تاريخ الفكر الإنساني عامَّة، والفلسفي خاصَّة؛ مُتصلٌ بلا انقطاع، فالبرغم من التنوع الهائل بين المذاهب الفكرية والثقافية المختلفة، إلا إنه لا مناص للأفكار وللمدارس من التأثّر والتأثير فيما بينهما وإن كانوا على طرف النقيض.
كل اتجاه وفكر له صلةٌ من الواقع؛ فهو استجابةٌ وتمثيلٌ له، بعد استيفاء شروط فاعليته وظهوره، سواء كان نضوجًا أو ضمورًا، فيمكن القول أن المعارف البشرية تسير في شكلٍ خطيٍّ تراكميٍّ، تعتمد فيها أُسس التبلور لأي نموذج فكري جديد على النشأة بين أنساق فكرية ومعرفية سابقة، وعلى جاهزية البيئة في إبراز جدلية تتسم بالنقدية لأنماط القواعد القديمة، فحياة الفكر تُبحر تارةً وَسط الأمواج العالية، وطورًا في المياة الراكدة المستقرة؛ «فلابد لكل حضارة أن يحين الوقت الذي يتحتم فيه بحث الأساليب القديمة من جديد»، فهكذا هو تاريخ الفكر الإنساني، ثورة تهدم القديم، وتولد على أثره حقبة تُرسخ وتنقح وتَزخر بالجديد، حتى يصير قديمًا، وهلم جرا.
بالرغم من صيرورة التغيّر هذه إلا أن القديم والأقدم، لا يندثر مطلقًا، فالاختفاء لفكر ما، لعدم المناسبة على الاستمرار أو لأسباب تاريخية وسياسية معينة، لا يعني انتفاء قابليته للإحياء؛ بل أن ثمة أهمية تأسيسية للتراث الإنساني في النهوض من بؤر الظلمات، كما شهدت أوروبا في حقبة القروسطية، إعادة إحياء معالم التراث اليوناني والروماني، والذي مثّل أهمية في استهلال عصر النهضة، والتي لم تسلم من ثورات معرفية، التي بلورت عصر الحداثة والعلم والعقلانية، والتي تتعرض قيمها ومبادئها بدورها للنقد؛ في عصر ما بعد الحداثة (Postmodernism).
كما تعتبر أوّل حركات الشك والنقد في تاريخ الفكر الفلسفي، جاءت على يد مجموعة من المعلمين المثقفين المتجولين، أُطلق عليهم: «السوفسطائيين»، الذين ألموا جيدًا بالفلسفة ومدارسها وبعلوم عصرهم، فاتجهوا في طريق ثوريٍّ جديدٍ مغايرٍ تمامًا للتفكير الفلسفي السائد، فبعد ثورة الفلسفة على السرد الأسطوري إلى نهج طرق التأمل الفكري، جاءت السوفسطائية لتحول الدفة إلى قضايا الإنسان العملية الأرضية، وإلى موضوع المعرفة، فكانوا هم طلائع من أنزلوا الفلسفة من السماء إلى الأرض بحق. إذ أن الفلسفة السوفسطائية تبتعد عن الفلسفة الطبيعية الكونية والميتافيزيقية، فلقد أَوْلُوا النظر إلى الوجود الإنساني. وبالرغم من إنه لم تبقَ من آثارهم سوى شذراتٍ قليلة، إلا أن بصمتهم متجذرة في اتجاهات الفكر الفلسفي الحديث، وهذا ما سنشير إليه، بعد عرض ملامح الفلسفة العملية الإغريقية.
استهلال
أشرقت الفلسفة على أرض اليونان مع القرن السادس قبل الميلاد، على يد طاليس المالطي، وقد اهتمت بادئَ ذِي بدْءٍ بالنظر في الظواهر الطبيعية والعالم الخارجي، إذ أرجعت تفسير العالم إلى الإنسان وقدرته على التعقل والتفكر، بديلًا عن التفسير الأسطوري الخيالي؛ فتنوعت النظريات حول الكون (الكوسمولوجي)، في أصل المادة وطبيعة الأشياء بين التنوع والوحدة، فتباينت النظريات إلى نزعة طبيعية وعقلية رياضية وأخرى ذرية، واتجاه ثاني ينظر إلى ما فوق الطبيعية في موضوع الوجود (الأنطولوجي)، وهم المدرسة الإيلية الذين أثاروا مشكلة المعرفة الطبيعية مع الشك في الحواس، إذ يرون أن الحقيقة تُدرك بالعقل لا بالحس.
