التفسيرية الظاهراتية وركائزها المنهجية

2
التفسيرية الظاهراتية وركائزها المنهجية

تظل المنهجية الظاهراتية (الفينومينولوجية) في تفسير النص ذات وجاهة؛ فهي قادرة على إنتاج تأويلات جديدة، وفتح آفاق مختلفة للمعنى. فالظاهراتية تتجاوز التفسير اللغوي-التاريخي التقليدي، الذي يعتمد اعتمادًا أساسيًا على اللغة والوقائع التاريخية والروايات، بكفاءة، تتجاوز كل هذا نحو الوعي الإنساني بالألفاظ، ووقعها النفسي، ولماذا اختار النص هذا اللفظ واستبعد ذاك، ومدى قدرة اللغة ذاتها على التعبير عن الأشياء كما تظهر للوعي.

وليس من السهل بإطلاق تلخيص فكرة الفينومينولوجيا لغير المختصين، بل ولأغلب المختصين! فهي واحدة من أعقد النظريات التي توصل لها العقل البشري في مجال العلوم الاجتماعية. ونظرًا لأنها منهجية هامة للغاية في نظرية التفسير، فمما لا شك فيه أن محاولة -أو مغامرة- تقديمها في هذا المقام -على ضيقه- هي أمر لا يخلو أيضًا من وجاهة. وبشكل بالغ الاختصار والتكثيف يمكن تقديمها -كأي مذهب فلسفي أو نظرية متطورة- على محوري التاريخ، والبنية، كما يلي.

نشأة الفينومينولوجيا، وارتقاؤها

يعتقد بعض مؤرخي الفلسفة أن مصطلح الفينومينولوجيا قد ظهر للمرة الأولى في الفلسفة في كتابات الفيلسوف والرياضي والفيزيائي السويسري لامبرت Johann Heinrich Lambert (+1777)، وذلك في كتابه (الأورجانون الجديد) Neues Organon الصادر عام 1764، ثم ظهر المصطلح بعد ذلك في كتابات إيمانويل كانط (Immanuel Kant  +1804)، بدءًا من مصنفه (الأسس الميتافيزيقية الأولية للعلوم الطبيعية) Metaphysische Anfangsgrunde der Naturwissenschaft، الصادر عام 1786، ثم عاود المصطلح ظهورَه في (ظاهريات الروح) Phänomenologie des Geistes، مصنف هيجل (G. W. F. Hegel +1831) الأشهر، الصادر عام 1807. بعد ذلك ظهر المصطلح على يد رينوفييه (Charles Bernard Renouvier  +1903) في  (شذرات عن فلسفة السير وليام هاملتون) Fragments de la philosophie de Sir W. Hamilton، الصادر عام 1840، كما ظهر عند هنري فردريك أونيل (Henri-Frédéric Amiel +1881) في Journal Intime, 1869، وكذلك عند هارتمان (Karl Robert Eduard von Hartmann +1906) في كتابه (ظاهريات الوعي الخُلقي) Phänomenologie des sittlichen Bewußtseins، الصادر عام 1879، حتى وصل المصطلح إلى الفيلسوف الألماني هوسرل (Edmund Husserl +1938)، وهو الذي بلور مبحث الفينومينولوجيا المعروف حاليًا[1].

ولم يرد اللفظ عند كل منهم بالمعنى نفسه، وفي هذه القائمة الطويلة لمعاني المصطلح يمكن تبيُّن أربع مراحل أساسية لمعانيه في مسار المثالية الألمانية، وتأثيرها على هُوسَرْل ثم هَيْدِجَر، ومن ثم علاقتها بالهرمنيوطيقا.

أ- مرحلة كانط أو الفينومينولوجيا النقدية

الذي فرّق بين الشيء في ذاته Ding an sich أو النومينون Das Noumenon، وهو ماهية الشيء الباطنة غير الظاهرة للوعي البشري، والظهور أو الفينومين (Phänomen, Die Erscheinung Das)، وهو الشي كما (يبدو) في الوعي. وقد أحدثَ كانط بذلك ثنائية بين الذات والموضوع، أو بالأحرى سار في تيار ثنائية الواقعية/المثالية الأوروبية المعهود منذ الفلسفة الإغريقية. لكن هذه القسمة بين الذات العارفة وموضوع المعرفة لم تكن بهدف الفصل بينهما عند كانط، بل قامت الفينومينولوجيا المبكّرة لديه بدور حلقة الصلة بينهما؛ فإن (الشيء كما يظهر للوعي) هو نفسه علاقة بين الذات والموضوع.

