يقول برتراند راسل في الفصل الذي يتحدث فيه عن «فيثاغورس» في كتابه الشهير «تاريخ الفلسفة الغربية»:
كان فيثاغورس من أهم من شهدت الدنيا من رجال من الوجهة العقلية، وهو بهذه الأهميّة كلها في كلتا حالتيه: حين أصاب وحين أخطأ على السواء، فالرياضة بمعنى التدليل القياسي القاطع، تبدأ بفيثاغورس، وهي عنده مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بصورة عجيبة من التصوف، ولم يزل تأثير الرياضة في الفلسفة، الذي يعزي إليه إلى حد ما، لم يزل منذ عهده حتى اليوم متصفًا بالعمق وبعدم التوفيق في آن معًا.
واضحٌ وجليٌ أنّه لا يوجد طالب على وجه الأرض لم يسمع بهذا الاسم مرتين على الأقل في الهندسة حيث تنسب إليه النظرية الشهيرة حول أطوال أضلاع المثلثات قائمة الزاوية.
كانت الروايات تطارد فيثاغورس وتلتصق به مثلما تلتصق برادة الحديد بالمغناطيس، فقد قيل على سبيل المثال أنّه ظهر في أماكن عدة في وقت واحد، وأنّ روحه قد تناسخت عدة مرات. فهو من بين من شهدهم التاريخ من رجال هو أشدهم استثارة للعجب والحيرة، فليس الأمر يقتصر على كون الروايات التي تُروى عنه خليطًا يكاد يستحيل على إنسان أنْ يفصل صوابه من باطله، بل إنّ الحقائق التي هي أقرب إلى الحق الصراح، وأبعد أجزاء تلك الروايات عن اختلاف الرأي تصور لنا نفسية غاية في العجب، فنستطيع أنْ نصف فيثاغورس وصفًا موجزًا فنقول أنّه مزيج من «آينشتاين» و«مسز إيدي»، فهو مؤسس ديانته، أهم اتجاه فيها هو مذهب تناسخ الأرواح وجعل أكل الفول خطيئة، كذلك نجده لدى شكسبير في مسرحية «الليلة الثانية عشر»:
المهرج: ماذا يقول فيثاغورس عن الطيور الجارحة؟
مالفوليو: يقول أنّ روح المرأة العجوز قد تسكن جسد طائر.
المهرج: وما رأيك في قوله؟
مالفوليو: إنني أقدّر للروح مكانتها ولكني لا أوافق على رأيه مطلقا.
المهرج: الوداع، ولتبق حيث أنت في الظلام. عليك أنْ تؤمن برأي فيثاغورس قبل أنْ تثق بعقلك، ولتخش قتل دجاجة على الأرض مخافة أنْ تضيع روح جدتك.
وحتى إذا ما نحينا المثلثات وفكرة تناسخ الأرواح جانبًا، بوسعنا القول إننا نجد فيثاغورس أينما استخدمنا تعبيرات حسابية. مثل «مربعات» أو «مكعبات» أو مررنا بالصور الشعرية لـ «الموسيقى السماوية»، أو حتى استخدمنا مصطلح «فلسفة» بالمعنى الشائع لحب الحكمة فهو أول من عبّر بهذا المصطلح تبعًا لما تواترت به الروايات، فقد نسب إليه أنّه قال «إنّ صفة الحكمة لا تُصدق على أي مخلوق بشري، وإنما الحكمة لله وحده، وإنما هو محب للحكمة وإنّه حسب الإنسان شرفًا أنْ يهوى الحكمة ويجد في طلبها». فهو أول من استخدم مصطلح «فيلسوف» بالمعنى الشائع لحب الحكمة الذي يسعى إلى أنْ يسمو فوق المنغصات الدنيوية. بل والأهم من ذلك أنّ أفلاطون نفسه قد صاغ بعض معتقداته الأشد تأثيرًا على هدى من أفكار فيثاغورس.
