في مرحلةٍ ما من مراحل التاريخ العالميِّ بدأت في الظهور مفاهيمٌ ومصطلحاتٌ جديدةٌ على مسامع الإنسان، والتي بدورها حثَّته على الدراسة والبحث لنكون أمام علومٍ جديدةٍ قادرةً على إشباع الاحتياجات الإنسانية من المعرفة والاستيعاب، وكان من بين تلك المصطلحات التي رُصدت لها العديد من الأبحاث العلمية ما يُعرف بالاستشراق.
تبعًا لفكر الإنسان واستيعابه، ينقسمُ العالم إلى عالَمَيْن: عالم شرقيّ وعالم غربيّ، وكل منهما له خصائصه وأفكاره وشعبه الذي ينتمي إليه، وكل واحد منهما يحاول السفر في بحور الآخر ومعرفة أسراره، وقد أُتيحت تلك الفرصة بالفعل في فترات الاستعمار التي حاول فيها الغرب بمفاهيمه التعرف على الشرق. الاستشراق ليس مصطلح سياسيّ بقدر كونه تعريف اجتماعي إنساني يحاول فيه الإنسان ذو الثقافة الغربية أن يستشرف حضارة الشرق، ولكن بنظرته هو وليس بنظرة الشرق، ليخلق هذا المصطلح لذاته جوانب وآثار فكرية وثقافية جمَّة.
ويمكن لنا أن نستعين ب«إدوار سعيد» لمحاولة فهم هذا المصطلح عندما قال:
«الاستشراق يفترض الموقع الخارجي للمستشرق شاعرًا كان أو باحثًا، فهو يجعل الشرق يتكلم، ويصف الشرق، ويشرح أسراره الغامضة للغرب، ومن أجل الغرب(1).»
وقد بلغ الاستشراق أوجَه في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكانت دول: بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وهولندا وروسيا من بين أهم الدول التي صدَّرت عددًا كبيرًا من المستشرقين إلى الشرق، وكان أكثر أسماء المستشرقين من فئة الأدباء والفنانين، وكان من بينهم الفنان «فاوستو زونارو».
دراسة الاستشراق من خلال ريشة الفنان الإيطالي فاوستو زونارو دراسة من نوعٍ خاصٍ، فهو لم يكن مجرد مٌستشرق حاول من خلال فنه نقل الشرق إلى الغرب في لوحات صامتة تحوي شخوصًا ساكنة وأماكن مقفرة، بل إن عشق زونارو لمدينة إسطنبول وتيمه بها ساعده في نقل كل تلك المشاعر الحارة في لوحات من نور مبعثها حبه لفنه بشكل عام، وإعجابه بالشرق خاصة، إلى جانب رغبته في اتخاذ إسطنبول -مُلهمته- وطنًا له، كل ذلك وأكثر صنع قصة وحكاية بين عاصمة الدولة العثمانية وبين أخر رسَّامي بلاطها، فاوستو زونارو.
تاريخ رسَّامي القصر العثماني
كان السلطان «محمد الفاتح» حريصًا على التاريخ القديم، وكذلك الفلسفة والجغرافيا، فكان يُعتبر بمقاييس زمنه حاكمًا يمتلك أفكارًا مُبتكرَة. كان يقوم بتزيين جدران قصره بجداريات الرسَّامين الأجانب، كما قام بتأسيس وسيط ثقافيِّ غنيِّ وذلك من خلال دعوة الباحثين والفنانين للقدوم إلى الإمبراطورية العثمانية وكانت الخطوة الأولى مع إيطاليا، فكان أول من دُعي من الرسامين لدخول القصر الإمبراطوري، الرسام الإيطالي (ماتيو دي باستي – Matteo dei Pasti)، وفي ذلك الوقت قد أفصح السلطان للإدارة الإيطالية عن رغبته في إرسال رسامٍ للقصر، فتم تكليف باستي بناءً على هذا الطلب، ولكن الفنان لم يتمكن من الوصول إلى إسطنبول، فسُجل الفنان الإيطالي (كونستانزو دا فيرارا – Constanzo da Ferrara) أول من تمكَّن من الوصول إلى القصر، وقام الفنان بدوره الذي عاش في إسطنبول لبعض الوقت في منتصف 1470م برسم العديد من اللوحات والرسومات المتعلقة بالأتراك، بالإضافة إلى صورة تمثال نصفي للفاتح (2).