يمكن أن تقرأ أيضًا: بزوغ الفلسفة من الميثولوجيا الاغريقية
أما أناكسغوراس فيعتبر مرحلة ممهدة لانصراف الفلسفة عن الاهتمام بالكون إلى النظر للإنسان، وبالرغم أنه سار على درب المادية الأيونية؛ إلا أنه يعتبر أول من فكر في أن يكون العقل علة أولى للتغيرات الطبيعية، فقد فرق بين العقل والمادة أو الإنسان والطبيعة.
تعددت واختلفت النظريات حول مظاهر الطبيعة التي أدت إلى حالة من ارتياب الحقيقة وتعددت الظنون والفرضيات، بعد أن أصبحت المعرفة بين يدي الإنسان حين تم فصل التصورات الأسطورية عن الطبيعة؛ لذا كان المناخ يستثير موجةً من الشك، ويفتح المجال أمام تساؤلات الفلسفة في الواقع العملي والمعيشي للإنسان؛ فيُبرز النظر في العادات والتقاليد والأخلاق والدين والسياسة، لذا كانت حركة السوفسطائيين هي ثورة الفلسفة على القيم والاجتماع -أدارت النظر من الخارج إلى الداخل- وخروجها من الطابع النظري إلى الحياة العملية، إذ مثلت بذلك نزعة إنسانية، حيث دخل الإنسان كموضوع في حيز التفلسف، وطرحت التساؤلات حول الطبيعة الإنسانية، لذا فإن الحركة السوفسطائية كانت إفراز ضروري وفيصلي في المرحلة الأخيرة إلى نضوج الفلسفة الهلينية، «السوفسطائيين لم يخلقوا فلسفتهم من عدم بل انتزعوها من بيئتهم؛ فجاؤوا بصورة دقيقة لعصرهم، ولسانًا ناطقًا يعبر عما كان يخالج النفوس».
نشأة الحركة السوفسطائية
اليونان (القرن الخامس ق.م)
بعد انتصار اليونان على الفرس، اتجهت الأوضاع الاجتماعية والسياسة إلى الاستقرار، كما اتجهت الديموقراطية في أن تكون المذهب الذي غلب على الوضع السياسي في أثينا وغيرها من المدن، فكان القضاة ورجال السلطة التنفيذية يُنتخبون بالتصويت، فمع هذا الوضع الاجتماعي الذي يقتضي وجود الجدل والنقاش والمشاركة السياسية والخطابية (سياسية/قضائية) آنذاك، إذ شاع تعليم فنون البلاغة والخطابة، ومع رواج التجارة في أثينا، واختلاط اليونانين مع الأمم وتقاليدها وأعرافها المختلفة، أصبح المناخ زاخرًا بأجواء التنوع والتعدد. ومن جراء النهضة الفلسفية التي أصابت التصورات الميثولوجية القديمة؛ في المجتمع اليوناني، أصبح السخط وعدم الرضى عن تلك الأديان منتشرًا، وأصبح الجدل حول القيم الأخلاقية والعادات مستساغًا، لما أحدثته حركة التجارة، فكانت الأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية، تدفع لظهور فكر يعبر عن الأوضاع.
مُعلِّمو البيان
في ظل وضع التنافس التجاري والسياسي والاحتكام القضائي، نبغت مجموعة من المثقفين كاستجابة لتطورات الوضع الإغريقي، إذ بهم يشتغلون بتعليم البيان وفن البلاغة والخطابة السياسية، إذ سعوا إلى تكوين مواطنين صالحين لممارسة السياسة وإدارة الحياة العملية، أطلق عليهم اسم «السوفسطائيين»، الكلمة من أصل لفظ: (Sophia) أي الحكمة: وتُطلق على المُعلم والخبير في أي مجال فكانوا يَطلقون على أنفسهم معلمي الحكمة.
وقد لحقها التحقير الاصطلاحي بعد ذلك على أثر النقد اللاذع من قِبل أفلاطون وأرسطو؛ الذين كانوا يعيبوا عليهم في تقاضيهم أجر عن ما يقومون به من تعليم، إذ أن أفلاطون هو المؤرخ الأساسي عن أخبار فلاسفة البيان، وهو أيضا عدوهم اللدود، حيث كانت أغلب محاوراته الشهيرة تدول حول موضوعات وأعلام السوفسطائيين، مثل محاورة «بروتاغورس، غورغياس، هبياس، السوفسطائي»؛ فيقول برتراند راسل:
«فلئن رأيت أفلاطون يكرس مجهوده لتشويه حسناتهم والافتراء عليهم بالكذب، فلا تحكم عليهم بمحاوراتهم».