ولد فيثاغورس عام 570 قبل الميلاد وتوفي عن عمر يناهز سعبين عامًا، أي أنّه كان معاصرًا لإنكسيمانس، ورغم أنّه كان أيونيًا وولد في جزيرة «ساموس» التي تقع شمال غرب ملطية، إلا أنّه قد غادر موطنه واتجه نحو المستعمرات الإغريقية جنوبي إيطاليا عندما كان في الأربعين من عمره وقضى بها ما تبقى من حياته. ويقال أنّه قد زار مصر وقد ظفر منها بالكثير من حكمته. ورغم أنّه لا دليل قاطع على أنّه وأتباعه قد طُردوا من جزيرة ساموس فلا تأخذنا الدهشة إذا علمنا أنّهم غادروا مدينة آخذة في التدهور تحت حكم الطاغية بوليكراتيس. إلا أنّ الاضطهاد الحقيقي بدأ لاحقًا عندما استقر في «كروتون» جنوبي إيطاليا وأنشأ مدرسته حيث لعب فيها وأتباعه دورًا رئيسيًا في سياسة المدينة، ولكن ماهية الأمر الذي تورط فيه والسبب الذي دعا إلى نشوب ثورة عنيفة ضده بعد عقدين من النجاح والشهرة هناك لا يزالان يكتنفهما الغموض. فأُلقي القبض على العديد من الفيثاغوريين الأوائل في مدينة كروتون والمدن المجاورة لها وقتلوا في نهاية القرن السادس وملطع القرن الخامس قبل الميلاد، بل إنّ فيثاغورس نفسه قد تعرض للنفي.
ويشير أحد المؤرخين إلى أنّ العداء الواضح تجاه فيثاغورس قد زاد من حدته بسبب تشريعات كان يصدرها بعض من أتباعه والتي زادت من حنق الناس عليهم. وبعد تلك الثورة رحل فيثاغورس إلى مدينة «ميتابونتو» والتي تقع على خليج تارانتونو، فسرعان ما ازدهرت التجمعات الفيثاغورية مرة أخرى وازدادت انتشارًا عبر جنوبي إيطاليا، إلا أنّه في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد تعرض الفيثاغوريون إلى حملة تطهير مرة أخرى أشد وطأة من سابقتها فرقت الكثيرين منهم وغادروا إيطاليا متجهين إلى بلاد الإغريق. ورغم ذلك ظل تأثيرهم يتزايد وخاصة عن طريق أفلاطون الذي كان له صديق مقرّب من أتباع فيثاغورس وهو «أرخيتاس التارانتومي» وأرخيتاس هذا كان رجل دولة ومفكر وعالم رياضيات، وربما كان هو أحد مصادر إلهام أفلاطون في فكرته الشهيرة في «الجمهورية» والخاصة «بالملوك الفلاسفة». بل إنّ أرسطو نفسه قد كتب بشيء من مبالغة لم تنطوِ على أي سخرية قائلاً إنّ فلسفة أفلاطون تسلك نهج فيثاغورس في معظم الجوانب. ومن الواضح والجلي أنّ أفكار فيثاغورس قد استوعبها المذهب الأفلاطوني كاملة حتى صار من الصعب التمييز بين الفلسفتين.
ما هي فلسفة فيثاغورس وأفكاره؟
تركزت نظريتهم حول دلالة «العدد». فانطلاقًا من اكتشاف اختلاف النغمات الموسيقية الواحدة عن الأخرى تبعًا لاختلاف النسب العددية الداخلة في تكوين الأوتار، طوّر الفيثاغوريون الفكرة التي تعتبر ماهية الحقيقة بكليتها تابعة للأعداد ولنسبها.
والأعداد هي التي تخلق النظام في العالم، بحيث تجعل اللامحدود «apeiron» أو «Απέραντος» محدودًا ومحددًا. والأشياء ليست إلا صور الأعداد وماله علاقة بشكل ماهيته لا يختلف عن الشكل الرياضي.
وضمن السلسلة العددية يسجل الفيثاغوريون بعض الاختلاف. فمرتبة الواحد فوق سائر الأعداد، والواحد يعتبر بمثابة الأصل لباقي الأعداد. والعدد الفردي يعتبر محدودًا وكاملاً، والزوجي لا محدودًا ولا كاملاً. كما أنّ الفيثاغوريين قد شكلوا نظرية الأعداد وألحقوها بمختلف الميادين، ففي الرياضيات اهتموا بالنظم وبالمسلمات. إنّ «قانون فيثاغورس» قد أوصل لاكتشاف النسب العددية غير الخاضعة للتصورات العقلية. كما أنّهم قدّموا صورة للكون رأوا بموجبها أنّ الكواكب تتحرك بشكل دائري، وتبعًا لمسافات محددة حول مركز ثابت.
بل وفي الأخلاق تعتبر فكرة التناغم والتناسق والانسجام فكرة حاسمة، بل إنّ الفيثاغورية قد ذهبت إلى حد اعتبار الفضائل قابلة للتماهي مع بعض الأعداد. قال الفيثاغوريون: «إنّ سبيل معرفة الأشياء أوصافها». ولكن أكثر الأوصاف ليست عامة في الأشياء، فهذه ورقة خضراء، ولكن ليس كل الورق أخضر، بل بعض الأشياء لا لون لها، وهذا الشيء حلو، لكن ليس كل شيء حلو، وهكذا الشأن في المسموعات والمشمومات والمرئيات وغيرها، إنّما هناك صفة واحدة في كل شيء هو العدد، فكل شيء جسماني أو غير جسماني له صفة العدد، وبعبارة أخرى لا يمتاز شيء عن شيء إلا بالعدد، فالعدد هو جوهر الوجود وحقيقته.
وقد وضعوا قائمة بعشر أضداد هي عماد الكون:
1- الفردي والزوجي.
2- المحدود واللامحدود.
3- الواحد والكثير.
4- اليمين واليسار.
5- الذكر والأنثى.
6- المستقيم والمعوج.
7- السكون والحركة.
8- الخير والشر.
9- النور والظلمة.
10- المربع والمستطيل.
ويقدسون رقم «10» لأنّه مجموع الأرقام الأربعة الأولى:1+2+3+4 ويحلفون به ويضعونه في صورة الهرم هكذا: الصورة على الرابط.
من نافلة القول أنْ نوضح أنّه في القرن العشرين كان هناك ثمة نوعان مختلفان من الاهتمام بفيثاغورس، فمن ناحية نجد العلماء وفلاسفة العلم من أمثال «فرنر هايزنبرج» والسير «كارل بوبر» يؤكدان أنّ الفيزياء الحديثة تعيد إلى الأذهان فيثاغورس، ومن ناحية أخرى نجد كتبًا حول فيثاغورس نفسه قد نُشرت في سلسلة تتضمن أعمالاً عن الخيمياء وعلم التنجيم «Astrology» وباليونانية «αστρολογία» وكان الأمر يتطلب عقلاً جريئًا كعقل فيثاغورس ليمزج بين هذين العلمين.
ويسهل تبيين العلاقة بين هذين الجانبين في مفهوم فيثاغورس الجديد عن الخلاص الروحي وهو ما يمكن تلخيصه على النحو التالي: إذا أردت أنْ تحيا إلى الأبد فادرس الرياضيات. وللمزيد من إدراك هذا المفهوم يتطلب الرجوع إلى كنه الديانة الأورفية وهذا خارج موضوع مقالنا.
كانت الفيثاغورية هي نقطة الانطلاق لعلم الفلك الحديث «astronomy» أو باليونانية «αστρονομία» وإن كان ذلك بمحض الصدفة بما فعلوه من محاولة تطبيق الرياضيات المحببة إليهم على علم الفلك. بَيْد أنّ أول من قام بمحاولة جادة لتطبيق الرياضيات من أجل اكتشاف قوانين الأجرام السماوية هو «يوهانز كبلر» (1571-1630) وقد كان فيثاغورثيًا خالصًا، وقاده يقينه بأن السماوات لابد وأنْ تكون مرتبطة في نسق متجانس يتجلى واضحًا في علاقات رياضية بسيطة إلى صياغة العديد من التعميمات حول الكواكب.
وعلى الرغم من أنّ الفيثاغوريين الأصليين كانوا مصدر إلهام للأجيال اللاحقة، إلا أنه من الصعوبة بمكان أنْ نحدد ما يجب أنْ ينسب إليهم من فضل في تقدم علم الفلك، أما الرياضيات البحتة فقد كان الأمر مختلفًا وحتى أرسطو نفسه والذي كان مشككًا في نظريتهم حول التناغم السماوي أضطر إلى الاعتراف بأنّهم أول من ساهم في تقدم هذا العلم. ومن بين من يرجع إلى الفيثاغوريين تقدم علم الفلك في العصر الحديث برتراند راسل ويعتمد ادعاؤه أنّ فيثاغورس كان الأكثر تأثيرًا بين المفكرين على فكرة أنّ تأثير الرياضيات على مجالات الفكر الأخرى لا يرجع الفضل فيه إلا لفيثاغورس. بل وفي القانون وعلم اللاهوت فقد قال راسل أيضًا “لولا فيثاغورس ما كان علماء اللاهوت ليسعوا إلى إيجاد براهين منطقية لوجود الله وفكرة الخلود”.
