وسط عنفوانه وغمرة السعادة التي تنعكس وميضًا بلوريًا على نافذتي حدقتين مفعمتين
بالشغف؛ وصف الموسيقي الإنجليزي (بِنـﭼامين زاندر- Benjamin Zander) في خطابه
ضمن فعاليات مؤتمر Tedx(1) معنى أن تكون النوتة الموسيقية (النغمة الموسيقية المنفردة)
بمثابة إيماءةٍ تعبيرية تكتمل بـ الأخرى وتكمل بها مسارَ المعنى والتيار الشعوري المتدفق عبر
المقطوعة الموسيقية؛ لتصبح مجموعة من النوتات الموسيقية في النهاية هي بمثابةِ سيمفونيةِ
تجسيدٍ إبداعي لـ معنى أو شعورٍ ما في أبهى حالاتِه.
فـ يقول زاندر عن نوتتين متتاليتين للبيانو وهما “B” و”C” : «إن مهمة النوتة “C” هو جعل
النوتة “B” تبدو حزينة» وهو ما تسرَّب شعوريًا إلى الجمهورِ بالفعل عندما قام بـ دمجِ وعزف
النوتتين على التوالي. فـ بدت النغمة الناتجة وكأنها عتابٌ مستنكرٌ حزين لشخصٍ أُصيبَ لتوّه
بـ شيءٍ من الخذَلان وهو يقول مستنكرًا: «هكذا إذن؟!».
فـ كل نوتةٍ لا تتعدى مدّتها الثانية الواحدة؛ يمكن أن تجسد البِكسِل الفارِق والمكمِّل لصورةٍ
حيّة لـ معنى قائمًا بـ ذاته..فـ تبدو النوتات وكأنها أبجديةُ لغةِ تواصلٍ تعبيرية من نوع خاص؛
نوع لا يعرف الإشارة إلى ذاتِه أو التصريحِ بـ المعنى؛ فـ هو في غنى عن ذلك؛ نوع يكتفي فقط
بـ تكوينِ المعنى ووجوده؛ واختراقِه لمساماتِ الكيان بـ سلاسةٍ وقوةٍ وهدوء..
ولهذا كنتُ أستشعر دائمًا النوتات الموسيقية وكأنها أصواتُ الكيانِ الشعوريّ في أنقى صورها
وأبهى مراحلِها الأولية التلقائية؛ التي لا تعرِف الانتقاء أوالمكاشفة الجزئية..
فقط.. تتجسد تمامًا كـ هيئةِ خلقتها الأولى؛ لـ أجد بعض العازفين يتوحّدون تمامًا مع آلاتهم
فـ يعزفون على أوتارِ أرواحِهم قبل أن تترجم أيديهم الصدى على أوتارِ آلاتهم..
لذلك شعرتُ وقد وجدتُ ضالتي حينما تعثّرتُ بـ وصفِ ﭼِبران خليل ﭼِبران للموسيقى بين
سطورِ أحدِ الكتبِ قائلًا: «الموسيقى ترسمُ أشباحَ أطوارِ القلبِ، وتوضحُ أخيِلةَ ميولِ النفسِ،
وتصوغُ ما يجولُ في الخاطرِ..فـ الموسيقى هي لغةُ النفوسِ.. وهي ابنةُ النفسِ والمحبةِ..
وهي رائحةٌ متصاعدة ٌمن طاقةِ زهورِ المشاعرِ المضمومة(2)».
فـ فكرة أن النوتة الموسيقية المنفردة هي مُضغةُ معنى ما يوشك أن يولَد في أحسنِ تقويم؛
هي أبجديةٌ شعوريةٌ بشكلٍ ما ..
هي فكرةٌ جديرة بالتأمل..
إذن فـ كلُ نوتةٍ أو مجرد نغمة تشكل فارق في المعنى الناتج؟!
هذا حقيقي تمامًا.
يتماثل الأمرُ مع الفرقِ المحوري في المعنى لـ كلماتٍ لها نفس التكوين الحرفي
عند إضافةأحدِ الأصوات فـ نجد مثلًا أن قليلًا من المد في كلمةِ “hell” الإنجليزية يمكن
أن يحيلها من «الجحيم» إلى «الشفاء» عندما تصبح “heal”؛ وكذلك اتساع فجوة الشفتين
لبضعة سنتيمرات واختزال المَدّ يمكن أن يحيل الصوت “I” إلى الصوت “e” لـ يشكِّل كل منهما
معنى مختلف كليًا عند اقترانهِ بالحروفِ ذاتِها كـ كلمتيّ “enter” و”inter”
فـ نجد الفرق المعنوي الناتج كـ مَثَلِ المفارقاتِ الحياتيةِ اليومية التي تحويها ضفتيّ هذا العالم
فـ في كلِ يومٍ تقررُ الأرضُ بَسط كفيها وإطلاقَ سراحِ أحدِ أرواح أبنائِها من البشر
ولكن تأبى أن تودّعه دون أن تستبقِي منه أثرًا
فـ تقررُ ضمَّ جسدهِ إليها وردَّه إلى جوفِ رحِمِها إلى الأبد..
فـي تجسيدٍ للمعنى “inter”.
وعلى ضفةِ العالمِ الأخرى تبسطُ الأرضُ كفيها أيضًا لكن لاستقبالِ روحٍ جديدةٍ
لـ مولودٍ جديد يخطو بـ رفقٍ أعتابَ العالمِ لتوّه.. فـ يتمثل المعنى “enter”.
لـ يتجسد جوهر الحياة في مفارقتها بين ضفتيّ الـ “enter” والـ “inter”
نعم..هو صوتٌ واحدٌ؛ قام بـ اختزال المسافة بين ضفتيّ القدومِ والرحيل..
في اللغة العربية يمكن لـ استبدالِ الفَتح بـ كَسرٍ لـ حرفِ الكاف في كلمة «كلام»
أن يتسبب في كسرِ المعنى أيضًا فـ يتحول من «حديث، خطاب» إلى «جِراح»
(كِلاَم؛ جمع كَلْم: وهو الجَرْحُ). ويمكن لإضافة ألِف لـ بداية كلمة «براح» أن تحيل
معناها من «الاتساع» إلى «الأذى والمشقة» عندما تصير «إِبراح».
ويتماثل الأمر كذلك مع اختلافِ طريقة نطق الحرف (الصوت) الواحد مع اختلاف اللغةِ
أو اللكنة؛ فـ نجد أن ملامسةَ طرفِ اللسان مع الأسنانِ العلوية الأمامية
يُنتج صوت “T” جيدًا على الطريقة البريطانية؛ بينما ينسحب اللسان بضعة سنتيمترات
منحنيًا قليلًا إلى الداخل لـ يلامس أعلى باطن الفم فـ يضيف بعضًا من نكهة الـ “R”
لـ يصبح لدينا صوت “T” على الطريقة الأمريكية.
وغير ذلك من الأمثلة اللامحدودة على مستوى اللغات واللكنات المختلفة.
فـ صوتٌ واحدٌ أو مجرد إِنش على مقياس الأصوات يمكن أن يشكل فارق في المعنى!
بل ويعبُر الحدودَ الجغرافيةِ من لغةٍ لأخرى؛ وهي السمة التعبيرية المشتركة بين الموسيقى
واللغات الكلامية؛ لذلك يحدث أن يجد المرء ضالته في أحد التعبيرات لـ لغةٍ ما دون سواها
فـ لا يمكن ترجمته أو موازاة معناه لـ لغةٍ أخرى؛ وإن حَدَث ينزلق جزءٌ من المعنى ولو بـ مقدارِ رُفاتٍ..
فـ يُطمَس معه أحد ملامحِ المعنى الأصلي.
في حديثِ ﭼِبران خليل ﭼِبران عن الرسام الإيطالي ليوناردو داﭬنشي يقول:
«لم أرَ قط عملًا لـ ليوناردو داﭬنشي إلا وانتاب أعماقي شعورٌ بـ أن جزءًا من روحهِ تسلّل إلى روحي»
للألوانِ تدرجاتٌ عظيمةٌ وهائلة؛ فـ يمكن أن تضم أعتاب لونين فقط مساحةً هائلة من التدرجات اللونية
التي تُضفِي كلٌ منها إشارةً ولمحةً تعبيريةً ما؛ وتعمل كـ مؤثرٍ شعوريّ بنكهةٍ خاصة عند إضفاؤها..
تتضمن لغة الألوان استخدام بعض التكنيكات التي تعمل كـ مؤثراتٍ فنيةٍ
لتجسيدِ وترجمةِ معانٍ ما..تعرف بعضها باسم «التباين المتزامن» و«تباين الطبقات اللونية».
عند استخدام لونين متكاملين** يقوم كلٌ منهما بـ إبراز الآخر فيما يعرف بـ «التباين المتزامن»
الذي أشارت له الكاتبة – والقائمة على اللوحات الفنية في متحف ﭬان جوخ في أمستردام –
(ماريا ﭬيليكوب- Marije Vellekoop ) في كتابها (Van Gogh at work)
كـ أحد أهم التكنيكات التي اعتمدها ﭬان جوخ في لوحاته.
ذكرت ﭬيليكوب أنه في أحدِ خطاباته لأخوه ثِيو،
تحدث ﭬان جوخ عن «تباين الطبقات اللونية» مستخدمًا اللونين (الأحمر) و(الأخضر) كـ مثال
فـ قال :«عند مَزج نِسَب متساوية من اللونين الأحمر والأخضر نحصل على لون رمادي
بينما ينتج عند مزج نِسَب غير متساوية من اللونين ذاتهما؛ إما لون رمادي يغلب عليه الأحمر
أو رمادي يغلب عليه الأخضر؛ فيما يعرف بالدرجات اللونية المنكسرة، والتي توهِن بعضها البعض
عند استخدامهم معًا. ورغم ذلك عند استخدام أحد الدرجات اللونية المنكسرة
(رمادي يغلب عليه الأحمر على سبيل المثال) مع أحد الدرجات اللونية الكاملة
(أحمر مثلًا)، يكون المؤثر الناتج هو التباين التناقضي(3)».
ومن أبرز لوحات ﭬان جوخ التي نجحت كـ نموذج لتكنيك التباين المتزامن هي لوحة
(Head of a woman) وذلك وفقًا للدرجات اللونية الخفيفة من الأزرق الداكن في
خلفية اللوحة والتي تبرز التباين مع غطاء رأس السيدة الأحمر وفستانها الأخضر
إلى جانب درجات الأصفر والبرتقالي في شعرها(3).
ووفقًا لما ذكره الكاتب الأمريكي (ﭽول سويردلو- Joel Swerdlow)
مؤلف كتاب (Vincent van Gogh: lullaby in color) :
«تعد لوحة (The potato Eaters) أحد أبرز أعمالِ ﭬان جوخ العبقرية
يرجع ذلك لـ تمكنهِ من استخدامِ الألوانِ بـ براعة.. حيث درجات الأسود
والبني ليست في الواقع كما تبدو ولكن، كـ مثل جميع الألوان المستخدمة في اللوحة
تكونت عن استخدام مزيج من الألوان الأولية (أحمر، أصفر، أزرق).
فـ تبدو درجاتُ الأحمر والأخضر في حالةِ صراعٍ..وحتى الظلال تتميزُ بدرجاتٍ
لونيةٍ خاصة؛ متشبعةً بـ الطاقة، تسربُ الانفعالَ الشعوري إلى الرائي،
وتنفَذُ إلى بل وتجسدُ ما خلفَ حدودِ الرؤية».
الألوان.. بـ درجاتها الهائلة والمتباينة تتحدثُ بـ مؤثراتٍ ما وتحملُ وتسربُ طاقةً شعوريةً
جسدت دورًا ما على مسرحِ الكيانِ الشعوري الإنساني المضطرم دومًا حتى في أكثرِ حالاتِه سكونًا..
