأن تخرج هذه الأموال من السّويد.[4]
ولكن تمّ تجاوز هذا كلّه بصعوبةٍ شديدةٍ، ومُنحت جائزة نوبل لأوّل مرّةٍ بعد حوالي خمس سنواتٍ من وفاة ألفريد نوبل. ومنذ ذلك الحين وحتّى هذه اللّحظة وجائزة نوبل تعدّ هي الجائزة الأفضل والأكثر احترامًا وتقديرًا في العالم، حيث تُعطى لأعظم الإنجازات البشريّة في الطّبّ والسّلام والأدب والفيزياء والكيمياء. وينال الحاصل عليها مكانةً لا تحتاج منّي إلى كثير كلامٍ، فالقاصي والدّاني يعلم ذلك.
ولعلّ من الطّريف ذكر ما كتبه الدّكتور أحمد زويل حين تلقّى المكالمة الهاتفيّة الّتي أُخبر فيها بفوزه بالجائزة، فقال له السّكرتير العامّ في المكالمة: «سوف تكون هذه آخر عشرين دقيقةٍ تنعم فيها بالسّلام في حياتك».[5]
في هذه الأسطر سوف أذكر بعض الأمثلة عن فوز بعض العلماء بجائزة نوبل بالصّدفة المحضة، دون قصدٍ منهم ولا إرادةٍ.
ألكسندر فلمنج واكتشاف البنسلين
«ألكسندر فلمنج Alexander Fleming» هو طبيبٌ بريطانيٌّ وُلد في إسكتلاندا، ودرس الطّبّ في لندن، التحق بالجيش البريطانيّ في الحرب العالميّة الأولى. بدأت الصّدفة الأولى في حياة فلمنج عندما التحق بالجيش ولفت أنظار الجميع ببراعته، فأراد قائد نادي الرّمي بالبنادق أن يبقيه معه، فأقنع فلمنج أن يترك العمل كطبيبٍ ويعمل في مجال البحث العلميّ؛ وبهذا سيحافظ على بقائه داخل النّادي بشكلٍ مستمرٍّ. وقدّمه إلى السّير «ألمروث رايت Almroth Wright»، قائد فريق البحث العلميّ الّذي قضى فلمنج فيما بعد بقيّة حياته فيه.
كان فلمنج يُوصف بإنّه «فنّيّ معملٍ مُهمِلٌ»، وفي عام 1928 كان يجري بعض التّجارب على نوعٍ من البكتيريا يسمّى (Staphylococcus aureus)، وضع أجهزته وموادّ اختباره في مستشفى لندن، وأعدّ التّجربة وذهب في إجازةٍ لمدّة أسبوعين، وعندما عاد وجد ما لم يكن يتوقّعه، فقد ظهر بعض العفن على أطباق التّجارب وهو ما منع من انتشار البكتيريا.
لم يدرك فلمنج أنّه على وشك اكتشاف البنسلين، وهو أوّل مضادٍّ حيويٍّ سيغيّر حياة البشريّة جمعاء. ونشر نتائجه عام 1929 في مجلّة (British Journal of Experimental Pathology) الدّوريّة.[6] إلّا أنّ هذه النّتائج لم تحظ باهتمامٍ كبيرٍ حينئذٍ، وذلك لصعوبة استخلاصه بكمّيّاتٍ كبيرةٍ، وظلّ اكتشافه في طيّ النّسيان قرابة عقدٍ كاملٍ، بل قد ترك فلمنج نفسه العمل عليه عام 1931، حتّى جاء عالمان في جامعة أوكسفورد وأعادوه للحياة من جديدٍ، وكانا هما الأستراليّ «هاورد فلوري Howard Florey» والألمانيّ «إرنست تشين Ernst Chain»، حيث بدأ استخدامه في التّجارب على الفئران، وإنتاجه بشكلٍ كبيرٍ جدًا. وحصلوا جميعًا -فلمنج وعالِما أوكسفورد- على جائزة نوبل في الطّبّ عام 1945.[7]
كانت تلك إذًا إحدى جوائز نوبل الّتي حُصل عليها نتيجة اكتشافٍ بالصّدفة البحتة. حتّى كتب فلمنج يقول:
«عندما استيقظت بعد فجر يوم 28 سبتمبر 1928، لم أخطّط بالتّأكيد لإحداث ثورةٍ في المجال الطّبّيّ كلّه من خلال اكتشاف أول مضادٍّ حيويٍّ أو قاتلٍ للبكتيريا في العالم. لكنّني أظنّ أنّ هذا هو بالضّبط ما فعلته».[8]
اكتشاف الأشعة الخلفية الكونية
تنبّأ عالم الكونيّات الأمريكيّ «رالف ألفر Ralph Alpher» لأوّل مرّةٍ بإشعاع الخلفيّة الكونيّة الميكرويّ عام 1948، عندما كان يعمل على هذا البحث مع «روبرت هيرمان Robert Herman» و«چورچ جاموف George Gamow». كان هذا الفريق يُجري البحوث المتعلّقة بالمحاكاة النّوويّة للانفجار العظيم، أو إنتاج العناصر في الكون بجانب إنتاج أخفّ نظائر الهيدروجين. وقد تخلّق هذا النّوع من الهيدروجين في وقتٍ مبكّرٍ جدًّا من تاريخ الكون.