ب- مرحلة هيجل

وذلك في (فينومينولوجيا الروح)، حيث وصف مراحل ترقي الوعي، من الوعي الذاتي إلى الوعي بالمطلق، أو المطلق نفسه. ومن الصعب نوعًا تلخيص فكرة هيجل عن علاقة الذات بالموضوع في مقام شديد الاختصار كهذا، لكن يمكن القول بأن هيجل قد اعتبر أن كل الموجود واقعيًا هو حصيلة (جدل) ذي أصول مثالية. ويترقى (الشيء كما يظهر للوعي) في مدارك الروح عند هيجل، وذلك عبر مراحل معقدة من القضية ونقيضها، ليصل إلى الوعي بالمطلَق.

جـ- مرحلة هُوسَرْل

واجه هوسرل ذلك المأزق، مأزق انقسام الوعي الأوروبي إلى مثالي وواقعي، وحاول إيجاد نقطة انطلاق للمعرفة الدقيقة، بحيث تكون ثابتة لا شك فيها، ويعتبر كتابه (أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا المتعالية: مقدمة إلى الفلسفة الظاهراتية) Die Krisis der europäischen Wissenschaften und die transzendentale Phänomenologie: Eine Einleitung in die phänomenologische Philosophie الصادر عام 1936، رغم كونه مؤلَّفًا متأخرًا، بيانًا تأسيسيًا لمشروع إعادة بناء العلوم بأسرها، طبيعية واجتماعية. وفي الفقرة الخاصة ببنية النظرية ستتضح فكرته للخروج من هذا المأزق المثالي/الواقعي، وهو ما أكسب مشروعه تأثيرًا بالغًا على الفكر الغربي، وغير الغربي، حتى اليوم.

د- مرحلة هَيْدجر

يعتبر هيدجر التلميذ الأنجب لهوسرل، وقد طوّر فكرة الفينومينولوجيا التي وضع أساسها أستاذه، واستعمل المنهج الظاهراتي لتأسيس ميتافيزيقا جديدة، هي ميتافيزيقا الإنسان في وجوده المتعين، والتي قصد بها أن تكون إعادة بناء للميتافيزيقا الغربية، وأطلق عليها الأنطولوجيا الأساسية Fundamentalontologie. وبهذا المشروع الطموح الراديكالي في خطته، وفي جانب كبير من إنجازه، اكتسب هيدجر بدوره أهمية كبرى في تاريخ الفلسفة المعاصرة.  وما يتعلق بالمقام الحالي هي النقلة، التي أنجزها هيدجر في الفلسفة الظاهراتية؛ فهي فلسفة وليست مجرد مقدمة تبدأ منها المعرفة[2]، وهي أساس جديد للتفسير، ليس فقط تفسير النصوص، بل (الفهم) بمعناه الأوسع، أو نظرية التفسير، أو الهرمنيوطيقا. وبالتالي ارتبطت الفينومينولوجيا لديه ارتباطًا وثيقًا بالتأويلية، وصارتا وجهين لعملة واحدة. أما النقلة النوعية الثانية فيما يختص بالهرمنيوطيقا، فهي أنها تحولت على يد هيدجر من مجرد (فهم) إلى (أسلوب كينونة) Seinsart للإنسان، يمكن القول أن هيدجر قد رأى أن وجود الإنسانِ يتحقق في العالم كما يَفهم الإنسانُ، وأن الوجود الإنساني في حقيقته عملية تأويل مستمرة؛ إذ هو عملية فهم دائمة.

بنية الفينومينولوجيا

سلف ذكر أن هوسرل في تأسيسه للفينومينولوجيا قد سعى إلى تجاوز ثنائية المثالي/الواقعي التقليدية، التي رآها أزمة العلوم، ومن ثم حاول الوقوف على نقطة بداية معرفية يقينية، ليست الواقعة التجريبية، وليست فكرة مجردة، وهذه النقطة هي الشعور Empfinden. ويعني هوسرل بالشعور هنا خلاف ما يدرسه علم النفس، وهي أول نقطة صحيحة لفهم الفينومينولوجيا، لأن الشعور عند هوسرل شعور قصدي absichtlich، ومُدرِك wahrnehmend. أي أن الشعور هو دائمًا شعور بشيء، وهو يتجه اتجاهًا إلى موضوعاته في العالم، بحيث تكون لهذه الموضوعات صفة القابلية للإدراك. كما أن الشعور-حين يفصل العقل بين الشيء كما يظهر في الوعي، وبين كل أفكاره عن المنفعة والقيمة المتعلقة بهذا الشيء- يمكنه أن يصل إلى ماهية هذا الشيء عن طريق الحدس Anschauung. الشعور وحده-بحسب الفينومينولوجيا-هو نقطة تلاقي الذوات في مجال بين-ذاتيInter-subjective ، أو عبر-ذاتي Trans-subjective، وهو ما يشكل أساس التفاهم بين الذوات، ويفتح المجال الوحيد الممكن للموضوعية[3].