وتساهم أيضًا في تجسيدِ معانٍ كامنةٍ بين زوايا هذا الكيان وتسلطُ الأضواءَ عليها حينًا
وتسدلُ الستارَ حينًا..
فـ ليس من الغريبِ إذن أن يأتي ﭼِبران ويشعرُ بـ طيفِ روحِ داﭬنشي الأثيري
يخترقُ كيانَه بـ مجردِ تأملِ لوحاتٍ تحدَّثت من خلالها فرشاةُ داﭬنشي قبلَ أربعةِ قرونٍ مضت..
استطاعت تلك اللوحات اختزال مسافةِ أربعةِ قرونٍ زمنيةٍ، تفصِلُ بين مداريّ حياتَيّ شخصين
لم يجمعهما يومًا لقاء؛ وأن تكون هي ذاكَ اللقاء..
في كلِ صوتٍ لُغوي؛ مع كلِ نغمةٍ موسيقية؛ وبـ إضافةِ كلِ درجةٍ لونية..
محتمل أن تكمن تفصيلةٌ هي جزءٌ من حكايةٍ ما كانت؛ أو ستكون..
أو ربما لم ولن تكون؛ لكنها نالت قدرَها من التجسيدِ والصدقِ
كافٍ لـ عدمِ الاكتراث لـ إمكانيةِ مرورِها معبر الواقعيةِ الأرضية..
تفصيلةٌ من المحتمل أن تأتي بـ شمسِ تلكَ الحكايةِ من المغرِب..
الأوتار والنوتات؛الحروف والأصوات؛ الفرشاة والألوان..
جميعهم أدواتُ تعبيرٍ وتواصل.. نوافذٌ تستعيدُ فيها الروحُ انتظامَ أنفاسِها اللاهثة..
منافذٌ تنطلق من خلالها متخطيةً حدودَ الأرض..
انبعاثات أحاديثٍ ومعانٍ أثيرية سابحة في فلكِ مجرةٍ مركزها أنت.. وفقط.
نهرٌ رائقٌ يعكسُ دواخلِ النفسِ بـ صدقٍ وتشرقُ عليهِ شمسُ الروحِ
فـ تنعكسُ وميضًا متلألئًا متناثرًا في كلِ أرجاءِ النفسِ وزواياها الخبيئة.. المرتجفة..
فـ يسري في وريدِها إكسيرٌ للشفاء..
إكسيرٌ للحياة..
(*) (أمبروزيا – Ambrosia) تعود أصولها إلى الكلمة اليونانية (ἀμβροσία) والتي كانت تُطلق في الميثولوﭽيا
الإغريقية على طعام أوشراب مخصص لـ آلهة الإغريق زُعِم بـ أنه الإكسير الذي يمنحهم أبدية الحياة..
(**) تتكون دائرة الألوان بشكل أساسي من ألوان أولية (أحمر، اصفر، أزرق)، وألوان ثانوية
(تنتج عن مزج الألوان الأولية وهي (أخضر، بنفسجي، برتقالي). تسمى الألوان المتقابلة على دائرة الألوان
(الألوان المتكاملة- complementary colors)؛ يكون أحد الألوان المتكاملة لون أولي(أحمر، أصفر، أزرق)
بينما يكون الآخر هو لون ثانوي ناتج عن مزج اللونين الأوليين الآخرين؛ فـ مثلاً اللون الأولي (الأصفر) يكمّله
ويقابله على دائرة الألوان اللون الثانوي (البنفسجي) الذي ينتج عن مزج اللونين الأوليين (الأحمر) و(الأزرق).
كتابة وإعداد: آلاء محمد مرزوق
المصادر:
- The transformative power of classical music | Benjamin Zander https://goo.gl/O4Ddl
- المرعي, فؤاد. جبران خليل جبران. مركز دراسات الوحدة العربية, 2012.
- Vellekoop, Marije. Van Gogh at work. New Haven and London: Yale University Press, 2013. Print.