قد اهتم السوفسطائين باتباع البرهان إلى حيث يقود، وإن ما تعرضوا إليه من رفض واحتقار من التيارات المحافظة، يدل على قيمة فضلهم البالغ الأثر في الاجتماع، «إن الكراهية التي تعرض لها السوفسطائيين لا من الناس وحدهم بل من أفلاطون وسائر الفلاسفة، كانت ترجع إلى تفوقهم العقلي»، وكان ما يهم فلسفتهم هو النجاح والفائدة العملية، لذا في أهمية بحثهم عن الحقائق، لابد من غض النظر عن الاعتبارات الخلقية وعدم الميل لأهواء الناس، وبالرغم من سيادة فلسفة أفلاطون وأرسطو بعد ذلك، إلا أنه كان لهم بالغ الأثر على المجتمع الإغريقي في ازدهاره مع حركة زيادة الطلب على التعليم الذي لم يكن متوافرًا وقتئذٍ.
أثارت أفكار السوفسطائيين حول الدين والأخلاق، استهجان التيارات المحافظة، فقد كتب أشهر رجالهم «بروتاغورس» إلى جماعة أثينا في موقفه من الدين، التي كانت على حد تعبير ويل ديورانت: «مدينة غير متسامحة إلى حد السخف والغباء»، حيث أنه قال: أما من حيث الألهة فلست أدري أهي موجودة أم غير موجودة، فإن أمورًا كثيرة تحول بيني وبين هذا العلم، أخصُها غموض المسألة وقصر الحياة.
وعلاوة على ذلك، نقرأ أن بعضًا منهم ذهبوا إلى ربط الدين بالعوامل السياسية والتاريخية؛ فالإيمان بالآلهة من صنع الساسة يخفون وراءها جرائمهم وأفعالهم الخارجة عن القانون. بينما نجد أخرين مثل بردويقوس (الذي قيل أنه معلم سقراط في اللغة واشتقاق المفردات)؛ يربط نشأة الدين بمظاهر الطبيعة، فالأشياء النافعة للإنسان مثل الأجرام السماوية والأنهار والخمر والطعام، ينظر إليها بشكل مقدس؛ لذا أطلق على الخبز ديميتر والخمر ديونيسوس. وكانت الأخلاق عند جماعة السوفسطائيين، ما هي إلا خاضعة للعادات والتقاليد المجتمعية؛ «فالأخلاق تنشأ مع المدينة وتنحدر من التقاليد»، وتأصيل تلك المواقف سوف تتضح أكثر مع قراءة أبرز معالم فلسفتهم.
الفلسفة السوفسطائية
نسبية المعرفة
احتل الإنسان مركز الاهتمام في فلسفة معلمي البيان، حيث انطلقوا إلى أخذ موقف من مشكلة المعرفة (طبيعة المعرفة، مصادر المعرفة، إمكان المعرفة)، التي برزت من اختلاف المدارس الفلسفية السابقة، فصيرورة هيراقلطيس:
«الأشياء في تغير مستمر»
تجعل امتناع وصف شيء بخصائص موجودة دائمًا وضرورية، وهذا موقف يثير الشك وينحو إلى النسبية، حتى أن أحد أتباعه؛ وهو أقراطيلوس، ذهب إلى تحريم الكلام، وكان يقتصر على تحريك إصبعه، بل أنه عارض قول هيراقلطيس:
«لا يمكن النزول في النهر الواحد مرتين».
بأنه لا يمكن النزول فيه حتى مرة واحدة. وقد ذهب السوفسطائيين على نقيض المدرسة الإيلية وبارمنيدس الذين ينكرون وجود الأشياء، ويرون أن صفة الوجود وحدها موجودة، وأن العقل فقط مصدر المعرفة، إلى أن المعرفة تأتي عن طريق الحس فقط، لذا تكون الحقيقة والمعرفة نابعة من موقف كل إنسان، فيقول بروتاغوراس:
«الإنسان مقياس الأشياء جميعًا. هو مقياس وجود ما يوجد منها. ومقياس لا وجود ما لا يوجد».