ومن أهم الركائز المنهجية التي قامت عليها الهرمنيوطيقا الفينومينولوجية هي فكرة الرد Reduktion، والتقويس Epoché. ويعني التقويس تعليقَ الحكم على موضوع التقويس. والرد عند هوسرل نوعان: متعالٍ Transzendentale وصوري Eidetische. الأول يقوّس العالم ككل، ويعلق عليه الأحكام، والثاني يقوس الموضوعات الجزئية لإدراك ماهياتها الثابتة. وهناك نوعان من التقويس: تقويس تاريخي: أي تقويس خبراتنا التاريخية والثقافية السابقة، التي تعوق إدراكنا لماهية الشيء، وتقويس وجودي: أي تقويس متعلقات العالم المادية في سبيل إدراك ماهيته[4]، [5].

ركائزُ الهرمنيوطيقا الفينومينولوجيةِ المنهجيةُ

اعتمادًا على ما ذُكر بشأن الفينومينولوجيا، وعلى تفسير هيدجر لبعض أجزاء الكتاب المقدس-مثال هذه الرسالة موضوع الترجمة الملحقة-يمكن إجمال هذه الركائز كما يلي:

أ- تقويس التاريخ

إن المنهج الظاهراتي حين يضع الوقائع التاريخية الواردة في النص بين قوسين، معلقًا عليها الأحكام بالصواب أو الخطأ، فإنه يلغي دورها في عملية فهم النص، وهي أولى الخطوات الجذرية، التي تتجاوز التفسيرية اللغوية/التاريخية التقليدية.[6]

ب- تقويس المعجم اللغوي

وذلك حين يقوس المنهج الظاهراتي معاني الألفاظ المعجمية، نحو إدراك ماهية الشيء في حقيقتها، ويعتمد على الشعور في فهم اللفظ، أو الانتقال من اللفظ إلى الشيء، مرورًا بمعناه في الشعور الخاص بالمفسِّر والمؤلِّف. وهي ثاني الخطوات جذرية نحو تجاوز التفسيرية التقليدية.

جـ- تقويس مصدر النص

يتم وضع مصدر النص (الإله أو الرسول مثلاً في حالة النص المقدس) بين قوسين، ويتم تعليق الحكم عليه، وهذا يؤدي إلى إلغاء توجه المفسِّر نحو إثبات مدى صحة النص التاريخية، فيكون موضوع التفسير هو النص ذاته، وفاعليته في الوعي، حتى وإن كان مشكوكًا في صحته التاريخية.

د- تقويس الإيمان

يتم كذلك وضع الإيمان بالنص أو مصدره (الله مثلاً) بين قوسين، فلا يلعب إيمان المفسِّر من عدمه دورًا في عملية التفسير، وهو ما يجعل الوعي بالنص وحده مجموعَ أدوات عملية التفسير.

هـ- اللا-أسْطَرَة، أو إزالة الأسطورة، واللا-سرد أو إزالة الخَبَرِية

وهي معتمدة على الخطوات السابقة؛ فحين يتم تقويس التاريخ، والمصدر، والإيمان يتم تفسير النص الحامل للتاريخ (للأسطورة كالمعجزات مثلاً)، رجوعًا إلى تأثيره فقط في الوعي، وهو تقويس التاريخ سابق الذكر، وبالطريقة نفسها يكف النص عن كونه راويًا للقَصَص، ويتوقف دوره السارد أو الخبري، ويكف عن كونه مصدرًا للمعلومة عمومًا، فينقطع التاريخ عن النص من جهتين: جهة التاريخ الذي تعتمد عليه التفسيرية اللغوية/التاريخية في تفسير النص (التاريخ الحامل)، وجهة التاريخ المَرْوِيّ بوساطة النص (التاريخ المحمول).