رُصد إشعاع الخلفيّة الكونيّة الميكرويّ للمرّة الأولى بالصدفة عام 1965؛ عندما كان اثنان من الباحثين في مختبرات شركة بيل الأمريكيّة للاتّصالات، وهما: «أرنو بنزياس Arno Penzias» و«روبرت ويلسون Robert Wilson»، يختبران جهازًا للكشف عن الموجات الرّاديويّة الخاصّة بالأقمار الصّناعيّة، وكانا في حيرةٍ من أمرهما بسبب التّشويش الّذي يلتقطه الجهاز.
في البداية كانا يظنّان أنّ التّشويش نتيجة سقوط روث الحمام على مستقبلات معدّات البحث، وبعد التّخلّص منه وتنظيفه لم ينتهِ التّشويش، ووضعوا فرضيّاتٍ كثيرةً جدًّا عن طبيعة مصدر هذا التّشويش وفي النّهاية أدركا أنّ التّشويش آتٍ من كافّة أقطار السّماء بانتظامٍ، ويبدو أنّ مصدره من مجرّةٍ أخرى غير مجرّتنا.
ونتيجة هذه التّخرّصات غير اليقينيّة عن مصدر هذا التّشويش قرّرا الاستعانة بصديقٍ لهم يعمل في جامعة (MIT) وهو البروفيسور «برنارد بيرك Bernard Burke»، فأخبرهم بأنّ التشويش ربّما يكون موجات الأشعّة الكونيّة الخلفيّة الّتي يبحث عنها العلماء؛ ففي الوقت ذاته، كان فريق من جامعة برنستون (Princeton University) بقيادة «روبرت ديك Robert Dicke» و«ديف ويلكينسون Dave Wilkinson» يحاولان رصد إشعاع الخلفيّة الكونيّة الميكرويّ، وكانت الجامعة تبعد عشرات الكيلومترات فقط من مختبرات شركة بيل. وعندها اتّصل الفريقان، وعملا على الأبحاث معًا، وفي عام 1978 مُنحت جائزة نوبل في الفيزياء إلى العالمين الأمريكيّين لاكتشافهما الأشعّة الخلفيّة الكونيّة،[9] والّتي تعتبر من أقوى الأدلّة على الإطلاق على نظريّة الانفجار العظيم.[10]
اكتشاف أشعة إكس وخاتم الزواج
لم يخطر في بال أستاذ الفيزياء بجامعة فورتسبورج الألمانيّة «وليام رونتجن Wilhelm Röntgen» يوم الثّامن من نوفمبر 1895 أنّه سيكتشف الأشعّة السينيّة. كان رونتجن يعمل في مختبره على أنابيب الكاثود، وأراد معرفة تأثير أشعّة الكاثود على الأنابيب الفارغة، محاولًا مراقبة الأضواء الصّادرة من تجربته على هذه الأنابيب. لاحظ رونتجن أنّ زجاجًا على مسافةٍ بعيدةٍ، لم يكن يجب أن يصله الضوء، بدأ يشعّ، رغم أنّ هناك لوحًا خشبيًّا وورقةً من الكربون بين مصدر الإشعاع والزّجاج.
حينها أدرك أنّه على وشك قفزةٍ علميّةٍ هائلةٍ، واستمرّ في العمل وإعادة التّجربة في مختبره ولم يخرج منه أبدًا لمدّة ستّة أسابيع كاملةٍ، كان يأكل ويشرب وينام داخل المعمل. وحينها دعا زوجته وطلب منها أن تضع يدها أمام مصدر الإشعاع، فظهرت عظام يدها كما ظهر خاتم زواجها الّذي كان ترتديه، حينها صرخت قائلةً: «لقد رأيت نفسي وأنا ميّتةٌ».[11]
أحدثت أشعّة إكس ثورةً في عالم الطّبّ، والعلم بشكلٍ عامٍّ، ممّا أهّلَ وليام رونتجن للحصول على جائزة نوبل في أوّل عامٍ تُمنح فيه الجائزة سنة 1901، فكان أوّل شخصٍ في العالم يحصل عليها.[12]
النجم النيتروني والطالبة المظلومة
في عام 1965 أنهت الطّالبة البريطانيّة «جوسلين بيل بورنيل Jocelyn Bell Burnell» دراستها الجامعيّة في الفيزياء من جامعة جلاسكو بتقدير امتيازٍ مع مرتبة الشّرف، ولم تدر إلى أين تتّجه لاستكمال دراستها بعد ذلك. ففي هذا الوقت لم يكن وضع النّساء في الجامعات بالجيّد أبدًا؛ فقد كانت هي الطّالبة الأنثى الوحيدة المسجّلة في قسم الفيزياء في الجامعة كلّها، وكان الأولاد يسخرون منها كلّما دخلت قاعة المحاضرات أو خرجت، فقرّرت الذّهاب إلى أستراليا، إلّا أنّ الدّراسة قد بدأت فيها منذ شهرين، ثمّ فكّرت في التّقديم إلى جامعة كامبريدج، دون توقّع قبولها فيها، فتقدّمت إلى جامعة كامبريدج من باب التّجربة ليس إلّا.
والمفاجأة أنّها قُبِلت لدراسة الدّكتوراة بها تحت إشراف البروفيسور «أنتوني هيويش Antony Hewish» لتعمل على نوعٍ من النّجوم يسمّى «الكويزار Quasar» والّتي كانت مكتشفةً حديثًا. عملت جوسلين مع خمسة زملاءٍ آخرين على بناء وصنع تلسكوبٍ كبيرٍ جدًّا، تصل مساحته إلى 20 ملعب كرة تنسٍ تقريبًا، وبدأت في رصد الأشعّة الرّاديويّة لفحص هذا النّوع من النّجوم. في ذلك الحين لم تكن أجهزة الكمبيوتر قد طُوّرت، ولم يكن إلّا جهازٌ واحدٌ بدائيٌّ في جامعة كامبريدج، وكانت تطبع صورة هذه التّردّدات على أوراقٍ طويلةٍ جدًّا، حتّى إنّها في النّهاية حصلت على ورقٍ مطبوعٍ عليه التّردّدات، ووصل طول هذا الورق إلى أكثر من 5 كيلو متر، وفحصته شبرًا شبرًا، بل إنّها قالت أنّها فحصت كلّ ملّيمترٍ من هذه التّردّدات، وبعضها فحصته مرّتين أو ثلاثةً.
بشكلٍ غير متوقّعٍ، وجدت جوسلين تردّداتٍ لم يكن من المفترض أن توجد، ولم تعرف على ما تدلّ. ولأنّها كانت مصابةً بمتلازمة المحتال (impostor syndrome)، وهذه المتلازمة تجعلها تشعر دائمًا بأنّها غير جيّدةٍ وأنّ عملها ناقصٌ، ونتيجة هذه الأرصاد غير المتوقّعة ربّما تطردها جامعة كامبريدج ولا تستطيع إكمال دراستها لأنّها كانت تظنّ أنّها ليست عبقريّةً بما فيه الكفاية للدّراسة في جامعةٍ كهذه. لذلك قرّرت إعادة الرّصد مرّةً ثانيةً، ووجدت مرّةً أخرى هذه التّردّدات غير المتوقّعة. ومرّةً بعد مرّةٍ قرّرت استشارة مشرفها البروفيسور أنتوني عن طبيعة هذه التّردّدات، فأخبرها بأنّها يمكن أن تكون ذات مصدرٍ بشريٍّ، كطائرةٍ صنعها الإنسان أو جهاز إرسالٍ أو أيّ شيءٍ آخر.
