من رحم المعاناة يولد الأمل، لا يمكن أن نجد جملة أدق من تلك لوصف ما قدمته الكاتبة آني إرنو – Annie Erneaux- للمجتمع الفرنسي وتحديدًا لسيدات الطبقة العاملة، الذين اضطروا لإجراءات خطيرة بسبب منعهم عن حقوق حرية الإنجاب؛ لذلك ما قد يفرق آني عن أي كاتبٍ آخر حصد جائزة نوبل في الأدب لهذا العام، وذلك لشجاعتها الأدبية وقوة كتابتها التي كانت كافية لتغيير واقع كان لا يبدو أنه قد يتغير.
جائزة نوبل في الأدب
مُنِحت جائزة نوبل في الأدب للمرة الأولى في عام 1901 وكانت من الفروع الأصلية للجائزة منذ انطلاقها، وجاءت أول جائزة من نصيب الشاعر الفرنسي رينيه سولي برودوم. وفي هذا العام منحت الأكاديمية السويدية جائزة نوبل في فرع الأدب للكاتبة الفرنسية صاحبة الـ82 عامًا، وتقدر الجائزة بعشرة ملايين كرونة سويدية (ما يعادل 914 ألف دولار).
وفي حيثيات فوز الكاتبة الفرنسية آني إرنو بالجائزة قالت اللجنة من الأكاديمية السويدية إن إرنو حصدت الجائزة لـ«شجاعتها وبراعتها التحليلية باستكشاف الجذور والانفصال عن القيود الجماعية للذاكرة الشخصية». وأشارت اللجنة أن الكاتبة تؤمن بقوة التحرر للكتابة، فأعمالها الأدبية تتسم بالصلابة وكُتِبت بلغة بسيطة ونقية. كما ذكرت اللجنة أن الكاتبة استطاعت بشجاعتها وبراعتها التحليلية أن تكشف الألم الناجم عن الانتماء للطبقات الاجتماعية ووصف الشعور بالعار والإذلال والغيرة والعجز عن رؤية الشخص لنفسه، بطريقة مثيرة للإعجاب ومخلصة.
ابنة من الطبقة العاملة
ولدت إرنو في منطقة النورماندي بفرنسا عام 1940 لأسرة من الطبقة العاملة، ورغم ذلك حظت بدعم من والدها دائمًا ولذلك لم تكن طفولتها بها ما قد يؤجج موهبتها الأدبية الدقيقة، لكن مع الوقت بدأت إرنو التعرض لفتيات الطبقات المتوسطة والعليا، مما أشعل بداخلها الدهشة والشعور بالظلم بل والسخط على التفرقة الطبقية في المجتمع الفرنسي.
لكن ما أطلق الموهبة فعلًا حادثة إجهاض غير شرعية تعرضت لها، حيث كانت الشرارة لأول أعمالها الكتابية في 1974 بعنوان «الخزائن الفارغة» والتي غيرت قانون حرية الانجاب بعدها بسنة واحدة فقط لتُمنح النساء من الطبقة العاملة حقوقًا مساوية للطبقات الاخرى فيما يخص هذا الحق.
التأريخ الشخصي والتحرر بالكتابة
تتطرق الكاتبة الفرنسية، آني إرنو، في أعمالها إلى خلفيتها القروية التي تظهر في مشروعها الروائي منذ بدايته. وتتسم أعمال إرنو بمحاولتها توسيع حدود الأدب ليصير ما وراء الخيال والمشهد الضيق. وعلى الرغم من أسلوبها الكلاسيكي المميز كانت دائمًا ما تُعلن عن نفسها بصفتها تستكشف وتؤرخ لذاتها أكثر من كونها كاتبة أدبية، حيث تأثرت الكاتبة الفرنسية بمواطنيها الأديب مارسيل بروست وعالم الاجتماع بيير بورديو.
جاءت بداية آني في الأدب من خلال كتابها «الخزائن الفارغة» المنشور في عام 1974 وبهذا العمل وضعت إرنو أولى خطواتها في عالم الكتابة من باب السير الذاتية والمذكرات، اللتين سيظلان مميزين لأعمالها الأدبية. وفي العمل الأول تستكشف الكاتبة خلفياتها مع مدينة نورمان التي ولدت بها.
و تنتهج آني أسلوبًا يعتمد على الكتابة الواضحة كما تحمل كتاباتها ولغتها بعدًا سياسيًا. فدائمًا ما تُظهر كتابات آني شعورًا بالخيانة ضد الطبقات الاجتماعية التي انتقلت منها، وترى إرنو الكتابة باعتبارها فعلًا سياسيًا تفتح عيون القراء والناس على الظلم الاجتماعي. وبالنسبة إلى إرنو فإن اللغة «سكين» يمكنها أن تشق حجاب الخيال، وفي هذا التطلع الذي يبدو صارمًا وبسيطًا في الوقت نفسه طموح يرمي لإظهار الحقيقة يجعلها تعد وريثة لجان جاك روسو.
تتعامل الكاتبة الفرنسية مع الكتابة باعتبارها سلاحًا للتعبير عن النفس بحرية، إذ تصف الكتابة على لسانها في أحد كتبها قائلة: «أريد دائمًا أن اكتب نوعًا من الكتب من المستحيل الكلام عنه فيما بعد، كتابًا يصير من المستحيل لي بعده أن أُطالع أي شخص». وما يميز أعمال إرنو أن كتبها خلال مشوارها الأدبي الذي امتد لما يقرب من 50 عامًا نابعة من الملاحظة والذكريات الخاصة بأحداث حقيقية، فكل شيء في أعمالها الأدبية دقيق وواقعي وكأنها تؤرخ للفترة والحدث اللذين تكتب عنهما.
أعمال بارزة
كانت الانطلاقة الأدبية الحقيقية لآني إرنو مع كتابها الرابع «المكان» الصادر في عام 1983 حيث قدمت فيه صورة شخصية رصينة لوالدها ولكافة المحيط الاجتماعي الذي شكله، وفي الكتاب تمكنت آني من تقديم كتابة للسير الذاتية بخطوة أبعد عن العالم الخيالي للأدب.
ثم توالت بعدها أعمالها الأدبية التي استخدمت أسلوب المذكرات وكانت بمثابة مزيج بين السير الذاتية والدراسة التشريحية للأوضاع الاجتماعية والشخصية الرئيسية لأعمالها، ومن بين أبرز أعمالها الأدبية.
إمرأة – Une Femme: صدر الكتاب في عام 1987 وفيه ترسم الكاتبة لوحة قصيرة عن والدتها وأظهر الكتاب ملامح بارزة عن طبيعة كتابات إرنو التي تنتقل بين الأدب والاجتماع والتاريخ.
عار -La honte: يعد الكتاب الصادر في 1996 إعادة تشكيل للصراع الذي ظل مصاحبًا للكتابة الفرنسية في ماضيها.
السنوات Les années : صدر الكتاب في عام 2007 ويعد الكتاب المشروع الأكثر طموحًا للكاتبة الفرنسية وحازت من خلاله على شهرتها العالمية، وفي هذا الكتاب مزجت الكاتبة بين السرد الشخصي لليوميات مع الذاكرة الجمعية لشخص ثالث متعمقة في قوة روح العصر على حياتها لتعرض تأثر حياتنا بالقصص التي يحكيها الآخرون.
One Response