و- تفعيل دور إرادة المؤلَّف، ووعيه

لما كان الشعور وحده-بحسب الفينومينولوجيا-هو نقطة تلاقي الذوات، فإن وعي المفسِّر، أثناء عملية التفسير، ومن خلالها، يستطيع العبور إلى وعي مَصدر النص، القائل الأصلي، واستكناه خبراته، وشعوره، وأساس اختياره للألفاظ، وغرضه من ذلك.

ز- الدائرة الهرمنيوطيقية Hermeneutischer Zirkel

وهي فكرة تعود إلى دلتاي (Wilhelm Dilthey +1911)، الذي بلورها من أعمال Flacius Matthias (+1593)[7]. ويؤدي تفعيلها إلى أن تفسير جزء من النص لا ينعزل عن سياق النص ككل، والعكس كذلك، فالسياق يتأثر بالمعنى الجزئي ، في عملية جدل، أي: تبادل تأثير، يتطور فيها معنى النص لدى المفسِّر، حتى يصل إلى استقرار نسبي في مرحلة ما، ويصير التفسير عملية تطورية ديناميكية.

ترجمة “التفسير الظاهراتي لرسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية” لهيدجر، مثالاً تطبيقيًا

كتابات هيدجر في اللاهوت وفلسفة الدين

قليلة هي، وهامة كتابات الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر (Martin Heidegger  1889-1976) اللاهوتية. ولسنا هنا بمعرض الحديث عن تطور هيدجر الفكري، بداية من دراسته للاهوت، مرورًا بدراسته الفلسفة، ثم تبلوره عام 1927 كفيلسوف معترف به من المجتمع الفلسفي الأكاديمي الألماني، وتعيينه أستاذًا مساعدًا للفلسفة في جامعة فرايبورج، ثم كونه واحدًا من أهم الفلاسفة الألمان، وربما أهم فلاسفة القرن العشرين، الذي خرج من عباءته جادامر ودريدا وسارتر وياسبرز ومارسل وغيرهم من أهم فلاسفة القرن المنصرم. إن هيدجر هو الفيلسوف الذي أكسب الفلسفة الوجودية، منذ ظهورها في صورتها الدينية عند فيلسوف الدانمارك سورين كيركجور، وصورتها الأدبية على يد الألماني نيتشه، شكلها النظري الصلب، وعمقها الميتافيزيقي، ووجاهتها المنهجية، وجهازها المفاهيمي المعقَّد المتناسق. أو كما قيل: فالأفكار تظهر في كل مكان، لتتحول إلى مذاهب ونظريات في ألمانيا، على ما في هذا القول من مبالغة غربية أو تغريبية.

وهي هامة؛ لأنها تكشف ذلك البعد اللاهوتي الغائب، أو شبه الغائب، في كتابات هيدجر اللاحقة، والأشهر، والأهم “كالكينونة والزمان”، وكتاباته في فلسفة اللغة، و”أصل العمل الفني”، و”مسألة التقانة”، و”الوجود والكينونة”، و”الكينونة والحقيقة”، و”مساهمات في الفلسفة”، و”على الطريق إلى اللغة”، وغيرها فيما يتصل بالميتافيزيقا الجديدة، التي رام هيدجر تأسيسها؛ لتحل محل الميتافيزيقا الأوروبية السابقة، ميتافيزيقا الإنسان، أو فلسفة وجوده، وما يتصل إلى حد ما بنظرية القيمة (الضمير Gewissen)، وتأثير التقانة على الوجود الإنساني في العالم الغربي، واللغة، والفن.

ونظرًا لكونها شبه غائبة في مرحلة ازدهاره الفلسفي، فهي تترك فراغًا هامًا؛ لأن هيدجر إذا كان قد بحث الوجود الإنساني، فإنه لم يهتم بالقدر نفسه ببحث علاقته باللا متناهي، أو الإله، وبقي جزء من ميتافيزيقاه مفتقَدًا، ولا أقول: مفقودًا؛ لأن مبرر ذلك أن هيدجر استبعد الميتافيزيقا الإلهية (الفلسفة الأولى بتعبير الفلاسفة العرب القدماء) عامدًا بهدف تأسيس ميتافيزيقا إنسانية خالصة. وإن كان لم يغفل بحث اللاهوت تمامًا، فقد نقده في معرض تمهيده لإشكاليات (الكينونة والزمان) عمله الأساسي، بوصفه أهمل تساؤل للإنسان ذاته حول وجوده[8]. أما هذه الدراسة موضوع الترجمة، وسلسلة محاضراته في فلسفة الدين في فرايبورج فهي مبكرة، يرجع تاريخها إلى ما بين عامي 1918-1921.

