17 عامًا على اكتشاف الجرافين: مادة لا تسري عليها قوانين الفيزياء؟

الجرافين، المادة التي لا تسري عليها قوانين الفيزياء!

الجرافين مادة ثنائية الأبعاد، سداسية البنية البلورية، فمنذ اكتشافه عام 2004 وهو محط أنظار العلماء لخصائصه المميزة، فهو أخف مادة معروفة للعلم حتى الآن[2]، ومرن بشكل لا يصدق، وخارق الصلابة، وموصل جيد جدًَا للحرارة، وأفضل من النحاس في الموصلية الكهربائية. وبالرغم من أنه مادة مكونة من الكربون، إلا أن سُمكه يعادل سُمك ذرة كربون واحدة فقط![5]

محاولات العلماء لفهم تركيب الجرافين

تمكن الباحثون في الماضي، من توليف الموصلات الفائقة من الجرافين بوضعه في اتصال مع المعادن الأخرى فائقة التوصيل -وهو ترتيب يسمح للجرافين بأن يرث بعض السلوكيات فائقة التوصيل- أما الآن، فوجد فريق من علماء الفيزياء بجامعة هارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، طريقة لصنع الموصلات الفائقة من الجرافين بدون مساعدة من موصلات أخرى فائقة التوصيل.

وقد أنجز الفيزيائيون هذا عن طريق ربط صفيحتين من الجرافين مكدستين معًا فوق بعضهما البعض، ولكن يفصلهما دوران على نحو طفيف جدًا في زاوية سحرية مقدارها 1.1 درجة. نتيجة لذلك، فإن النمط السداسي للجرافين -أو ما يُعرف بنمط النحل السداسي- يصبح أكثر مرونةً، وتتحفز صفائح الجرافين للمساهمة في التفاعلات الإلكترونية، على عكس الجرافين في بنيته الأخرى السداسية، فإنه يفضل أن يبقى قليل التفاعل في هذه الحالة. وهذه الطريقة تشكل نقلة جوهرية في اعتمادنا على المواد كربونية البنية كموصلات فائقة للتيار الكهربائي في المستقبل القريب.

الجرافين عازل وموصل فائق للكهرباء أيضًا

ووجد هذا الفريق من علماء الفيزياء أن الجرافين يمكن أن يظهر خصائصه كعازل للكهرباء؛ حيث يمنع الإلكترونات تمامًا من التدفق، وكمادة فائقة التوصيل؛ أي يمكن للتيار الكهربائي أن يتدفق من خلاله دون مقاومة تُذكر.[3]

ووجد الفريق، بقيادة دكتور بابلو هيريرو، أستاذ الفيزياء بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أنه وعند الدوران بالزاوية السحرية، تُظهر الصفيحتان من الجرافين سلوكُا غير موصل، على غرار فئة غريبة من المواد المعروفة باسم عازلات موت (Mott Insulators). وعندما قام الباحثون بعد ذلك بإضافة كميات صغيرة من الإلكترونات إلى الجرافين، وجدوا أنه في مستوى معين اندلعت الإلكترونات من الحالة العازلة الأولية وتدفقت بدون أدنى مقاومة، كما لو كانت تسير من خلال موصل فائق.

السر يكمن في اختلاف عازلات موت

عادة ما تمثل قدرة المادة على توصيل الكهرباء بما يُعرف بـمستويات الطاقة (Energy Bands)، ويمثل المستوى الواحد مجموعة من الطاقات التي يمكن أن تحوزها إلكترونات هذه المادة. وهناك فجوة طاقة بين المستويات، وعندما يتم ملء أحد المستويات، فيجب أن يحصل الإلكترون على طاقة إضافية للتغلب على هذه الفجوة، من أجل شغل مستوى الطاقة التالي. وتعتبر المادة عازلة إذا كانت آخر مجموعة طاقة مشغولة ومليئة تمامًا بالإلكترونات. أما الموصلات الكهربائية، مثل المعادن، فتظهر مستويات طاقة مملوءة جزئيًا، مع حالات طاقة فارغة يمكن للإلكترونات أن تتحرك بحرية لتملئها.

ومع ذلك، فعازلات موت هي فئة من المواد التي تظهر من تركيبها أنها موصلة جيدة للكهرباء، ولكن عند قياسها، فإنها تتصرف كعازلات؛ وهذا لأن مستويات الطاقة لديها نصف مملوءة، ولكن بسبب التفاعلات الكهروستاتيكية القوية بين إلكترونات هذه المواد، فإن عازلات موت لا تعمل على توليد الكهرباء. وينقسم مستوى الطاقة نصف المملوء بالإلكترونات إلى مستويين مصغّرين، وبهذا فالإلكترونات تشغل مستوى طاقة كامل واحد وتترك الآخر فارغًا، وبالتالي تتصرف كعازلات. هذا يعني أن جميع الإلكترونات محجوبة؛ وبذلك تصبح مواد عازلة بسبب هذا الإرتداد القوي بين الإلكترونات، لذا لا يتدفق تيار كهربائي.[1][2]

ثلاثون عامًا ولغز عازلات موت لم يُحل

هذه الموصلات الفائقة، لديها العديد من السلوكيات المثيرة للاهتمام. لقد قُتلت بحثًا ودراسةً، لكننا لا نعرف كيفية تفسير سلوكها، هذه مشكلة تبلغ من العمر 30 عامًا ولم تزل دون حل.

هكذا وصف دكتور بابلو هيريرو معضلة عازلات موت، وفيما يلي سنعرف لماذا.