إلّا أنّها لم تقتنع بكلامه ورجّحت أنّ طبيعة هذه التّردّدات تبدو وكأنّ مصدرها من خارج كوكب الأرض. ولعدم استطاعتها تفسير هذه التّردّدات، ظنت أن الخطأ قد يكون في التّلسكوب الّذي أستخدمه، وقرّرت استخدام تلسكوبٍ آخر لترى هل ستظهر نفس التّردّدات أم لا. وبالفعل عندما أعادت الرّصد وجدت نفس هذه التّردّدات، وفي النّهاية أخبرهم بروفيسور آخر أنّ هذه التّردّدات مصدرها نجومٌ نيترونيّةٌ نابضةٌ (pulsar)، وكان ذلك أوّل اكتشافٍ لهذه النّجوم على الإطلاق.[13]
نُشرِت هذه النّتائج في مجلّة ناتشر،[14] وحصلت جوسلين على درجة الدّكتوراة من جامعة كامبريدج، وفي عام 1974 حصل مشرفها البروفيسور أنتوني هيويش على جائزة نوبل في الفيزياء مناصفةً مع مارتن رايل،[15] وسط تجاهلٍ تامٍّ لجوسلين؛ المكتشفة الحقيقيّة لهذه النّجوم.
إلّا أنّها تقبّلت عدم إدراجها ضمن الفائزين بجائزة نوبل لأنّها في هذا التّوقيت كانت لا تزال طالبة دكتوراةٍ، ومن المتوقّع في ذلك الوقت أن يُهمّش طالبٌ صغيرٌ، خاصّةً أنّها أنثى. غير أنّها حصلت على جائزة (breakthrough) سنة 2018 وقيمتها تساوي 3 مليون دولار، أي ثلاثة أضعاف قيمة جائزة نوبل،[16] وحينها تبرّعت بهذا المبلغ كلّه لدعم الطّلّاب في مجال الفيزياء، خاصّة من يأتون خلفيّاتٍ صعبةٍ.[17]
جائزة نوبل بسبب البقر
في عام 1997 مُنحت جائزة نوبل في الطّبّ إلى العالم الأمريكيّ «ستانلي بروسينر Stanley Prusiner» لاكتشافه البريونات، وهي نوعٌ من الجسيمات الممرضة المعدية الّتي تتكاثر ذاتيًّا وتتكوّن فقط من بروتينٍ. حيث استطاع أن يفسّر بها سبب اعتلال المخّ إسفنجيّ الشّكل (أو مرض جنون البقر) ونظيره عند البشر «داء كروتزفيلت-جاكوب».
ولكنّ هذا الاكتشاف ما كان ليحصل على جائزة نوبل لولا انتشار مرض جنون البقر في أوروبا، والّذي لفت الأنظار إلى أبحاث ستانلي الّتي كانت محلّ نزاعٍ ساخنٍ جدًّا بين العلماء. فقد رأى بعض العلماء أنّه من المبكّر جدًّا حسم هذه القضيّة بهذه السّرعة وإعطاؤها جائزة نوبل.[18] بل اعترف ستانلي نفسه بهذا وقال:
«لولا تفشّي مرض جنون البقر في نهاية الثّمانينيّات، وخوف النّاس من أن ينتقل هذا المرض إلى البشر، لولا هذه الضّجّة والمخاوف، لما انتبه أحدٌ إلى اكتشافي، ولحصلت على جائزة نوبل بعد عشرين سنةٍ، بل ربما لم أكن لأحصل عليها أبدًا» .[19]
نوبل وسائق الشاحنة
في عام 2008 أُعطيت جائزة نوبل في الكيمياء إلى عالمين أمريكيّين وعالمٍ يابانيٍّ لأعمالهم على اكتشاف البروتينات الفلوريّة الخضراء (green fluorescent protein) وتطويرها.[20] وفي هذا التّوقيت كان العالم الّذي ساعد على تكوين هذا البروتين في الأساس هو الأمريكيّ «دوجلاس براشر Douglas Prasher»، وقد عمل في عدّة مشاريع بحثيّةٍ وفي عدد من الجامعات، ولكن أُغلِقت جميع الطّرق في وجهه بعد أن ساعد على تكوين البروتين، نظرًا لأنّ أبحاثه لم تكن ذات أهمّيّة فأوقِف التّمويل عنه.
