أناكسيمانس (Anaximenes)، آخر ثلاثيّ المدرسة الميليسيّة/الملطيّة الشّهيرة (Milesian School)، مدرسةٌ طُرحت فيها أصعب الأسئلة الّتي ما زالت تراودنا حتّى اليوم ونوقشت، حتّى وإن لم يجَب على تلك الأسئلة بالشّكل الأمثل، فقد كانت هناك أهمّيّةٌ ووقعٌ لطرحها ونقاش الطّرح وكيفيّة دراسته، فنجد برتراند راسل (Bertrand Russel) يتكلّم عنها قائلًا:
«إنّ المدرسة الملطيّة لا تكتسب أهمّيّتها ممّا أنجزته، ولكن ممّا حاولته. مدرسةٌ جاءت للوجود من خلال اتّصال العقل اليونانيّ بالمصريّ والبابليّ.»
ولذا فبكلامنا عن أناكسيمانس اليوم نكون قد تكلّمنا عن ثالوث تلك المدرسة في ثلاث مقالاتٍ، وهم الّذين يعتبرون مهد وبداية الفلسفة الغربيّة، وعند البعض بداية الفلسفة عمومًا.
هم كذلك أوّل الفيزيائيّين أو الطّبيعانيّين كما تكلّمنا سابقًا، فجلّ تركيزهم كان حول ماهيّة الكون والمادّة الأولى والطّبيعة في العموم، أكثر من انشغالهم بمسائل الأخلاق والقيم وغيرها من الأمور.
حياة أناكسيمانس
وفقًا لثاوفرسطس (Theophrastus) -مفكرٌ إغريقيٌّ تلى أرسطو (Aristoteles)-، وُلد أناكسيمانس عام 590 ق.م لأبٍ اسمه يوريستراتوس (Eurystratos)، ويرجّح أنّ وفاته كانت في عام 526 ق.م.
كان أناكسيمانس صديقًا وتلميذًا لأناكسيماندر (Anaximander)، ذاك نفسه من كان تلميذ طاليس (Thales)، فهو حلقةٌ أخرى في سلسلةٍ من المفكّرين يكملون وراء أساتذتهم ولا يخافون أن يخالفوهم. بل قد ينالون من الشّهرة ما يفوق أساتذتهم.
فكما سنجد، فمن ظهر أناكسيمانس ظهر لنا فلاسفةٌ ومفكّرون آخرون مميّزون، من أشهرهم فيثاغورس (Pythagoras) الّذي تأثّر بفلسفته وإن لم يكن كلّ ذلك التّأثير إيجابيًّا، وكذلك تأثّر فريقٌ آخر وهم الذّرّيّون. ويحضر بخصوص ذلك ما كتبه برتراند راسل قائلًا:
«كانت منزلة أناكسيمانس عند القدماء أعلى من منزلة أناكسيماندر مع أنّ العالم الحديث يكاد يجمع على عكس ذلك؛ وقد كان لأناكسيمانس أثرٌ هامٌّ في فيثاغورس كما كان قويّ التّأثير في جانبٍ كبيرٍ من التّفكير الفلسفيّ الّذي ظهر بعد ذلك، فعلى الرّغم من أنّ الفيثاغوريّين قد اهتدوا إلى أنّ الأرض كرويّة الشّكل، فقد اعتنق الذّرّيّون مذهب أناكسيمانس في أنّ الأرض على شكل القرص المستدير.»
أفكاره
اختلف أناكسيمانس مع أستاذه أناكسيماندر (Anaximander) في أنّ أصل الأشياء هو الهواء، مقاربًا فكر طاليس (Thales)، في أنّ الأصل هو موجودٌ نعرفه وإن اختُلف حول ماهيّته. ولكن بيْد أنّ طاليس كان يرى الماء هو الأصل، رأي أناكسيمانس أنّه الهواء. وذلك في مقابل أناكسيماندر الّذي اعتقد أنّ الأصل شئٌ غير متناهٍ وغير محدّدٍ.
ففي لحظةٍ ما، لم يكن هناك سوى الهواء، وهو محايدٌ موجودٌ في كلّ الكون ومشاركٌ في كلّ عمليّاته، وقوى الطّبيعة تعمل من خلاله لتظهر باقى الموجودات.
فكما شرح كلامه يوسف كرم، نجد أنّ من تخلخل الهواء كانت النّار، ومن تكاثفه الرّياح والسّحب فالمطر، فيرى أنّ أكثر ما يميّزه هنا هو محاولته للذّهاب إلى الوحدة والبساطة. ونعرف أنّ ذلك هو ما أتمّه ديمقريطس (Democritus) فيما بعد ليصل إلى مفهوم الذّرّة كما طرحها.
ويري آخرون أنّ أكثر ما يميّز طرحه هو اقتراحه وتركيزه على أنّ قوى الطّبيعة (من تكثيفٍ وتخلخلٍ) تلعب دورًا هامًّا في وجود العالم وعمله، ومحاولته التّدليل على ذلك بأدلّةٍ إمبريقيّةٍ وتجربةٍ يمكن تكرارها؛ فقد كان مثلًا يستدلّ بكيفيّة تغيّر حرارة الهواء عند النّفخ في اليد بقوّةٍ أو بفمٍ مسترخٍ.
وفي تركيزه على الهواء وبحثه فيه تمكّن من الوصول إلى كثيرٍ من الأفكار المميّزة، مثل تفكيره بخصوص ظهور قوس قزحٍ كتأثيرٍ من أشعّة الشّمس على الهواء المضغوط.
كتاباته وتأثيره
لم يصلنا لأناكسيمانس كتاباتٌ بعينها، ولكن يظلّ تأثيره ملحوظًا، حيث عرفناه وعرفنا أفكاره من كتابات من تلوه وتأثّروا به. فنجد ممّن طوّروا أفكاره وأكملوا عليها كان هيراقليطيس (Heraclitus)، وتبنّى بعضها أناكساجوراس (Anaxagoras)، وممّن ناقشوا أفكاره وانتقدوها بارمنيدس (Parmenides)، وذكره وذكر أفكاره عمومًا. وقد عاصر كثيرين من كبار المفكّرين مثل أفلاطون (Plato) وميليسوس (Melissus) وديوجانس (Diogenes).
في العموم كان أناكسيمانس جزءًا من مرحلةٍ مبكّرةٍ نكاد ننهيها، وهي المرحلة الّتي ينسب إليها بدء الفلسفة الغربيّة. وهي مرحلةٌ لها الكثير من الفضل علينا وعلى التّاريخ الإنسانيّ ككلٍّ. فالفكر البشريّ يستفيد ممّا قبله ويبني عليه، وكان الفكر الفلسفيّ هو الممارسة الأكبر والأشهر للفكر وللتّفكير في الفكر. فنجد مثلًا أعظم لحظات العرب بدأت بترجماتٍ لكتب الفلاسفة والاستفادة منها لاستكمال المسار والرّحلة الإنسانيّة المهيبة والعظيمة.