صورة الفيثاغورية في العالم الاسلامي
ترك لنا «المبشر بن فاتك» في كتابه «مختار الحكم ومحاسن الكلم» صورة مطولة لحياة فيثاغورس ودعوته ومدرسته وجماعته ونظامه، وحاكاه أيضًا ابن أبي أصيبعة. أما القفطي فقد ترك لنا صورة قصيرة ولكنها في غاية الدقة. أما ابن مسكويه قد احتفظ لنا في كتابه «جاويدان خرد» بوصيّة فيثاغورس المعروفة بالذهبية، وكذلك قد وصلت الفيثاغورية القديمة إلى العالم الإسلامي عن طريق كتب أرسطو لاسيما كتاب «الطبيعة وما بعد الطبيعة والآثار العلوية». فعن بلده «ساموس» سماها الشهرستاني «ساما» وسماها ابن ابي أصيبعة «ساموس». ويروي أيضًا ابن أبي أصيبعة أنّ فيثاغورس كان يرمز حكمته ويسترها، فمن ألغازه «لا تعتد في الميزان» أي اجتنب الإفراط، «لا تحرك النار بالسكين لأنّها قد حميت فيه مرة» أي اجتنب الكلام المحرض للغضوب، و «لا تضع تماثيل الملائكة على فصوص الخواتم» أي لا تجهر بديانتك وأسرار العلوم الإلهية عند الجهال… إلـخ.
أما الشهرستاني في كتاب «الملل والنحل» فيقدم لنا مذهبه فيقول:
«أنّه يدّعي أنّه شاهد العوالم بحسه وحدسه الفلكي، وبلغ في الرياضة إلى أنّه سمع حفيف الملك، ووصل إلى مقام الملك، ذكر أنّه ما سمع قط ألذ من حركاتها ولا رأى شيئًا قط أبهى من صورها وهيئتها».
وقد وصلت الفيثاغورية إلى العالم الإسلامي وهي تستند على الفيثاغورية الأولى ثم اختلطت بالأفلاطونية المحدثة. وحسب الشهرستاني يقسم فيثاغورس الوحدة إلى قسمين: وحدة الله، وهي وحدة الإحاطة بكل شيء، ووحدة الحكم على كل شيء، وهي وحدة تصدر عنها الآحاد في الموجودات والكثرة فيها. وإلى وحدة مستفادة من الغير وهي وحدة المخلوقات. ويقسمها أيضًا إلى: وحدة قبل الدهر، ووحدة مع الدهر، ووحدة بعد الدهر، إلخ.
أما أهل السنة والمعتزلة والشيعة، فلم يقبلوا الفيثاغورية، اللهم إلا أخذ فكرة العدد أثني عشر وقداسته عن الاثنى عشرية. وقد أثرت الفيثاغورية أيضًا في حركة الاسماعيلية وسيطرت على كتابات إخوان الصفا، فقد آمن إخوان الصفا بأنّ لحركات أشخاص الأفلاك أصواتًا ونغمات، وأنّ أشخاص الأفلاك هؤلاء هم ملائكة الله وخلص عباده.
ويرى القفطي أنّ هناك آثارًا فيثاغورية في فلسفة محمد بن أبى زكريا الرازي الطبيب الشهير. ويذكر المسعودي وهو يؤرخ ليحيى بن عدي الذي توفى عام 975ميلادية، أنّ يحيى قد درس مذهب الرازي وهو مذهب فيثاغوري في الفلسفة الأولى، وأنّ مدرسة يحيى بن عدي كانت مدرسة فيثاغورية، ويقرر المسعودي أيضًا أنّ الرازي قد كتب قبل وفاته بثلاث سنوات كتابًا في ثلاثة مقالات عن الفلسفة الفيثاغورية.
ولعل ابن كرنيب كان أيضًا من الفلاسفة الذين أخذوا بالمذهب الفيثاغوري الحديث، فيذكر ابن النديم أنّه كان من جلة المتكلمين ويذهب مذهب الفلاسفة الطبيعيين ولعل المقصود بالفلسفة الطبيعية هنا هي الفيثاغورية.