وبعد حرب بين العثمانيين والبندقية استمرت ستة عشر عامًا، تم توقيع معاهدة سلام في عام 1479م، ليبدأ تبادل سياسيّ وثقافيّ مُكثَّف مع مدينة البندقية، ويطلب محمد الفاتح من إدارة مدينة البندقية مٌصمًا لأعمال فنية بمعدن البرونز ونحَّات، لترسل البندقية على أثر ذلك اثنين: النحات (بارتولوميو بيلانو – Bartolomeo Bellano) والفنان (جنتيلي بيلليني -Gentile Bellini). وفي حين لم تتوافر الكثير من المعلومات عن بيلانو، كان بيلليني كثيف النشاط في القصر الإمبراطوري، فقد قام بعمل لوحات جداريَّة لقصر «توبكابي» رغم أنه لم يكن متخصصًا فيها(3)، إلى جانب صُنعه للوحته الشهيرة لشخص السلطان الفاتح والتي أسهمت بشكل كبير في شهرته، والتي تقبع في أيامنا هذه في المعرض الوطنيّ بلندن؛ حيث تعد واحدة من أكثر النماذج تأثيرًا في الصداقة بين العثمانيين ومدينة البندقية. وبذلك، وجد الفنانون الذين يصلون إلى القصر الفرصةَ لنقل الخبرات التي يكتسبونها إلى البيئة الفنيَّة في بلدانهم(4). وعلى هذه الحال أيضًا، سجَّل التاريخ العثماني اسم جنتيلي بيلليني كأول رسام للبلاط العثماني.
وتمر سنون طوال، وفي زيارته للمرة الأولى للإمبراطورية العثمانية، أهدى فنان المناظر البحرية الشهير (إيفان إيفازوفسكي – Ayvazowski) لوحة للسلطان العثماني «عبد المجيد» الذي بدوره أعطاها إلى أخيه وولي عهده «عبد العزيز»، الذي بدأ حبه لفن الرسم منذ هذه اللحظة، إذ عُرف حاكمًا محبًا لفنون الموسيقى والرسم والخط العربيّ. وعقب رحلة قام بها عبد العزيز لكلٍ من باريس ولندن، زيَّن جدران قصره بلوحات أشهر الرسامين، علاوة على ذلك، دعا الرسام إيفازوفسكي للقدوم إلى إسطنبول لرسم أربعين لوحة. ولم يتوقف الأمر هنا، بل عيَّن الفنان البولندي (تشلبوفسكي – Chlebowski) رسامًا للبلاط العثماني(5).
وهناك، في شمال إيطاليا، بالقرب من بادوفا، حيث غزل شكسبير أحداث إحدى رواياته، يقف شابًا ينظر إلى أراضٍ فُتن بها قبل أن تطأها قدماه، لكنه عرفها وتحسَّسها داخل كلمات الكتب التي قصت له حكايتها فوقع في غرامها، وهو لم يكن يدري أنه سيكون فصلًا في أوراقها التاريخيَّة.
فاوستو زونارو وبداية تحقيق الحلم
وُلد (فاوستو زونارو -Fausto Zonaro) في 18 سبتمبر 1854م في بلدة «ماسي» بمقاطعة بادوفا -أو بادوا- في إيطاليا(6). بدأ الرسم وهو لا يزال طفلًا؛ حيث كان أفضلَ تلميذٍ في مراحل تعليمه الإبتدائية والثانوية، وكذلك الجامعية خلال التحاقه بأكاديمية الفنون الجميلة بفيرونا، وبعد أداء خدمته العسكرية تخرج في كلية الفنون الجميلة بروما ليفتتح أول معارضه الفنية في عام 1885م، ويُلحق به معرضًا آخر عام 1888م بعد طلب كبير(7).
وإلى جانب الرسم، اكتسب زونارو رزقه من عمله بالديكور الداخلي لمدة عامين في مدينتيّ البندقية ونابولي، وفي الوقت ذاته حصلت لوحاته على تقدير القصور الإيطالية، حتى أنه تقلّد وسام الفروسية(8).
مع وصوله إلى سن السابعة والثلاثين، أصبح لدى زونارو حلمًا عاطفيًا يتمنى أن يتحول إلى حقيقة، وهو الذهاب إلى مدينة إسطنبول والعيش فيها والاستمرار في فنه، وهو الحلم الذي استمده من الكتب التي كتبها المؤلفان (إدموندو دي أميجي -Edmondo De Amicis) و(تيوفيل جوتييه -Théophile Gautier)، فقد زار الكاتب الإيطالي أميجي إسطنبول وأثنى عليها وعلى الحياة الاجتماعية التي تتميز بها الثقافة الإسلامية، فاشتدَّ الحماس بزونارو وقرر تحقيق الحلم وسافر إلى إسطنبول عام 1891م ووصل إليها بعد رحلة بحرية استغرقت تسعة أيام(9).