ويظهر في ملاحظات هيدجر عن هذه الرسالة منظوره البروتستانتي في تأويل شخصية بولس الرسول، أو إعادة تقديمه كبروتستانتي مبكّر، وهو بحث تقليدي؛ فقد ربط باحثون كثيرون بين هذه الرسالة، وبين البروتستانتية، وكذلك بين البروتستانتية، ورسالة إلى أهل رومية، التي يحيل إليها هيدجر أيضًا. ولكن الأهمية هنا للمنهج، أكثر منها للنتائج. وقد ظهرت هذه المنهجية في التفسير الذي عنونَ له المؤلف تحت عنوان جانبي هو (ملاحظات متفرقة عن النصّ).

وهذه الترجمة مثال تطبيقي جيد للجهد الفينومينولوجي التفسيري، يمكن له أن يكشف بعض ملامح تطبيق المنهجية الظاهراتية في التفسير. يحاول هنا هيدجر استكشاف معنى اللفظ في الوعي، بشكل غير ذاتي، ليس في وعي هيدجر، بل في الوعي البشري عمومًا، أي بشكل بين-ذاتي، أو عبر-ذاتي، كتفسيره لمعنى (العالَم) و(السَّعْي) هنا مثلاً، بينما يضع التاريخ بين قوسين، بل يشير إلى عقم المنهج التاريخي في دراسة النص.

نص الترجمة[9]

“بالرغم من أن مارتن لوثر يعد خصمًا فكريًا راديكاليًا لبولس الرسول، فإن رسائل بولس توضح قدرًا من الاتساق مع روح البروتستانتية. تفيدنا رسائل الأخير كثيرًا بشأن التوثيق التاريخي لتحولاته الفكرية. إنها وثيقة أصلية تفسر تطوره الديني، كما هي تسجيل لمعاناته الروحية. وإلى جانب ذلك فهي تتضمن جانبًا من جوانب تطور التاريخ الرسولي. وإن النص الأصلي اليوناني لها هو الذي يؤسس فهمًا حقيقيًا للعلاقة بين روح العهد الجديد والفلسفة اليونانية القديمة.”

“وفي هذه الرسالة يخوض بولس الرسول كفاحًا فكريًا إزاء اليهود، وإزاء المسيحيين الذين كانوا لم يزالوا يهودًا بعدُ من جهة الفكر والروح. ومن خلال هذا التفسير نكتشف الموقف الظاهرياتي للكفاح الديني، بل للكفاح ذاته.”

“ويبدو فيها كفاح بولس في وجوده الإنساني كرسول، كفاحه بين الشريعة (الناموس) وبين الإيمان. وهذا التناقض بين الجانبين ليس دائمًا، بل مؤقتًا. إن كلاً من الناموس والإيمان أسلوب مختلف للسير على الطريق القدسيّ. إن هدف كل منهما هو الخلاص، وهو الهدف الخالد ما دامت الحياة. ومن هنا يمكن لنا فهم مكونات الوعي المسيحي، وإنجازاته، على مستوى أكثر عمقًا.”

“ويجب أن نتجنب هنا المنهج الحديث (التاريخي) في قراءتها، وإنما يجب أن تتم قراءة جميع الرسائل من خلال نسق الوعي المسيحي؛ فقد قدم المنهج التاريخي لعلم اللاهوت نتائج تشكك في اللاهوت نفسه.”

“ويمكن تقسيم رسالة إلى أهل غلاطية إلى ثلاثة أجزاء أساسية:

1-التدليل على رسولية بولس، وكونه موحًى إليه من قبل المسيح.

2-التقابل بين الناموس وبين الإيمان (نظريًا وعمليًا).

3-الحياة المسيحية على جانب الناموس، وجانب الإيمان من حيث الدوافع والأساليب.”

ملاحظات متفرقة عن النص

“1: 5:  “العالَم” αίών «Welt» [10]: تشير اللفظة إلى أن الزمان الحاضر قد بلغ فعلاً آخر مداه، وأن عالَمًا جديدًا قد بدأ منذ صلب المسيح. يصير العالَم الحاضر عالَم الخلود، ويصير للمجد δόξα فيه معنًى خاص.”

“1: 8-9: إن الكفاح من أجل البشارة الصحيحة لم يقصد به فحسب إنقاذ غلاطية، بل تأسيس المسيحية الأصلية، وذلك بغض النظر عن مراجعة التصورات الدينية السابقة، كما فعل الفريسيون. إن بولس هنا بإزاء تأسيس موقف ديني خاص.”

“1: 10: تتضح هنا قطيعة كاملة ذات مغزًى عام مع الماضي المبكر، مع كل الفهم غير المسيحي للحياة.”

“1: 12: يريد بولس هنا، أبعد من ذلك، القول بأنه تأثر بخبرة روحية أصيلة، وليس بتقليد تاريخي للمسيحية. ومن هنا الارتباط باللاهوت البروتستانتي المثير للجدل. لم يرد بولس تملُّكَ وعي تاريخي بمسيح (الناصرة)، بل قصد إلى تأسيس دين مسيحي جديد، مسيحية جديدة-أصلية، ليست دين يسوع كما يفهمه معاصروه. ولا يضطر المرء هنا إلى التقليل من شأن تاريخية المسيح. إن حياة يسوع صحيحة تاريخيًا [بين قوسين]. ولا يمكن للمرء بالطبع قراءة الموقف من وجهة نظر أحادية.”

“1: 12: وهذا موضع هام لفهم صفات بولس، ونمط حياته، وسلوكه، وهو ما أستهدفه هنا.”

“1: 14: “المتعصب” «ζηλωτής: «Eiferer: هنا تتضح معاناة بولس في خضم مرحلة تحوله الروحي والفكري.”

“1: 16: هؤلاء الأغيار τοΐς εθνεσιν: لا يعرف المرء هنا ما إذا كانت هذه اللفظة مذكورة للمرة الأولى هنا أم أنها موحاة.”

“1: 17: العرب (أي أهل شرق الأردن): وربما تعني الحياة الزهدية، أو تشير فعلاً إلى التبشير.”

“1: 18: التعارف أو اكتساب الخبرة ίστορήσαι (ίστορεΐν): وهو الجانب التاريخي في الرسالة.”

“2:2: التأكيد على “السَّعْي” τρέχειν,: إن بولس على عجلة من أمره؛ لأن نهاية الزمان قد حلتْ فعلاً.”[11]

“2: 16: الحديث المُبَرَّر δικαιούται: وهو تعبير له جذوره في اليهودية. إن حياة المفردات عملية تطورية إزاء الله، والذي إزاءه ألقى يسوع موعظة الجبل الأخلاقية. إن العدل، أو ناموس العدل δικαιοσύνη (νόμος Χριστού) ، قد اكتسب بدءًا من هذا الموضع معنًى مسيحيًا. يبدو هنا جدل بولس حَبْريًا-يهوديًا-لاهوتيًا، ومن هنا يظهر موقفه الخاص الأصيل. وتبدو هنا الحجة المستمدة من العهد القديم حَبْرية بشكل متميز.”

“2: 17: هذا البرهان الخُلْفي[12] نجده دائمًا لدى بولس.”

“2: 19: فقرة هامة جدًا! إنها صورة مركزة من الدوجما البولُسية كلها. “مِتُّ بالناموس للناموس άπέθανεν νόμφ δια νόμου”، إنه مجرد تصريح أخلاقي، فلأن المسيح يتماهى مع الناموس، فقد مات هذا الناموس معه، بالضبط مثل بولس.”

“2: 20: وهي فقرة حاسمة فيما يتعلق بالتصوف البولسي، لقد انتبه رايتسنشتاين Reizenstein[13] إلى الاتساق الاصطلاحي هنا مع الفلسفة الهللينية[14]، ولا يجب أن ينعزل المرء في عملية التفسير عن الفيلولوجيا (النصوص الهرمسية)[15].”

“3: 2: الاستماع من المؤمنين έξ άκοής πίστεως: قارن رسالة إلى أهل رومية، 10، 11.”

“4: 3: “تحت أركان العالم” أو “تحت عناصر العالم ύπό τα στοιχεία τού κόσμου”[16]: يعني لفظ στοιχείον عند الرواقيين “عنصر” كما هو معناه عند إنبادوقليس. إن فيلون اليهودي[17] (المعاصر لبولس) قد عرّف الكفار بأنهم (الممجدون للعناصر)τα στοιχεία τιμώντες، (قارن 4: 9، 10). إن النجوم تصلح اصطلاحًا لتكون من معاني عناصر العالم التي تُضبَط طبقًا لها أوقات الأعياد.”