ويمكننا القول أن فكرة بروتاغوراس عن مقياس الإنسان للأشياء تتأصل من الصيرورة والتحول المستمر لهيراقليطس ومن تأثره بمذهب ديموقراطيس -الذي عاصره وعرفه- في أن الإحساس هو المصدر الوحيد في المعرفة؛ وذلك الموقف يجعل من المعرفة نسبية، ويفصل القول في عدم وجود حقيقة مطلقة. ونسبية المعرفة تؤدي إلى النسبية في المواقف العملية كالأخلاق، وتحديد الخير والشر، فما هو خير لك أو في فترة ما، يكون شر لآخر أو لك في زمن تالي.
وقد تكون الأقوال المتناقضة حقائق متساوية القيمة في اعتقاد أشخاص مختلفين أو في أزمنة مختلفة.
لذا كان الرهان على الواقع العملي، الذي يحدد الحقيقة الناجحة والتي تُحقق مردودًا على أرض الواقع، فيقول برتوغاورس:
«إننا إذ فقدنا الثقة في وجود حقيقة موضوعية كانت أغلبية الأراء في أهداف حياتنا العملية هي وحدها الوسيلة التي نحكم بها فيما نثق بصدق».
لذا فإن موقف النسبية الإبستمولوجية لدى السوفسطائيين تجعلهم يرفضون الاهتمام بنظريات الكوسمولوجي (الكونية الطبيعية) لتعدد النظريات بها وعدم وضوح الحقيقة، كما يرفضون التفسيرات الميتافيزيقية (مدرسة الوجود الساكن) حول صفة الوجود والمعرفة العقلية، ولقد وضع أحد أشهر معلمي البيان؛ «غورغياس»، كتابًا اسمه «اللا وجود»، اهتم بالرد على مذهب الإيليين الوجودي، بالرغم من أنه تأثر بالمنهج الجدلي لزينون الإيلي.
ذهب غورغياس إلى موقف عدمي من الوجود، حيث يقول:
«ألا شيء موجود، وإن وجد شيء، فليس هو بممكن المعرفة، وإن حتى فرضنا جدلًا معرفته، فلا يمكن نقله لغيره من الناس».
هكذا نفى غورغياس الوجود ردًا على صفة الوجود الإيلية، وهكذا اختلف فلاسفة البيان مع من قبلهم الذين قد فرقوا بين الوجود الذهني والوجودي الخارجي، أي هناك فارق بين ما أدركه في شيء وبين الشيء في الخارج، أما هم فقد اقتصروا الحقيقة على ما تصلنا فقط.
هكذا يمكننا فهم الطبيعة المعرفية لفلسفة السوفسطائيين العملية، والتي كانت تعتمد على المنفعة العملية، فكل ما يؤدي إلى هدف عملي لصالح المرء، يجب أن يكون طريقه مبررًا؛ لذا استطاعوا كونهم معلمي بلاغة وخطابة، أن يستعملوا التلاعب بالألفاظ والاستعارات لخدمة مواقفهم، وذاك ما نفهمه من عبارات بروتاغوراس:
«ليس هناك خطأ بل مستحيل وجود خطأ، فكل ما تراه صواب لك، بل لفظتا الخطأ والصواب، لا معنى لهما، فليس هناك شيء يُسمى حقًا في ذاته أو في الواقع».
ولذا اشتق لفظ سفسطة، لاحقًا وإلى الآن؛ تعبيرًا عن التلاعب بالألفاظ.
القانون والعدالة
يمكن القول أن السوفسطائيين هم أول من فرقوا بين القانون الطبيعي والقانون الوضعي، أي إلى أيهما؛ يرجع أصل نشأة القانون، لذا قد انحاز بعضهم إلى أن القانون الطبيعي أو الإلهي هو الأصل مثل انطيفون وهيبياس وثراسيماخوس أو أنه قانون وضعي شرع من قِبل البشر والعرف الاجتماعي مثل بروتاغوراس الذي اتجه إلى أن القانون هو وضعي ليس مستمد من الآلهة أو الطبيعة بل شرع من قِبل إبداع اُناس أحرار قاموا على تنظيم المجتمعات وإقرار قانون يُطبق بالمساواة على الجميع، وتنص على احترام حقوق الآخرين، فهو اتفاق الأراء بين المواطنين. ونلاحظ أن ذاك الإتجاه يشبه مفهوم العقد الإجتماعي من منظور بروتاغوراس، لكن بما أن المعرفة في نسبية مطلقة، فما مفهوم العدالة، ههنا؛ الذي يرجى منه القانون.