فاوستو زونارو.. أشهر آباء الفن التركي
تمثّلت بدايات زونارو في عاصمة الدولة العثمانية في إعطاء دروسٍ في فن الرسم لطبقات عليا من المجتمع العثماني، حيث بدأ في تعليم سيدات الطبقة الدبلوماسية، وفي هذه النقطة بالتحديد يجب أن نركز على الدور الهام الذي اضطلع به فاوستو زونارو في تعليم سيدات المدينة العثمانية فن الرسم، مما ساهم بشكل كبير في إحداث تأثير فنيِّ في هذه المنطقة، من خلال مشاركة المرأة جنبًا إلى جنب مع الرجل في تكوين مدرسة فنية ذات طابع خاص.
شارك زونارو مع عدد كبير من الفنانين في التدريس من أمثال التركييْن (هاليل باشا -Halil Pasha) و(عثمان حمدي -Osman Hamdi)، وتعد (مُفيدة قدري -Müfide Kadri) من أوائل السيدات التي تلقت التعليم الفني، فبعد إتمامها للدروس عملت قدري كأول معلمة للفن بمدرسة إسطنبول وهي في سن السابعة عشر -مما يعكس ندرة معلمات الفنون الملائمات- كما درسَّت لابنة السلطان عبد المجيد، إلى جانب كونها عضوًا مؤسِسًا في منظمة الفنانين العثمانيين في عام 1909م، وذلك قبل وفاتها المفاجئة بمرض السل عام 1913م(10).
كل ذلك من شأنه أن يوضح مدى العناية التي أولاها زونارو لمدينة إسطنبول من خلال أبنائها بشكل عام، والطبقة النسائية منهم بشكل خاص، وتعليمهن فن الرسم مما ساهم بشكل كبير في تعزيز دورالمرأة في المجتمع التركي ووجودها في قلب الحلقات الفنيَّة.
فاوستو زونارو على بوابة قصر دولما باهجه*
كان السلطان عبد الحميد على علم بلوحات فاوستو زونارو حتى قبل أن يصبح رسام القصر؛ فلوحته الشهيرة «هجوم» تسبَّبت في شغف السلطان وتطلعه إلى رؤية المعرض الدائم الذي افتتحه زونارو في ورشته في حي (أفارتلر -Akaretler)، وعلى حين كان زونارو يحاول أن يقول للموظف القادم من القصر:
«زيارة صاحب الجشمة والعظمة شرف كبير بالنسبة لي».
أسكته الموظف قائلًا:
«هل تنتظر أن يأتي عظمته وفخامته إلى معرضك ويتجوّله؟ ألا تعلمون أنه يخرج من القصر مرة واحدة في العام فقط فيذهب إلى الخرقة الشريفة كي يتبرك بها!؟.»
وأبلغ نفس الموظف زونارو بما يجب فعله؛ إذ ستنقل لوحة هجوم وغيرها من الرسوم إلى القصر، ثم تُعاد مجددًا إلى المعرض بعد أن يشاهدها جلالة السلطان(11).
لم تكن هذه اللحظة بداية إسهامات الفنانين الإيطاليين في الفن التركي أو حتى اللحظة الوحيدة، فعند تأسيس أكاديمية الفنون الجميلة في تركيا عام 1882م، تولى خمسة أوروبيين رئاستها، أربعة منهم يحملون الجنسية الإيطالية. كان الأول الفنان الإيطالي (ليوناردو دي مانجو -Leonardo de Mango) الذي أسَّس وأدار قسم اللوحات الزيتية، ثم رئيس قسم الرسم بالباستيل والفحم (سالفاتوري فاليري -Salvator Valeri)، أعقبه فيليب بيللو (Phillippe Bello) المختص في تقنيات الرسم والألوان المائية، ليأتي أخرًا (إيكفافوري -Ecvaroni) الذي تم تعيينه بفرمان سلطاني خاص(12).