وجد العلماء طرقًا للتلاعب بالخصائص الإلكترونية لعازلات موت؛ لتحويلها إلى موصلات فائقة، في درجات حرارة عالية نسبيًا، أي حوالي 100 درجة كيلفن. وللقيام بذلك؛ فإنه يتم “تخدير” المادة كيميائيًا مع الأكسجين، فتجذب ذرات الأكسجين الإلكترونات من عازل موت، مما يترك مساحة أكبر للإلكترونات المتبقية لتتحرك بحرية. وبالتالي عندما يتم إضافة ما يكفي من الأكسجين، فإن عازل موت يتحول إلى موصل فائق. ولكن يقول دكتور هيريرو أن كيفية حدوث هذا التحول بالضبط كانت وما زالت لغزًا لمدة 30 عامًا.[1][2]

الوصول للزاوية السحرية للجرافين

لدراسة الخصائص الإلكترونية في الجرافين، بدأ الفريق البحث باستخدام شرائح بسيطة من طبقات الجرافين، وابتكر الباحثون لوحات منها عن طريق إخراج شريحة واحدة من الجرافيت، ثم التقاط شريحة أخرى بعناية، مع شريحة زجاجية مغلفة ببوليمر لزج، ومادة معزولة من نيتريد البورون. ثم قاموا بتدوير الشريحة الزجاجية بشكل طفيف جدًا، وأخذوا النصف الثاني من شريحة الجرافين، وألصقوها بالنصف الأول. وبهذه الطريقة، فقد صنعوا مجموعة مختلفة الخصائص بنمط متميز عن البنية الأصلية للجرافين.

وكرر الفريق هذه التجربة عدة مرات، بإنشاء العديد من شرائح الجرافين، مع زوايا دورانية مختلفة، تتراوح بين 0 و3 درجات. وبعدها ربطوا أقطاب كهربائية بكل الشرائح، وقاموا بقياس التيار الكهربائي المار من خلالها، ثم قاموا بقياس مقاومة هذه الشرائح بالنظر إلى كمية التيار المتدفق من خلالها.

وعند 1.1 درجة -وهو ما سُمي فيما بعد بالزاوية السحرية- وجد الباحثون أن الجرافين عندها يكون إلكترونيًا فائق التوصيل الكهربائي، على غرار عازل موت؛ حيث تحمل جميع الإلكترونات نفس الطاقة بغض النظر عن عزمها.

وللوصول لمفهوم العزم، تخيل معي أن عزم سيارتك هو حاصل ضرب الكتلة في السرعة. إذا كنت تقود بسرعة 30 كم/الساعة، فلديك كمية معينة من الطاقة الحركية، ويمكنك تحطيم كرة قدم صغيرة. وإذا كنت تقود بسرعة 60 كم/الساعة، فطاقتك الحركية أعلى بكثير، ويمكنك تحطيم كرة أكبر بكثير.

أما التجربة التي أجروها على الجرافين فهي تقول، مهما تغيرت سرعتك؛ 30 أو 60 أو 100 كم/الساعة، فسيكون لديك في جميع الحالات نفس كمية الطاقة الهائلة![4]

كهرباء حرة تمامًا

على مستوى الإلكترونات، فهذا يعني أنه حتى لو شغلت الإلكترونات مستوى طاقة نصف مملوء، فإن أي إلكترون ليس لديه طاقة أكثر من أي إلكترون في مستوى طاقة أعلى، لتمكينه من التحرك في ذلك النطاق. وبالتالي على الرغم من أن بنية مستوى الطاقة نصف المملوءة هذه ينبغي أن تتصرف وكأنها موصل للكهرباء، فإنها تتصرف بدلًا من ذلك باعتبارها عازلة، وبشكلِ أدق، عازلة موت.[1] كما يبشر دكتور هيريرو:

يمكن تدفق التيار الكهربائي بحرية، لا مقاومة كهربائية، ولا طاقة مقاومة، وهذا ما يعنيه كون الجرافين موصلًا فائقًا. يمكننا الآن استخدام الجرافين كمنصة جديدة للسعي وراء الموصلات الفائقة، وبوسع المرء أيضًا أن يتخيل صنع ترانزستور فائق التوصيل من الجرافين، فيمكنك تشغيله وإغلاقه وتحويله من التوصيل الفائق إلى العزل التام. وهذا يفتح العديد من الاحتمالات للأجهزة الكمية.

خاتمة

الجرافين مادة كربونية تشبه في ترتيب ذراتها خلية النحل، ويتم الحصول عليه من الجرافيت والذي يمكن أن نجده في سنون أقلام الرصاص، تعد أكثر قساوة من الفولاذ، أصلب من الماس، ويتحمل الجرافين الحرارة والكهرباء أكثر من أي مادة أخرى -بما في ذلك النحاس- هذه المادة المُكتشَفة منذ أقل من 17 عامًا نجحت في الاستحواذ على انتباه جميع العلماء والباحثين في الوقت الحالي، لما لها من خصائص فيزيائية مميزة من الغريب للغاية أن تجتمع معًا في مادة واحدة.

وفي هذه اللحظة التي تقرأ فيها تلك الكلمات، هناك بمعهد ماساتشوستس، يسعى فريق العلماء على قدمٍ وساق لفهم ودراسة الخصائص المغناطيسية للجرافين، ولن نندهش إذا علمنا أنها -كباقي الخصائص- فريدة وغريبة، ولكن هذا موضوعٌ ليومٍ آخر.

شارك المقال:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي