تصارع علماء الفلك لآلاف السنين حول التساؤلات الأساسية حول حجم الكون وعمره، هل يمتد الكون إلى الأبد، أم أن له حافة في مكان ما؟ هل كان دائم الوجود، أم أنه مستحدث؟
أدرك الإغريق القدماء أنه من الصعب تصور الكون اللانهائي، لكنهم تساءلوا أيضًا: إذا كان الكون محدودًا، وقمت بمد يدك من الحافة، فأين ستذهب يدك؟ تمثلت مشكلتا الإغريق حول الكون في المفارقة، كان يجب أن يكون الكون إما محدودًا أو غير محدود، وكلا الاحتمالين يواجه مشكلة ما.
بعد ظهور علم الفلك الحديث، ظهرت مفارقة فلكية أخرى، ففي أوائل القرن التاسع عشر جادل الفلكي الألماني (هاينريش أولبرس – Heinrich Olbers) بأن الكون يجب أن يكون محدودًا، وقال أولبرس إنه إذا كان الكون بلا حدود واحتوى على النجوم، وإذا نظرت إلى أي اتجاه معين، يجب أن يسقط خط رؤيتك في النهاية على سطح نجم ما، على الرغم من أن الحجم الظاهر لنجم في السماء يصبح أصغر مع ازدياد المسافة إليه، إلا أن سطوع هذا السطح الأصغر يظل ثابتًا؛ لذلك إذا كان الكون ليس محدودًا، يجب أن تكون السماء مشرقة بالكامل، وبما أن هناك مناطق مظلمة في السماء؛ لذلك يجب أن يكون الكون محدودًا.
لكن عندما اكتشف (إسحاق نيوتن) قانون الجاذبية، أدرك أن مفعولها لا يمكن تجنبه حيث إن كل مواد الكون تجذب بعضها بعضًا، فإذا كان الكون محدودًا لجمعت الجاذبية أجسام الكون كله وتسببت في انهياره على نفسه. ومن الواضح أن هذا لم يحدث.
وعندما طور (آينشتاين) نظريته للجاذبية في نسبيته العامة، اعتقد أنه واجه المشكلة نفسها التي واجهها نيوتن، فمعادلاته تقول إن الكون يجب أن يتوسع أو ينهار، ومع ذلك افترض أن الكون كان ثابتًا، حيث احتوى حله للمفارقة على مصطلح ثابت يسمى (الثابت الكوني – cosmological constant)، الذي ألغى آثار الجاذبية على المقاييس الكبيرة وأدى إلى كون ثابت.
وفي الوقت نفسه تقريبًا بُنِيَت التلسكوبات الكبيرة التي كانت قادرة على قياس الأطياف بدقة، أو شدة الضوء دالةً على طول الموجة، وباستخدام تلك البيانات الجديدة، حاول علماء الفلك فهم عددًا كبيرًا من الأشياء الخافتة الغامضة التي راقبوها منذ مدة ويطلقون عليها سدمًا.
وفي عام 1919 عُيِّنَ (إدوين هابل – Edwin Hubble) عالمَ فلك مبتدئًا في مرصد جبل (ويلسون)، وكان السؤال الأكثر إلحاحًا في ذلك الوقت يتعلق بطبيعة تلك البقع الخافتة.
اعتقد معظم زملاء هابل في المرصد أن جميعها داخل درب التبانة، لكنه لم يكن متأكدًا من ذلك ولم ينجح في الإجابة على هذا السؤال إلا من خلال التقاط أفضل الصور الممكنة لهذه الأشياء، حيث قدم أدلة مقنعة على أن بعضهم -على الأقل- كان خارج درب التبانة.
من خلال اكتشاف مجرات أخرى، وسّع هابل الكون المعروف مائة مرة. لكنه لم يكتفِ بهذا، فمن خلال قياس مسافات المجرات وحركاتها، فاجأ الجميع بما فيهم ألبرت آينشتاين باكتشافه أن الكون يتوسع. مما دفع آينشتاين إلى وصف ثابته الكوني بأنه خطأ فادح.
كان هابل محظوظًا بما يكفي للعمل في مرصد جبل ويلسون بعد فترة وجيزة من إنشاء التلسكوب العاكس (100 بوصة) الذي ظل التلسكوب الأكبر على الأرض حتى عام 1949، فقد كان هابل فلكيًّا دقيقًا يعمل بجد، التقط العديد من الصور لمجموعة السدم الحلزونية نفسها -التي اتضح فيما بعد أنها مجرات-. احتاج هابل إلى صور متعددة من أجل فهم التغيرات مع مرور الوقت، ولقد لاحظ بالفعل الكثير من التفاوت كالحالات التي أصبح فيها النجم الخافت أكثر إشراقًا حين يجتذب موادًا من نجم مصاحب قريب.