قصة لوحة جعلت زونارو رسَّام البلاط العثمانيّ
إن السلطان عبد الحميد الذي تربى على حب جده السلطان محمد الفاتح طلب من الرسام زونارو أن يرسم لوحة فنية يتعلق موضوعها ب«فرسان أرطُغرُل» شريطة أن تكون جميع الخيول ملونة باللون الأبيض، ولكن اللوحة قبل تقديمها إلى السلطان مرت بفحص سريع من قبل «منير باشا» الصديق المُقرب لزونارو وأكثر شخصيات القصر أدبًا ورقةً، وبعدما رأى منير باشا هذه اللوحة التي كانت تحوي رسمًا لفرسان أرطغرل وطفل صغير عاري القدمين يمسك بيد أمه طلب من زونارو إجراء بعض التغييرات عليها حيث قال:
«إن السلطان عبد الحميد لا يحب الفقر مطلقًا، ولا يمكنه أن يتخيل أن هناك أناسًا حفاة، ألا يمكنك أن تجعل هذا الطفل يرتدي حذاءً جميلًا؟»
ولكن زونارو رفض هذا الاقتراح، ولم يقبل بأيِّ تغيير في اللوحة، وقدمها إلى السلطان كما هي، فلما رآها السلطان أبدى إعجابه الشديد بها(13). وقد كانت هذه اللوحة كفيلة أن تجعل فاوستو زونارو رسامًا للقصر العثماني، ولكن قصة اللوحة هذه لم تنته بعد…
فبعد ذلك بفترة طويلة حضر رئيس المجلس الفرنسي (م. باولو ديستشنال -M. Paul Deschanel) إلى إسطنبول بمناسبة الذكري الخامسة والعشرين لاعتلاء عبد الحميد العرش، وقد أقيمت مراسم احتفال بهذه المناسبة لم ير مثلها من قبل. وبعد تناول الطعام كان عبد الحميد يقوم بجولة مع رئيس المجلس الفرنسي م. باولو ديستشنال في معرض اللوحات بفصر يلديز، وبينما كانا يتجولان وقف باولو منبهرًا أمام لوحة زونارو التي سُميت ب «فوج فرسان أرطُغرُل فوق الجسر»، فأبدى إعجابه الشديد بها قائلًا:
«يا لها من لوحة رائعة!».
وعندما سمع عبد الحميد هذه الكلمات قال له على الفور:
«إذًا فهي لك!(14)».
وفي اليوم التالي أرسل عبد الحميد هذه اللوحة إلى السفارة الفرنسية، إلا أنه حين رأى مكانها فارغًا استدعى زونارو، وطلب منه إعادة رسم هذه اللوحة من جديد، لكن زونارو هذه المرة أخذ في اعتباره ملاحظات منير باشا التي ذكرها من قبل؛ فأجرى بعض التعديلات على اللوحة؛ إذ استغنى عن الطفل عاري القدمين وعن الغجريات والبدو، واستبدلهم برسم رجال من إسطنبول في غاية الأناقة، علاوة على أنه أضاف رسم نفسه وزوجته، وقد نقلت هذه اللوحة في السنوات التالية من قصر يدليز إلى قصر دولما باهجه(15).
لوحة للسلطان عبد الحميد لأول مرة
أصبح زونارو رسام القصر إلا أنه لأسبابٍ ما لم يتمكن من رسم صورة للسلطان عبد الحميد؛ إذ قيل له أن هذا الأمر ممنوع، ولأنه لم يستطع أن يفهم سبب هذا المنع فقد أراد أن يريح باله من التفكير في هذا؛ فكتب رسالةً إلى السلطان عبد الحميد عبَّر له عن رغبته في رسم صورة له. وبينما كان عبد الحميد يسترخي في غرفته بقصر بكلزبكي صباحًا بعد أداء صلاة الفجر في ظل أجواء الربيع الصافية الهادئة، تذكر رسالة زونارو فارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة، والحقيقة أن زونارو استطاع بأسلوبه الذكيّ وبتلك العبارات التي ذكرها في خطابه إقناع عبد الحميد برسم صورة له، حيث ذكر في خطابه:(16)
«إن جدك العظيم السلطان محمد الفاتح استدعى الرسام البندقي جنتيلي بلليني إلى قصر إسطنبول بواسطة دبلوماسي جمهورية البندقية كي يرسم صورته، وأنا أيضًا من أهالي البندقية، وفي خدمتكم دائمًا؛ فأرجو من فخامتكم إظهار الرضا والقبول عن طلبي(17) ».
