الحرب البونيقية الثانية بين قرطاج والجمهوريّة الرّومانيّة الّتي امتدّت بين (218-202) قبل الميلاد، كانت الحرب الثّانية بين ثلاثة حروب بونيقيّة. بعد الحرب البونيقيّة الثّانية، دُمِّرَ كلا الجانبيْن. لكن قرطاج كانت في وضعٍ أسوء، فلم يعانوا فقط من خسائر اقتصاديّة فادحة نتيجةً لتوقّف تجارتهم البحريّة، ولكن أيضًا كان عليهم قبول الشّروط المكلّفة للاستسلام.
إحكام القبضة على شبه الجزيرة الإيبيرية
قرطاج كانت بحاجة لتحسين اقتصادها الضّعيف، بعد تلقّيها ضربة قاسية بخسارة جزيرة صقليّة. وكان الحلّ لهذه المعضلة هو التّوسّع العسكريّ للسّيطرة على موارد شبه الجزيرة الإيبريّة. كانت المدن الواقعة في جنوب هسبانيا خاضعة لسيطرة قرطاج. وأنشأ هانيبال (حنبعل بن حملقار برقة) تحالفًا مع القبائل في غرب الجزيرة الإيبيريّة بمساعدة مهاراته الدّبلوماسيّة.
الحرب في إيطاليا
لم يستطع القرطاجيّيون مواجهة الرّومان في البحر، بسبب تفوّقهم البحريّ. نتيجةً لذلك انطلق هانيبال إلى شبه الجزيرة الإيبيريّة عن طريق إيطاليا من خلال جبال الألب. قاد هانيبال جيشًا يُقدر ب(100.000) جنديٍّ شمالي إفريقيّ وإيبريا خلال جنوب فرنسا وعبر جبال الألب في عام (218) قبل الميلاد. وكان غزوُه لإيطاليا مفاجأةً. وفي الرّبيع وصل لشمال إيطاليا بجيش يُقَدَّرُ ب(40.000) جنديٍّ.
- وحاول الرّومان بقيادة (سيبيو – Scipio) مهاجمته بينما لم يكن مستعدًّا، ولكن صدّهم سلاح الفرسان. وعبر فرسان هانيبال النّهر وهزموا الجيش الرومانيّ في معركة (تريبيا – Battle of Trebia). وانسحب الرّومان، تاركين هانيبال باسطًا سيطرته على شمال إيطاليا. حيثُ خطّطّ الرّومان للإيقاع بهانيبال، ولكن تفاجئوا تمامًا بأنّه قد نُصِبَ لهم كمينٌ في (معركة بحيرة تراسمانيا – the battle of Lake Trasimene) -وهي واحدة من أكبر هزائم الرّومان- حيث أُطيح بهم وهُزموا.
وعلى الرّغم من النّصر ونصيحة الجنرالات له، إلّا أنّ هانيبال لم يَسع لحصار روما؛ وذلك لعدم وجود المعدّات الكافية، وأيضًا لم يكن لديهم قاعدة للإمداد في وسط إيطاليا. ولكنه ذهب إلى جنوب إيطاليا بأمل إشعال تمرّد بين المدن اليونانيّة في الجنوب، والّذي سيُمكّنه من الحصول على موارد اقتصاديّة أكثر لهزيمة روما.
قرّر (كوينتس فابيوس ماكسيموس – Quintus Fabius Maximus) -الذي سُمِّيَ بالدّيكتاتور الرّومانيّ- أنّ أفضل شيءٍ سيكون تجنّب أيّ حروب قادمة؛ وذلك بسبب تفوّق سلاح الفرسان القرطاجيّ. بدلًا من ذلك حاول قطع خطّ إمدادات هانيبال، مدمّرًا الحقول ومضايقًا جيشه. وتُعْرَفُ هذه العمليات الآن باسم (استراتيجيّة فابيوس – Fabian tactics). وسخّر الرّومان استراتيجيّة فابيوس، لتقسيم الجيش لقوّاتٍ صغيرةٍ موضوعةٍ في أماكنَ حيويّة، وتجنّب محاولات القرطاجيّين لإغرائهم للدّخول في حروب ضارية. وقد نهضَ الرّومان من اللّاشيء مرةً أخرى في بداية عام (211) قبل الميلاد.