في 4 أكتوبر عام 1923، أثناء مقارنة صورة التقطها حديثًا لمجرة (أندروميدا) مع صور التقِطَت في الليالي السابقة، حدد نجم من نوع (متغير قيفاوي – Cepheid variable) وهو نوع النجوم الوحيد الذي يوفر وسيلة لقياس المسافة إلى المجرة.
وخلال الأشهر القليلة التالية، قرر هابل بأن النجم تباين في السطوع مع فترة 31.45 يومًا، مما يعني أنه كان أكثر إشراقًا من الشمس بمقدار 7000 مرة. وبمقارنة سطوعها الظاهر مع سطوعها الفعلي، حدد هابل أنه كان على بعد 900000 سنة ضوئية.
نظرًا لأن (هارلو شابلي – Harlow Shapley) سبق أن قاس مسافة درب التبانة نحو 100000 سنة ضوئية، أشارت النتائج الجديدة بوضوح إلى أن مجرة (أندروميدا) كانت تتجاوز درب التبانة. وجد الباحثون لاحقًا أن هناك نوعين من تلك النجوم، وأن هابل كان يقارن النوع الساطع منها في مجرة أندروميدا بالنوع الخافت منها في مجرتنا، مما يعني أن المسافة إلى أندروميدا كانت في الواقع ضعف المسافة الذي تنبأ بها هابل، أي نحو 2 مليون سنة ضوئية.
لقد كان هابل على دراية بأن عالم الفلك (فيستو سليفير – Vesto Slipher) قبل عقد من الزمن قد قاس (تأثير دوبلر – Doppler effect) للعديد من المجرات، حيث لاحظ أن عددًا قليلًا يقترب من درب التبانة والكثير يتحرك بعيدًا بسرعات هائلة، ومن خلال العمل مع مساعده (ميلتون هاماسون – Milton Humason)، قاس هابل المسافة وتأثير دوبلر لأكبر عدد ممكن من المجرات، وفي عام 1929 نشر هابل وزملاؤه ورقة من شأنها أن تغير علم الفلك للأبد. أوضحت الورقة أن المجرات المرئية من درب التبانة تبدو جميعها كأنها تتسارع باستمرار.
ما لاحظه هابل وزملاؤه هو توسع الكون نفسه. الأمر أقرب ما يكون للزبيب في عجينة الخبز، فمع ارتفاع العجين يتحرك كل الزبيب بعيدًا عن بعضه البعض، لكنه يظل عالقًا في العجين نفسه.
حينها أصبح من الواضح أنه من خلال قياس معدل التمدد، يكون من الممكن تحديد عمر الكون من خلال حساب متى كانت كل المجرات في مكان واحد، وأدركوا على الفور أنه سيكون أصغر في الماضي، ففي مرحلة ما في الماضي، كان الكون بأكمله نقطة واحدة. تلك النقطة التي سميت فيما بعد بالانفجار الأعظم كانت بداية الكون كما نفهمها اليوم، لقد كان هذا اكتشافًا مدهشًا حقًّا. لم يتمكن البشر فحسب من معرفة مكانهم داخل هالة ضخمة من بلايين النجوم؛ لكن أصبح بإمكاننا أيضًا تحديد متى بدأ الكون.
على الرغم من أن الفضل يرجع لإدوين هابل في تلك النتائج، إلا أنه أقر بأن دوره كان جزئيًّا وأنه اعتمد على العمل الذي قام به العديد من علماء من قبله.
إعداد: محمد طه.
مراجعة علمية: سارة سامر.
تدقيق لغوي: شروق محيي الدين.
تحرير: هدير جابر.
المصادر:
- The Expanding Universe [Internet]. [cited 2019 Oct 30]. Available from: https://skyserver.sdss.org/dr1/en/astro/universe/universe.asp
- The universe’s expansion rate is still a mystery | Science News [Internet]. [cited 2019 Oct 30]. Available from: https://www.sciencenews.org/article/universe-expansion-rate-mystery
- Our Expanding Universe: Age, History & Other Facts | Space [Internet]. [cited 2019 Oct 30]. Available from: https://www.space.com/52-the-expanding-universe-from-the-big-bang-to-today.html
- The Cosmological Conundrum of the Expansion Rate of the Universe | Space [Internet]. [cited 2019 Oct 30]. Available from: https://www.space.com/hubble-constant-universe-expansion-rate.html