وقد قبل عبد الحميد طلب زونارو بالفعل؛ فأمره خلال إعلان المشروطية الثانية أن يرسم صورته بثلاثة أوضاع مختلفة، وقد وقف السلطان عبد الحميد في الصورة الثالثة بضع دقائق فقط، وبالتالي ظهر وجهه مقطب الحاجبين يبدو عليه القلق(18).
الأسلوب الفني لزونارو وأشهر لوحاته
اعتاد الفنان الذي لم يمل من إسطنبول أبدًا أن يأخذ لوحاته تحت ذراعه ويدخل في أعماق الطبيعة كل يوم من أجل العيش في قلب تلك المناظر الرائعة(19). استخدم زونارو الأسلوب شبه الإنطباعي في إظهار سحر المدينة التركية التي فتنته وأثارت جنون فنه، وهو في ذلك لم يتخذ أسلوبًا مستحدثًا، فقد كان هذا هو الأسلوب المتّبع في إظهار سحر المدن وإبراز مفاتنها كما كان الحال مع مدينتيّ لندن وباريس في هذه الفترة الزمنية. لذلك، يرى الكثيرون أن هناك العديد من الفنانين الذين تعاقبوا على القسطنطينية، لكن لم يستطع أحد كزونارو أن يصورها كما فعل هو، فقد رسم صور متنوعة لها بتنوع التركيبة السكانية بها، وسجّل كل لحظة سكون لها قبل حديثها.
فقد رسم لوحات للدراويش وشيوخ الطريقة الرفاعية، ومراسم توديع موكب الصُّرَّة إلى الحجاز، واحتفال العاشر من محرم الذي يقوم به المسلمون الشيعة، والمساجد ومآذنها، والمارة وأحاديثهم، والصيادين ومراكبهم، ومضيق البوسفور الذي كان يعشقه، هذا إلى جانب اللوحات التي تحفل بالأحداث التاريخية مثل: الحرب التركية-اليونانية، ولوحة السلطان محمد الفاتح التي طلب منه السلطان عبد الحميد أن يقوم برسمها، وهي غير تلك التي رسمها الفنان بلليني من قبل للفاتح.
لقد اكتسب زونارو شهرة بالغة؛ بفضل العديد من الأعمال الخياليّة الموجودة في الفصور التركية والفخمة، إلى جانب إتقانه في تصوير مختلف الشخصيات والمناظر الطبيعية في إسطنبول، وبفضل تلك البراعة عُرف برسام البوسفور، ورسام الأعمال البطولية، ورسام الصور المشرقة(20).
وتكريمًا لعطائه الفني وأعماله الغزيرة؛ أهداه السلطان عبد الحميد منزلًا خاصًا له، إلى جانب حصول ابنه على منحة دراسية، وقد كانت هذه رغبة زونارو التي لبَّاها له السلطان تقديرًا له.
رحيل مبكي عن إسطنبول
لم تكن نهاية القصة سعيدة كبدايتها، فالحماس انطفأ، والتقدير زال، والحال تغيرت، والمشاعر تجمَّدت، وإن كان ظل الحب موجودًا. فقد كان رحيل فاوستو زونارو عن تركيا مؤسِفًا.
ففي أعقاب هجوم الإيطاليين على تريبوليتانيا (ليبيا حاليًا) في عام 1911م، سادت حالة من الارتباك في تركيا؛ فلم يقتصر الأمر على الاحتجاج بشدة على هذا الغزو، بل امتد إلى قرارٍ ينص على طرد جميع الأشخاص ذوي الأصول الإيطالية، وكان معلمو أكاديمية الفنون وزونارو من بين هؤلاء، حيث لم يشفع للأخير منصبه كرسام للبلاط ومُعلِّم لولي العهد الأمير «عبد المجيد» في الاستثناء من هذا القرار، حيث حدث كل ذلك في الوقت الذي كان فيه زونارو على موعد للحصول على لفب باشا واستعداده بفتح معرض خاص احتفالًا بهذا اللقب(21).
تم منح زونارو مهلة قدرها ثلاثة أيام لمغادرة إسطنبول، فاضطر سريعًا إلى بيع حوالي ثلاثمائة لوحة من أعماله التي كانت في معرضه الذي يشبه المتحف، وغادر زونارو مع دموعه. واختار مدينة «سان ريمو» للإقامة بها حيث يشبه بحرها إلى حد ما ذلك الموجود في إسطنبول، وظل يرسم بحنين شديد صور البوسفور من ناحية، ومن الناحية الأخرى يرسم لوحات بوهيمية(22).