نجد اتجاهين في تعريف العدالة، الأول: أنطيفون، يرى فيها تطبيقًا لنظريته في المساواة بين الناس، «إن الناس سواسية لا فرق بين النبلاء والعامة وبين الإغريق والبرابرة، فإنهم يأكلون كما نحن، ويستنشقون نفس الهواء الذي نستنشقه»، أما بالنسبة للقانون الوضعي فيرى أن القانون البشري زائف، ولا عيب من التهرب من القانون كلما استطاع ذلك، فطاعة القانون مزمومة بالرغم من وجود بعض الإفادة في بعض الحالات؛ وذلك لأن أصل القانون عنده طبيعي فطري على المساواة والعدل.
كان هيبياس وألكيداماس يدعون أيضًا لقانون طبيعي مستمد من الألهة، فكان الأول يحلم بمجتمع عالمي يسوده الإخاء والمساواة الطبيعية بين البشر؛ إذ أن «التشبيه بالطبيعة هو الأقرب إلى التشبيه، بينما القانون هو السيف المسلط على رقاب البشر، غالبًا ما يجبرنا على فعل أشياء ضد الطبيعة». أما التعريف الثاني، فينظر «ثراسيماخوس» إلى العدالة بأنها رغبة ومصلحة الأقوى؛ فيقول:
«في كل حالة تضع الحكومة القوانين لصالحها، فالديموقراطية تضع قوانين ديموقراطية، والملكية تجعلها ملكية (….) فللعدالة في جميع الدول معنى واحد، هو صالح الحكم القائم ولما كان المفروض ضرورة هو أن الحكومة هي الأقوى، فالنتيجة الوحيدة المعقولة هي أن مبدأ العدالة واحد في كل يء وهو صالح الأقوى».
وكما ذهب كالكيس إلى مفهوم مشابهه وهو أن قانون الطبيعة هو قانون الأقوى، وأن القانون وجد لحماية الضعفاء من الأقوياء؛ فلذا لا وجود لمفهوم عدالة عام، فليس هناك قانون عادل في ذاته، لذا كانوا أيضًا يحاججوا ضد القانون الوضعي، فالقوة طبيعية وهي الحق.
الفلسفة السوفسطائية في تاريخ الفكر الفلسفي
يمكننا القول أن أحداث التاريخ لا تتكرر، فإنه يسير إلى الأمام سواء إلى أفضل/أسوء (تقيميًا)، وكذلك الفكر لا يعاد بالكلية، بل يتشابه ويؤثر ويتأثر جدليًا؛ فهو في شكل تطوري، وتجعل تلك الصيرورة الكثير من عناصر الأفكار تظهر من جديد، فكما وسبق أن ألمحنا إلى أن كل نهضة على القديم تستلزم موجه شك لقواعد وقيم السلف، وهكذا كانت أفكار السوفسطائية حركة شكية ثورية في الفلسفة الإغريقية، وتظل نفس السمة في تقلبات تاريخ الفكر الإنساني، فالفلسفة اليونانية قبل السوفسطائية كانت تؤمن بقدرة الفهم البشري الكلي، ولكن جاء شك ونقد السوفسطائية لتلك المقدرة، كما جاءت الحداثة بقيم عليا تؤسس على مقدرة الفهم الإنساني بالمنهج العلمي، وارتدت حركة شكية في النص الثاني من القرن العشرين، ترفض التأسيس على هذه الثقة وهي فترة مابعد الحداثة.
الفلسفة الإغريقية: تعتبر الحركة السوفسطائية ثورة فلسفية على التقاليد المجتمعية والنظريات الفلسفية السائدة، وقد أدت إلى بلورة أعلام الفلسفة الهيلنية العِظام: أفلاطون وأرسطو، الذين انشغلوا بشكل كبير في العناية والاهتمام بالرد والشرح والنقد لفلسفة معلمي البيان، بل أن الحكيم سقراط، هو من مدرسة الفلسفة العملية، الذي انتهج نفس طرق المجادلة الشفهية والحوارات النقاشية، واهتم بالإنسان شأنه شأن السوفسطائيين، لكنه اختلف معهم جذريًا حول وجود معرفة وحقيقة كلية.