لم يجد الدّكتور دوجلاس مكانًا ليعمل به، بعد تعرّضه للسّخرية والذّمّ والتّشويه بسبب أبحاثه، فأصيب باكتئابٍ حادٍّ، وظلّ عامًا كاملًا بدون وظيفةٍ. بعدها قرّر أن يعمل كسائق شاحنةٍ براتب 10 دولاراتٍ في السّاعة، وفي الوقت الّذي طوّر الباحثان الأمريكيّان البروتين الّذي كوّنه دوجلاس، وأكملا عمله، وحصلا على جائزة نوبل، كان هو قد ترك العمل الأكاديميّ ويقود شاحنةً لنقل البضائع، دون أن يكون له من جائزة نوبل نصيبًا رغم أنّه واضع الأساس لهذا الإنجاز كلّه.[21]
مشكلة الحظ مع جائزة نوبل
كانت تلك نبذةٌ بسيطةٌ عن الدّور الّذي يلعبه الحظّ في الفوز بجائزة نوبل أو عدم الفوز بها، الأمر الّذي دفع الكثير من الباحثين إلى الحديث عن مشكلة الحظّ في الجوائز والتّكريمات العلميّة. وربّما كانت حالة ألكسندر فلمنج هي اﻷشهر، حيث تباينت الآراء حول مدى استحقاقه لجائزة نوبل. فهو حين اكتشف البنسلين لم تكن له أيّ يدٍ فيه سوى ملاحظة العفن، فهل يستحقّ الثّناء لأجل صدفةٍ حدثت له؟ وإذا كان يستحقّ الثّناء والتّكريم على أمرٍ خارجٍ عن إرادته، فهل يُلام النّاس على أخطاء حدثت رغم إرادتهم؟ هل يُلام النّاس على مشكلاتٍ حدثت لهم أو خطأٍ تسبّبوا فيه بالصّدفة وبدون قصدٍ منهم أو عمدٍ؟ فإذا قلنا إنّ المخطئ غير المتعمّد لا يستحقّ التّقبيح، فلماذا لا نقول إنّ المصيب غير المتعمّد لا يستحقّ الثّناء؟ فكلاهما ليست له يدٌ فيما حدث، سواءً كان صوابًا أو غير صوابٍ!
فعلى سبيل المثال، فاز ثلاثة علماء أمريكيّين بجائزة نوبل في الفيزياء عام 2018 لاكتشافهم موجات الجاذبيّة، مع أنّ فريق العمل كان يتألّف من أكثر من ألف عالمٍ وباحثٍ.[23]
إضافةً إلى ما ذكرنا، تبقى النّقطة الأخيرة والمهمّة، وهي أنّه ليس بالضّرورة أيضًا أن يكون الإنجاز العلمي جديرًا بأن يفوز بالجائزة، أو أن يكون هو «أعظم اكتشافٍ مفيدٍ للبشريّة» -على حدّ قول ألفريد نوبل-؛ فكما تبيّن، قد حصلت اكتشافاتٌ على جائزة نوبل مع أنّ أصحابها أنفسَهم لا يرون أنّها تستحقّ الجائزة. وإنّما تعلو قيمة الاكتشافات وتنخفض لأسبابٍ أخرى ليس ضرورةً أن تكون أسبابًا علميّة صحيحة.
الدور | الاسم |
---|---|
إعداد | محمد رضا |