لم يعد فاوستو زونارو مرة أخرى إلى إسطنبول، ولكنه لم يكن بحاجة إلى زيارة أخرى، فالمدينة قد استوطنته بسحرها الذي ظل عالقًا في مخيلته وتفكيره، وكذلك ريشته إلى أن توفي في 29 يوليو 1929م، ليصبح فاوستو زونارو الذي كان مشهورًا للغاية منسيًّا مثل السلاطين والأمراء الذين رسمهم.
معارض زونارو الفنية
شارك فاوستو زونارو في ثلاثين معرضًا مشتركًا بعد عام 1883م، كما أقام خمسة عشر معرضًا خاصًا به، أربعة من هذه المعارض أقيمت في إسطنبول، وكانت آخر هذه المعارض أثناء تجهيزاته لنيل لقب الباشاوية. بيعت ثلاثمائة لوحة له في آخر ثلاثة أيام أقامها في إسطنبول، وثلاثمائة آخرين في المعرض الذي أقامه ورثته بمدينة فلورنسا عام 1977م، وقد جذب هذا المعرض انتباه العالم الفني، فقد كان هناك قرابة مئتيّ عمل يعكسون تركيا التي شكلت مصدر إلهام عظيم لهذا الفنان(23).
ومازالت تحتفي تركيا ومتاحفها بأعمال هذا الفنان، كما توجد له أعمال شرقية رائعة في متحف قصر محمد علي بمنطقة المنيل بقاهرة مصر؛ حيث يعد المكان الوحيد الذي يضم لوحات له خارج الحدود التركية.
كان فاوستو زونارو فنانًا غزيرَ الإنتاج، حيث قُدّرت أعماله بنحو ألف لوحة خلال فترة إقامته في إسطنبول فقط، ويمكن لأي متذوق للفن وممارس له أن يرى تأثيراته الإنطباعية في اللوحات وأسلوبه الواقعي في رسوماته. كان زونارو رسام الحياة الذي كانت ريشته تشع ضوءًا لا ألونًا، كان موثقًا للتاريخ بلوحاته وليس مجرد فنان يخرج انفعالاته على الورق، كان ذلك المستشرق الذي جاء من بعيد مدفوعًا بحب نحو كل ما هو شرقي، فاستحق أن يكون مستشرقًا فريدًا من نوعه، وفنانًا يرى العالم جمال خطوط ريشته.
*قصر دولما باهجه: قصر الحكم العثماني والذي تم إنشاؤه ما بين عاميّ 1843م و1856م بأمر من السلطان عبد المجيد الأول، وظل مقرًا للحكم حتى عام 1924م. (المصدر)
إعداد: هدير جابر.
المصادر
1- سعيد، إدوارد. (2006). الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق، (ترجمة محمد عناني). القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع. (العمل الأصلي نشر في عام 1995م)، ص69.
2- Arat, G.B. (2017). Istanbul – Venice Convergence from Gentile Bellini to Bienalles, The Journal of International Social Research, Volume: 10, Issue: 50, PP 285-293.
3- Ibid, p. 286.
4- Ibid, p.286.
5- Toros, T. (1985). The Last Painter of Our Courts Zonaro, Istanbul Şehir University Institutional Repository, PP 36-38.
6- SÜZEN, Ö. Ü. H. N. Fausto Zonaro’nun Fircasindan Şehr-İ İstanbul, Social Science Development Journal, Volume: 3, Issue: 9, PP 157-169.
7- Toros, T., op.cit., p.37.
8- Ibid, p.37.
9- SÜZEN, Ö. Ü. H. N., op.cit, p.159.
10- Shaw, W. M. (2011). Where Did the Women Go?: Female Artists from the Ottoman Empire to the Early Years of the Turkish Republic. Journal of women’s history, 23(1), 13-37.
11- دومان، مراد، 2016، ذكريات السلطان عبد الحميد الثاني، ط1، القاهرة: دار النيل، ص135.
12- Toros, T., op.cit., p.37.
13- دومان، مراد، مرجع سابق، ص136.
14- نفس المرجع السابق، ص137.
15- نفس المرجع السابق، ص137.
16- نفس المرجع السابق، ص138.
17- نفس المرجع السابق، ص138.
18- نفس المرجع السابق، ص138.
19- Toros, T., op.cit., p.37.
20- Ibid, p.37.
21- Ibid, p.38.
22- Ibid, p.38.
23- Ibid, p.38.