ونازعهم سقراط جدليًا كما صورها لنا أفلاطون في محاوراته، فيتشارك السوفسطائيين بالعلامة البارزة في تشكل تلك المذاهب المؤسسة وقتئذ، والتي سادت إلى أكثر من ألف عام مع التأويلات التي حدثت مع اللاهوت المسيحي للفسلفة الإغريقية وقطبيها، «فالسوفسطائيين، كان لهم أعظم الأثر في تاريخ اليونان، فهم الذين اخترعوا لأوربا النحو والمنطق، وهم الذين رقوا فن الجدل، وحللوا أشكال الحوار، وعلموا الناس كيف يكشفون وكيف يمارسون، (….) وأنهم جعلوا التفكير سُنَّةَ العصر، وأنهم جاؤوا من كافة أركان العالم اليوناني إلى أثينا بأفكار جديدة وأسباب للتفكير جديدة، وأيقظوا فيها الوعي الفلسفي والنضوج الذهبي، ولولاهم لما وجد سقراط أو أفلاطون أو أرسطاطاليس».
التجريبية الكلاسيكية والبراجماتية: نلاحظ بجلاء فيما سبق عن موضوع مصدر المعرفة عند السوفسطائيين، وخاصة بروتاغوراس، إذ أن الحس هو المصدر الوحيد للمعرفة، وذلك ما يتشابه مع موقف جون لوك وديفيد هيوم أبرز رواد المدرسة التجريبية الكلاسيكية؛ وذلك ردًا على المدرسة العقلية التي ترجع المعرفة لمصادر أولية عقلية، مثل رينيه ديكارت ولايبنتز.
بالإضافة إلى أن الحال عند الفلسفة البراغماتية على حد كبير من التشابهه، فكما كان العمليين من فلاسفة السوفسطائية ينكرون الواقع الخارجي، وأن المعرفة هي من الواقع العملي للإنسان فقط، فإن البراغماتية لا يرون حقيقة في ذاتها مستقلة عن الإنسان؛ والحقيقة ما يكون نافعًا في الحياة العملية، حتى أن فرديناند شيلر أحد مؤسسي البرغماتية يقول عن نفسه بأنه تلميذ لبروتاغوراس.
ما بعد الحداثة: بيد أن الفيلسوف الألماني «فريدريش نيتشه»، يعتبر سهم البدء الذي مهد إلى عصر ما بعد الحداثة، حيث مارس التفلسف بالمطرقة على حد قوله، في قلب كل القيم الحداثية، فقد مثل ضربة شك ضارية وأثار أسئلة مهمة، لقواعد وقيم عصر الحداثة والعقلانية، فقد توارث العدمية الإيجابية من ملامح فكر بعض السوفسطائيين، كما تأثر بمنظور ثاريماخوس حول القوة.
كما يعبر نيتشه عن نسبية الحقيقة؛ قائلًا:
«لا توجد حقائق إنما فقط تأويلات».
ويعتبر عصر ما بعد الحداثة في الحقبة المعاصرة نظيرًا لما أحدثته الفلسفة السوفسطائية من قلب ورفض قيم ما قبلها، فإن توجهات مفكري ما بعد الحداثة مثل دريدا وليوتار، في رفض مطلق للحقيقة، ولكل السرديات والقصص الكبرى والكلية؛ أي لا وجود لتطابق بين الواقع والحقيقة، فلا شيء ثابت وكل شيء متغير، فلا يوجد شيء كمرجع، إذًا الواقع لا يمكن معرفته ووصفه بموضوعية. وكما تعرض السوفسطائيين للنبذ من حقل الفلسفة، والتحقير من شأنهم، فيمكن القول أن كثير من مفكري مابعد الحداثة تعرضوا لبعض الأمور المماثلة تقريبًا من اتجاهات ترفض توصيفهم كفلاسفة.
ملخص القول: أن الاتجاهات الشكية عبر تاريخ الفكر، لها الإسهام الأصيل في نسيج النسق الفسلفي الإنساني؛ فالعقل البشري ينتج أفكارًا تؤثر وتتأثر بعضها ببعض، والفكر إن غاب بريقه يومًا، فمن الوارد أن يتألق مجددًا تبعًا لاستجابة الحاجة الفكرية.
كتابة وإعداد: عصام أسامة
مراجعة علميّة: مُحمد فتحي
تحرير: نسمة محمود
المراجع:
[1]تاريخ الفلسفة الغربية، برتراند راسل، ترجمة: زكي نجيب محمود [2]تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم [3]قصة الفلسفة اليونانية، زكي نجيب محمود وأحمد أمين [4]قصة الحضارة، ج4 حياة اليونان، ويل ديورانت [5]محاورة بروتاغوراس، أفلاطون، ترجمة: محمد كمال الدين يوسف [6]المدرسة اليونانية من طاليس لأفلاطون، مجدي كيلاني