“4: 8: “للذين ليسوا بالطبيعة آلهة φύσει μή ούσιν θεοϊς”: إن العناصر στοιχεία كائنات إلهية، (قارن الآية الأولى) وهي درجة أسفل الحراس Vormünder مقارنةً مع كهنة النجوم.”

“4: 9: “عرفتُم γιγνώσκειν”: المعرفة هنا بمعنى (المحبة)-كما في الآية الأولى-فإن محبة الله للإنسان أصلية، وليست مجرد معرفة نظرية مكتسَبة.”

“4: 14: “تجربتي التي في جسدي لم تزدروا بها و لا كرهتموها”: وتُفهَم التجربة هنا غالبًا بالفسوق.”

“4: 24: “رمْز άλληγορούμε”: لقد مورِسَ التأويل المجازي للنص في ذلك الوقت من قِبل فيلون، و”هاجَر ‘Αγάρ” تعني في العربية (الجبَل)، كما إنه كذلك يُسمَّى الجبل عند العرب[18].”

“4: 26: “وأما أورشليم العليا “ή άνω ’Ιερουσαλήμ: إنها منتهَى الخلاص، الموصوفة في رؤيا باروخ Baruch.”

“5: 5: نَسَق “الإيمان” و”الرجاء” πίστις und ελπίς: (قارن مع رسالة إلى أهل كورنثة)، هامّ؛ فلم تنتهِ الروحانية تمامًا هنا، بل يمكن الوعي بها في عصر أسمَى. (قارن مع “مسيرة الإصرار نحو الغاية”)[19].”

“5: 11: ” عثرة الصليب το σκάνδαλον τού σταυρού”: يعد هذا التعبير حجر الزاوية في المسيحية، فهي التي تفرق الإيمان عن الكفر.”

تعقيب ختامي من المترجم

الأهمية الكبرَى لهذه الترجمة، أو ذلك النموذج التطبيقي المترجَم، ليست اكتشاف مرحلة مبكرة غامضة نوعًا عند هيدجر، أو مناقشة مدى صحة التأويل البروتستانتي لرسائل بولس، بل تلخيص الموقف الوجودي-الديني، معاناة الذات الوجودية على طريق الإيمان، ووقوفها في نقطة الصفْر الإيمانية، لتأسيس موقف إيماني أصيل، غير مُقَلِّد (للآخرين)، وبحيث يكون الضمير الوجودي معيارًا حاضرًا دائمًا لدى الذات في تقييم موقفها الديني. وهو ما يحتاجه الإصلاح الديني عمومًا؛ فأساس الإصلاح الديني بشكل عام هو الخروج من الدين المُمَأسَس إلى الفرد الواعي. وإدماج السؤال الوجودي في التجربة الإيمانية، أو التجربة الإيمانية الأصيلة، هو تفكيك للسلطة المعرفية، التي تستأثر بها المؤسسة الدينية في أغلب الأديان.[20] ومن هنا تُعَدّ الهرمنيوطيقا، بالإضافة إلى كونها دراسة نظرية لأصول الفهم الإنساني، كفاحًا عمليًا، مجتمعيًا، ضد التسلط المعرفي، الذي يؤسس بدوره للتسلط المجتمعي. وقد رأينا إلى أي مدى انشغل هيدجر بالتأكيد على الموقف الإيماني الأصيل، كما في ملاحظته عن “الكفاح من أجل البشارة الصحيحة” (1: 5)، وتحليله للفظ “السعي” (2:2)، وعلاقته بالوجود-نحو-الموت، مثلاً.

إعداد: كريم الصياد
مراجعة لغوية: مايكل ماهر


مصادر وهوامش الدراسة:

[1] - Vgl. z. B. Heidegger, Martin, Phänomenologie des religiösen Lebens, Gesamtausgabe, Band 60, S. 22.
 
[2] - Bocheński, Joseph M., Die zeitgenössischen Denkmethoden, Lehnen Verlag, 1954,  S. 27. 
 
[3] -سماح رافع أحمد: الفينومينولوجيا عند هوسرل (دار الشئون الثقافية العامة، بغداد، 1991، ط1) ص 92-92، 134-137. 
 
[4] -السابق، ص 141-145. 
 
[5] -من الأعمال الشارحة باللغة العربية لفينومينولوجيا هوسرل: 
 
-محمود رجب: المنهج الظاهراتي في الفلسفة، رسالة دكتوراه غير منشورة، قسم الفلسفة، كلية الآداب، جامعة القاهرة. 
 