قرّر الرّومان عكس مسار الحرب؛ ولذلك أرسلوا جيشًا كبيرًا لحصار مدينة (كابو – Capua). وقد أَجبر هانيبال الرّومان على رفع الحصار، ولكن لم يستطع البقاء في المدينة نتيجةً لنقص الإمدادات. ولكن بعد رحيل هانيبال، عاد الرّومان لحصار المدينة من جديد، حيث حاصروها كليًّا بخندق مزدوج. وصُدَّتْ هجماتُ هانيبال الّتي كانت من المفترض أن تجبرهم على رفع الحصار. وقد زحف هانيبال إلى روما، ووصل إلى بوابات المدينة، ولكن التّحصينات القويّة والفيالق الأربعة أجبرته على وقْف هجومه، بالإضافة إلى أنّ الفيالق الّتي حاصرت كابو لم تغادر موقعها. ولذلك اضطُرّ هانيبال إلى مغادرة المدينة تحت رحمة الرّومانيين. ومهّد سقوط كابو إلى استعادة المدن الرّئيسيّة لجنوب إيطاليا الّتي سَيطر عليها القرطاجيّون.
الغزو الروماني لإفريقيا
قرّر سيبيو -القنصل المنتخب لعام (205) قبل الميلاد- الهجوم على قرطاج مباشرة، مستغلًّا التّفوّق البحريّ الرّومانيّ. وبمجرّد أن رسوا في إفريقيا عام (204 قبل الميلاد)، وبدون أيّ معارضة من جانب الأسطول القرطاجيّ، وجد الرّومان حليفًا سيثبت لاحقًا مدى أهميّته، وهو ملك (نوميديا الشّرقيّة ـ Oriental Numidia)، الّذي جرّده عدوُّه اللّدود حليف قرطاج من عرشه.
بدأ الرّومانيّيون هجومهم في عام (202 قبل الميلاد). جمع كلٌ من القرطاجيّين والنّوميديين ما تبقّى من احتياطاتهم في مواجهة سيبيو. وانتهت (معركة زاما – The battle of Zama) بنصرٍ تامٍّ لروما، وأُجبرت قرطاج على الدّخول في مفاوضات للسّلام. وتُعَدُّ معركة زاما أول هزيمة كبيرة لهانيبال في مسيرته الحربيّة.
نهاية الحرب
قرّر هانيبال بنفسه بدأ مفاوضات مع روما لأنّه أدرك أنّ استمرار الصّراع غير مُجدٍ. ومن الشّروط القاسية الّتي فرضها الرّومان على قرطاج هي: التّخلي عن كلّ ممتلكات قرطاج الّتي تقع خارج قارّة إفريقيا، ومنع إعلان حروب جديدة من غير موافقة الرّومانيّين، والالتزام بتسليم كلّ الأسطول الحربيّ، ودفع (10.000) تالنت من الفضّة أي ما يعادل حوالي (260.000) كيلوجرام في 50 عام، والإبقاء على احتلال القوّات الرّومانيّة لإفريقيا لمدّة 3 شهور، وتسليم مائة رهينة من اختيار سيبيو، وذلك لضمان الامتثال للمعاهدة.
وقد قبل هانيبال شروط روما لكي يتركوه وشأنه، بينما يساعد قرطاج على استعادة قوّتها. وقد أُبرمت المعاهدة بواسطة مجلس الشّيوخ القرطاجيّ والرّومانيّ. وقد هبطت قرطاج إلى دولة من الدّرجة الثّانية بسبب الشّروط القاسية الّتي فرضتها روما، وذلك على الرّغم من أنّهم تركوها كدولة مستقلّة.
وقد اعتقدَ القرطاجيّيون بأنّ روما هي دولة همجيّة بثقافة حربيّة. ولكن بدأت روما بالفعل لكي تصبح شيئًا آخر، كانت تصبح إمبراطوريّة. وقد قيل أنّ الحرب البونيقيّة الثّانية كانت حربًا بين رجلٍ ودولة، أكثر ممّا كانت حربًا بين دولة ودولة، كما كان معتادًا عليه في السّابق. حيث إنّ هانيبال وعائلته، وبدعم صغير من مدينتهم حافظوا على الحرب لمدّة أكثر من (20) عامًا؛ وذلك بفضل المناورات الاستراتيجيّة الذّكيّة والمُتقنة وهي: نقل مركز العمليّات إلى المعسكرات الإيطاليّة، وتدمير كلّ من بدأ المعركة. وقد دفعت هذه الحرب روما إلى أقصى إمكانيّتها، ولكنها أدّت إلى إنشاء إمبراطوريّة رومانيّة عظيمة.