-يحيى هويدي: دراسات في الفلسفة الحديثة والمعاصرة. 
 
-زكريا إبراهيم: دراسات في الفلسفة المعاصرة. 
 
-يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الحديثة. 
 
-سعيد توفيق: الخبرة الجمالية. 
 
ومن الأعمال التطبيقية-الإبداعية:
 
-حسن حنفي: تأويل الظاهريات. 
 
-حسن حنفي: ظاهريات التأويل.  
 
ومن الترجمات: 
 
-إدموند هوسرل: الفلسفة علمًا دقيقًا، ت محمود رجب. 
 
- إدموند هوسرل: أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترانسندنتالية، ت إسماعيل المصدق. 
 
- إدموند هوسرل: أفكار ممهدة لعلم الظاهريات الخالص والفلسفة الظاهرياتية، ت أبي يعرب المرزوقي. 
 
- إدموند هوسرل: مباحث منطقية، مقدمات في المنطق المحض، ت موسى وهبة. 
 
- إدموند هوسرل: فكرة الفينومينولوجيا، (الدروس الخمسة لهوسرل لعام 1907)، ت فتحي إنقزو. 
 
- إدموند هوسرل: خمسة دروس حول الفينومينولوجيا، ت أحمد الصادقي. 
 
[6]  يمكن الرجوع لتفصيل هذه النقطة إلى بحثنا: "الهرمنيوطيقا ضد التاريخ-المشروع التأويلي عند أوريجين السكندري"، مجلة المبادئ للدراسات المسيحية، عدد 1 (2)، 2013. 
 
[7] - Schuhmann, Maurice, Radikale Individualität: Zur Aktualität der Konzepte von Marquis de Sade, Max Stirner und Friedrich Nietzsche, Verlag: transcript; Auflage: 1., Aufl. (November 2011). S. 66-70. 
 
[8] - Heidegger, Martin, Sein und Zeit, Max Niemeyer Verlag Tübingen, 19. Auflage, 2006, S. 48-49. 

[9] -العنوان الأصلي والمصدر:  
 Heidegger, Martin, Phänomenologische Interpretation des Galaterbriefes, Gesamtausgabe, Band 60 "Phänomenologie des religiösen Lebens", Vittorio Klostermann, Frankfurt am Main, Germany, 1995, S. 67-71. 

 [10] -ربما قصد المؤلف الآية 1: 4، التي ترد فيها لفظة "العالَم". (المترجم) 

 [11] - كما أشار المترجم في رسالته للدكتوراه، وكما أشار قبله شايفلرSchaeffler  فإن لمفهوم الوجود-من-أجل-الموت عند هيدجر أصلاً لاهوتيًا، وبما يشمل كذلك عددًا من أهم المفاهيم المحورية في "الكينونة والزمان"، بما يجعل هذا الأخير إعادة بناء للاهوت في سياق إنساني خالص. راجع:  

 Schaeffler, Richard, "Heidegger und die Theologie" in: Gethmann-Siefert, Annemarie (Hrsg.), Otto Pöggeler (Hrsg.), Heidegger und die praktische Philosophie, Suhrkamp Verlag, Frankfurt am Main, 2. Auflage, 1989.  

 [12] - Schluß ab absurdum (البرهنة على بطلان العكس). 

 [13] -فيلولوجي ألماني، له دراسات في أديان اليونان القديمة والهرامسة، توفي في جوتنجن عام 1931. (المترجم) 

 [14] -الفلسفة اليونانية حتى وفاة أرسطو. (المترجم) 

 [15] - Vgl. Richard Reitzenstein. Die hellenistischen Mysterienreligionen nach ihren Grundgedanken und Wirkungen (1910). Zweite, umgearbeitete Auflage, Leipzig u. Berlin 1920, S. 48 f. 

 [16] - unter den Elementen der Welt 

 [17] -المعروف بفيلون السكندري، توفي عام 50م. (المترجم) 

 [18] -خطأ من المؤلف، فالجذر العربي لا يعني ذلك. (المترجم) 

 [19] -غير موضح في النص الأصلي. (المترجم) 

 [20]  بالإضافة إلى ذلك لنا بحث بعنوان "اللا مفسر القرآني"، قيد النشر، يتعرض لهذه العلاقة بين الفرد والمؤسسة الدينية بالتفصيل، ويبحث أساس هذه العلاقة النظري، وهو تفسير النص الديني. 
  


شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي