يقول برتراند راسل في كتابه «تاريخ الفلسفة الغربية»:
«إن سقراط موضوعه جد عسير على المؤرخ، فلئن كان هنالك من الناس من لا نشك في أننا نعلم عنهم جد قليل، ومن الناس من لا نشك في أننا نعلم عنهم الشيء الكثير؛ فإن الأمر في سقراط هو أننا لا ندري هل نعلم عنه القليل أو الكثير؛ فليس من سبيل إلى الشك في أنه كان من أبناء أثينا، متوسط الدخل، ينفق وقته في مناقشات ويعلم الفلسفة للشبان، لكنه لم يكن علمهم لقاء أجر مثل السفسطائيين؛ وليس من سبيل إلى الشك كذلك في أنه حوكم وحكم عليه بالموت، ثم نفذ فيه حكم الإعدام سنة (399ق.م)، لما كان يبلغ من العمر نحو السبعين، وكذلك ليس من سبيل إلى الشك في أنه كان رجلًا بارزًا في أثينا مادام أرستوفان قد صوره بقلمه الساخر في رواية «السحاب»؛ أما ما خلا ذلك فترانا ندخل في منطقة من المعلومات لا يقين فيها، فقد كتب عنه اثنان من تلاميذه هما «أفلاطون» و«زينوفون»، فأفاضا القول عنه، لكنهما اختلفا فيما روياه اختلافًا بعيدًا، وحتى حين يتفقان على رواية واحدة، فإن «زينوفون» عندئذ في رأي«بيرنت» يكون ناقلًا عن أفلاطون؛ وأما حيث يختلفان في الرواية، فبعض الناس يؤمن بهذا، وبعضهم يؤمن بذاك، وبعضهم لا يؤمن بهذا ولا بذالك.»
• نبذة عن حياة سقراط:
هاكم بعض أوجه النظر المختلفة في تصوير سقراط بإيجاز: فمع ظهور مسرحية «السحاب» لأرستوفان، وقد صُوِرَ فيها من جهة قريبًا من هيئة السفسطائيين، ومن جهة أخرى تلميذًا للمدرسة الطبيعية، فسقراط يظهر في هذه المسرحية محاولًا النفاذ إلى أسرار السماء وما تحت الأرض كتلميذ للفلاسفة الطبيعيين، وقادرًا على قلب الموقف الضعيف إلى موقف قوي ومعلمًا الآخرين كيف يفلعون هذا أيضًا.
ثم جاء أفلاطون وأنكر هذه الصورة عنه واعتبرها كذبًا، وقام بالدفاع عنه. ففي محاوراته، اكتسى سقراط صورة الموُحى إليه بأن يحض مواطنيه على الاهتمام بتحسين أرواحهم، فهو لا يهتم إلا بالحكمة الإنسانية، ويعلم على طريقته وليس على طريقة السفسطائيين أي بلا أجر، وعلى منهج جديد لا يقوم على التلقين، بل على الوصول الذاتي إلى معرفة النفس وإلى معرفة الحقيقة.
ثم صورته عند «زينوفون»، فزينوفون لا يهتم بسقراط الفيلسوف قدر اهتمامه بسقراط الإنسان. سقراط الذي يمشى في الأسواق، ويحكي مع صانعي الأحذية ومع السياسيين وغيرهم، وكيف كانت آراءه في الأخلاق وفي السلوك، وهو عنده رجل يعتقد في الألهة على عكس الاتهام الذي وجه إليه، وفي سلوكه معتدل يكره العنف ويهرب منه، وأكثر الناس فضيلة وتقوى وما إلى ذلك من الصفات الحسنة.
وهناك صورة أخرى له عند أرسطو، وهي حينما استعرت نار الاختلاف بين أنصار ومعارضي كل من أفلاطون وزينوفون وأرستوفان، اتجه بعض اللاحقين للخروج من هذه الأزمة إلى تحكيم أرسطو في الخلاف واتخاذه معيارًا لما يؤخذ من هذا وأولئك، فأرسطو هو من يعرف حقًا حقائق مهمة، ورغم أنه لم يسمع من سقراط مباشرة، إلا إنه قد درس في أكاديمية أفلاطون ما يقرب من عشرين عامًا؛ وحصل على فرصة كبيرة يسمع آراء أفلاطون من أفلاطون نفسه؛ لذلك لقد كان في موضع يسمح له بالفصل بين آراء الرجلين، فتساعد آراء أرسطو بشكل كبير على حذف آراء أفلاطون من محاوراته ورؤية ما تبقى من آراء سقراط، غير أنه كان أقل تبجيلًا لسقراط من أفلاطون وهو ما يجعل ينجح في تبني منهجية أكثر حيادية في تعالميه.
وبيدو أن هناك رأي أخر عند القدماء يختلف مع ما عهدناه عن سقراط، فهناك صورة سلبية أخرى عنه، نرى فيها سقراط جاهلًا بلا تربية، مرابيًا فاسقًا ،ومتزوجًا من اثنتين، وهذا التيار المعارض لسقراط تجده عند بعض الأبيقوريين، وعند بعض الكتاب في الحضارة المسيحية، بل وحتى عند «نيتشه»، غير أن صورة سقراط الإيجابية كانت هي السائدة، وقد أخذت شكلًا نهائيًا لها عند وصف «شيشيرون» لفضل سقراط على الفكر اليوناني فقال: «قبل سقراط كانت الفلسفة تُعلم معرفة الأعداد ومباديء الحركة، ومصادر النشوء والفساد لكل الكائنات، وكانت تعني بالبحث في العظم وفي الأبعاد وفي دورات النجوم وأخيرًا في الأشياء السماوية. فكان سقراط أول من أنزل الفلسفة، وأدخلها ليس في المدن فقط بل في المنازل، وأجبرها أن تنظم الحياة الإنسانية والعادات وألوان الخير والشر.»
وفي الحضارة المسيحية أيضًا نجد أن هناك من أباء الكنيسة قد رأوا في سقراط سلفًا لهم، فاعتبروه «شهيدا قبل الأوان»، بل وحتى كتاب «الإنسيكلوبيديا» أو الموسوعيين قد رأوا في سقراط أنه أول ضحية للفسلفة في صراعها مع الخرافات، وفي نفس الوقت رأى فيه البعض الأخر «نفسًا مسيحية بالطبيعة»، و’تمسيح سقراط’ هذا هو ما كان وراء هجوم نيتشه عليه: فحينما أدار سقراط ظهره للعالم المحسوس، فإنه وصل إلى أعتاب الثنائية المسيحية بين الروح والجسد. بيد أن هناك سبب أخر لهجوم نيتشه عليه، ذلك أن في سقراط اتجاه واحد من اتجاهي الروح اليونانية، وذاك هو الإتجاه «الأبوللوني»، وهو مبدأ الحياة الواعية، فهو الحكيم الذي يدري كيف يقهر الغريزة بالحكمة، فمعه تنفصل وحدة العنصرين ‘الابوللوني’ و’الديونيسي’ الذي كان اتحادهما في رأي نيتشه سبب خصوبة الحضارة اليونانية حتى عصره وخصوصًا في ميدان المسرح أو الأدب بشكل عام، وهكذا انتهى الانسجام واختفى التوتر المخصب بين الأضداد، ومعه يبدأ انهيار الحضارة اليونانية، بل أن بعض المؤلفين الآخرين قد ذهبوا إلى أن عقليته وعقلية أفلاطون ليستا باليونانيتين، وذاك بسبب الإتجاهات شبه التصوفية عندهما.
• نشأة سقراط:
من المتفق عليه أن سقراط قد ولد عام (470 ق.م)، لأب كان يعمل نحاتًا ولأم كانت قابلة ‘مُولِدة’، وكان من الفكاهات التي لا ينفك ينطق بها عن نفسه ‘أنه لم يفعل أكثر من مواصلة حرفة أمه’، غير أنه نقلها إلى دائرة الأفكار؛ فكان يساعد غيره على أن يخرجوا للعالم آراءهم. كان سقراط ينتمي إلى الطبقة المتوسطة إن لم يكن من أسفلها، وربما عمل نفسه فترة من الزمن بمهنة النحت لكن يبدوا أنه لم يدم طويلًا.
ونعرف من العديد من المصادر عن أوصافه أنه كانت له عينين جاحظتان، وأنف أفطس وشفة غليظة، وبطن كبير، وكان دائمًا يرتدي ملابس شعثاء بالية، ويسير حافي القدمين في أرجاء المدينة. لكن «ول ديورانت» يختلف مع هذا الوصف في كتابه «قصة الحضارة» فيقول: «إذا حكمنا عليه من تمثاله النصفي المحفوظ في متحف ترمي بروما؛ وذلك حكم لا يستند إلى أساس قوي، قلنا أنه لم يكن نموذجا صادقا للوجه اليوناني، وذلك لأن سعة وجهه وأنفه الأفطس العريض؛ وشفتيه الغليظتين؛ ولحيته الكثة؛ كلها توحي بأنه ينتمي إلى أرض السهوب التي جاء منها أنا كارسيس صديق سولون.» وكان مما يثير الدهشة عند الناس جميعًا هو عدم احتفاله بحرارة أو برودة، بجوع أو ظمأ وهذا التوصيف يتفق فيه أفلاطون وزينوفون. أما عن صفته الأخلاقية والعقلية، فعرف عنه أنه كان قوي الشخصية عزيز النفس، يرفض ما زاد عن الحاجة، وكان ذو قدرة فائقة على التحليل العقلي وعلى النقاش بوجه عام، قادر على الحديث مع الصغير قبل الكبير، وذلك في كل الموضوعات المتصورة.
• فلسفة سقراط النقدية:
عصر سقراط وهو أيضًا عصر السفسطائيين هو عصر نقدي بإمتياز، وكان أول اتجاه نقدي يشترك فيه سقراط والسفسطائيون معًا، هو نقدهم للعلم الطبيعي، ولعنا نتذكر أن سبب نقد السفسطائيين لهذا العلم كان مع جورجياس الذي لاحظ تناقد المذاهب الطبيعية فيما بينها، وليس هناك من مذهب حاسم، فاتجهوا إلى الأمور الإنسانية، وفي هذا يشترك معهم سقراط، ففي محاورة «الدفاع» لأفلاطون، نجد سقراط ينفي عن نفسه تهمة الاهتمام بالعلم الطبيعي التي وجهها له أريستوفان، فنجده يقول : «وليس معنى هذا أنني أقلل من هذا العلم، إن كان هناك من يحوز علما حقيقيا في هذا الميدان، ولكن الحقيقة هي أنني لا أشغل نفسي على الإطلاق بهذا النوع من البحث.» ويقول أيضًا عند زينوفون في كتاب «المذكرات»: «أنه من الجنون الاشتغال بمثل هذه المشكلات لأنه يجب الاهتمام بالأمور الإنسانية أولًا، لأنها أولَى.»
لكن هنا قد يُورد سؤال: هل ابتدأ سقراط نشاطه الفلسفي بنقد مذهب الطبيعين أم انتهى إلى ذلك؟ واضح أن هناك صعوبة في الحصول على إجابة حاسمة حول هذا السؤال، وذاك بسبب نقص معرفتنا ببداية النشاط الفلسفي لدى سقراط، ولكن الأقرب إلى التصور أنه اشتغل فترة بالعلم الطبيعي ثم أعرض عنه، لأن كل الأثينيين المنشغلين بالفكر أنئذ كان شغلهم الشاغل هو العلم الطبيعي. ومنذ ذلك الحين، أي تحول سقراط من علم الطبيعة إلى الأخلاق، وجد أنّ «الخير أعظم الخير في حديثي كل يوم عن الفضيلة؛ وفحصي عن نفسي وعن غيري؛ لأن الحياة التي لا يفحص عنها غير خليقة بالرجال» فهكذا أخذ يطوف بمعتقدات الناس ؛ يخزهم بالأسئلة؛ ويطلب منهم إجابات دقيقة محددة وآراء منسقة غير متناقضة بيد أن هناك سؤالا أخر: هل الدافع الأكبر لدى سقراط لنقد العلم الطبيعي هو تناقضاته الظاهرة، أم أولوية الاهتمام بالأمور الإنسانية لديه كانت هى الحاسمة؟
مما تجدر الإشارة إليه من نتائج «إنزال الفلسفة من السماء إلى الأرض» على تطور العلم الطبيعي، هو توجيه ضربة قاصمة لهذا العلم لم يقم بعدها إلا في عصر النهضة، هكذا رأى كثير من المؤلفين الغربيين ومن مأخذهم على سقراط ، بيد أن ما يشفع له عندهم، أن في إهتمامات سقراط بعض جوانب إيجابية تمثلت في ظهور الفلسفة التصورية لدى أفلاطون وأرسطو، وهي الفلسفة القائمة على مبدأين سقراطيين في جوهرهما: البحث عن الجوهر، والتعريف. بيد أن لها جوانب سلبية أيضا تمثلت في إدانة البحث في الطبيعة على أنه شيء لا نفع فيه ولا سبيل إلى اليقين بخصوصه، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى عدم الاهتمام بالتجربة والملاحظة.
ثم كانت الفئة الثانية التي تعرضت للنقد السقراطي، وهي فئة السفسطائيين، فما من شك في أن سقراط كان يعرفهم معرفة جيدة، فكما قلنا كان سقراط معاصرًا لهم، وكثيرا ما التقى بهم لدرجة جعلت من أرستوفان يجعل سقراط من زمرتهم. ومن نافلة القول هنا أن نوضح أن من أسباب اتهام سقراط هو الخلط بينه وبين السفسطائيين، فإلى أي مدى كان التشابه بينه وبينهم؟
• التشابه بين سقراط والسفسطائيين تتمثل في:
1- نقد الفلسفة الطبيعية.
2- نقد التقاليد الدينية والأخلاقية.
3- الاتصال الدائم بالشباب والإدعاء بتعليم الفضيلة.
4- استخدام الجدل بالمعنى العام، مما يعنى ذلك في نظر الأثيني العادي هو القدرة على قلب القضية الضعيفة إلى قوية والعكس أيضًا.
• أما عن أوجه الاختلاف بينه وبين السفسطائيين فتتمثل في:
1- انتقاده للفلسفة الطبيعية بحث عن مذهب إيجابي في الأخلاق .
2- كان مدافعًا عن القانون ضد الطبيعة وذاك على عكس السفسطائيين الذين آثروا الطبيعة على القانون.
3- لم يكن يأخذ أجرًا على تعليم الشباب مما يعنى أنه ليس نفعيًا.
4- اهتمامه بالمسائل المنهجية كان مقدمة وحسب لتحديد المفاهيم.
5- احترامه للقوانين الأثينية حتى النهاية، كان يعتبر نفسه أثينيا قبل أي شيء.
6- الاعتقاد بوجود حقيقة ثابتة.
وقبل أن نختم هذه الفقرة يجدر بنا أن نقول أن سقراط كان يوجه نقدًا لاذعًا إلى الشعراء ورجال الدين والساسة، والنقد الأساسي الذي كان يوجه لهم هو أنهم يدعون المعرفة وهم على العكس من ذلك.
• المنهج السقراطي في التفلسف:
كان قائمًا على أساس فردي؛ بمعنى أن سقراط كان يعتبر أن الحوار هو الطريقة المثلى للوصول إلى الحقيقة. والحوار السقراطي قائم على إفتراض هام ذي شقين: هو أن الحقيقة موجودة، وأن المعرفة ممكنة. وفي نقاش سقراط مع مدعي حيازة المعرفة، يبدأ منهجيًا فافتراض أن معرفتهم هي المعرفة الحقيقية، ثم ينتقل من هذا الفرض إلى فحص النتائج والمتضمنات لهذه المعرفة المدعاة، وهي التي لن تصبح حقيقة إلا إذا اتفق عليها الطرفان، بحيث أن أحد أهداف المنهج السقراطي هو الوصول إلى الوضوح الذاتي، وهذا الوضوح الذاتي هو في المحل الأول تطبيقا للمبدأ القائل: «إعرف نفسك بنفسك».
ثم كانت هناك مرحلة أخرى من مراحل الحوار السقراطي، هي مرحلة وضع المشكلة قيد البحث وضعًا دقيقًا، وعادة ما يكون ذلك بصيغة «ما هو كذا؟» ثم الوصول إلى إجابات متعددة للسؤال المطروح، وهي الفروض التي يقوم سقراط بفحصها واحدًا تلو الأخر مبينا التناقضات التي تقوم عليها، ثم المرحلة الثالثة وهي التفنيد والشعور بالجهل عند المتحدث. لكن ما هو موقف سقراط أثناء الحوار أو النقاش؟ إنه يمكن تلخيص موقفه في كلمتين: إعلان الجهل، والتهكم.
أما عن إعلان الجهل، فيقول سقراط في محاورة «الدفاع» أنه لا يعلم شيئًا، وليست لديه أي حكمة أو معرفة اللهم حكمة إنسانية ذات طابع سلبي تقول: أحكم البشر هو من إعترف كسقراط أن حكمته لا تساوي شيئا بالقياس إلى الحقيقة. ولكن سقراط يعترف أن من يسمعونه يظنون أنه يعرف الحقيقة بخصوص المسائل التي يتناقش فيها مع الأثينيين، ولكن الحقيقة هي أنه لا يعرف شيئًا.
أما عن التهكم، هذه الكلمة المقابل لها في الإنجليزية هي “Irony” وهي ترجمة عن الكلمة اليونانية “”ειρωνεία وهي لا تعني في الحقيقة غير ‘التظاهر’، بحيث أن التهكم السقراطي يكون معناه هو التظاهر بقبول رأى الطرف الأخر، ثم جذبه إلى الحديث، ثم فحص أراءه والوصول به إلى نتائج لا يقبلها العقل. غير أن هذا الموقف التهكمي لا يجعلكم تظنون بسقراط الظنون، فهو موقف يبدو في مضمونه موقفا أخلاقيًا أساسًا، إذ أن هدفه في الأساس هو تطهير نفس المتحدث من أوهام المعرفة ليصبح بعد ذلك أكثر قابلية للتعلم من جديد والبحث عن الحقيقة.
• آراء سقراط:
أما عن أراء سقراط، ففي محاورة «الدفاع» سقراط متحدثًا عن تفلسفه القائم على فحص أراء معارضيه، نجده يقول بإن له على الأقل رأيا محددًا وإيجابيًا ألا وهو أهمية النفس وضرورة تقديمها على ما يخص البدن، وعند بعض المفكرين اللاحقين نجدهم يعتبرون أن إسهام سقراط الأساسي في تاريخ الفكر هي فكرة «النفس»، وكل الباقي عنده إنما هو نتيجة لهذا الاكتشاف الأساسي، وسواء كان في هذا الرأى مبالغة أم لا، فأن الواقع أن فكرة «النفس» تظهر على مسرح الفلسفة اليونانية أخذة دورًا رئيسيًا منذ سقراط، فقبل عصر سقراط لم تكن النفس “psychology”-ψυχολογία، عند اليوناني العادي إلا هذه المادة البخارية التي تقم الحياة وتحفظها، ولم تكن مكان الوعي ومنبع الحياة الأخلاقية. وليست النفس أيضًا عند سقراط مبدأ الحياة فقط، بل هي أهم من ذلك، هي «الذات الاخلاقية» .
وبمبدأ «إعرف نفسك نفسك» والذي كان مكتوبًا فوق مدخل معبد «أبوللون» في دلفي، والذي كان بسيط في مظهره، قد اختلف في تفسيره، فأساس السلوك الحسن إنما هو معرفة الإنسان الحقيقي، ولكن الإنسان الحقيقي ليس هو ‘الجسم’، بل هو ‘النفس’ التي تصبح على هذا النحو، أولى بالرعاية قبل الجسد، وبذلك يكون سقراط معارضًا لاتجاه عام في التربية اليونانية والتي كانت تضع الاهتمام بالجسد في المحل الأول، ومن هنا كانت ساحات الألعاب الرياضية هي ساحات التربية بوجه عام . أما كلمة ‘بنفسك’ فإنها تؤكد على أهمية الوعي الذاتي في السلوك الإنساني ، فالمعرفة لا تأتي من الخارج، بل تنبع من داخل الإنسان، ومن حالة النفس ينبع الرفق بالناس عامة، فالنفس هي التي تهتم بكل شيء وهي الحاملة لكل شيء، والنفس هي التي تكمل ما يصلها من فضائل في الحلة التي يسود النظر والعقل.
• عن إعدام سقراط:
أما عن إعدامه فيقول ول ديورانت في «قصة الفلسفة»:
«من الأفضل أن نقرأ لأنفسنا ذلك الإعتذار أو الدفاع البسيط الذي أعلن فيه أول شهيد للفسلفة حقوق الإنسان، وضرورة حرية الفكر، ورفض أن يطلب الرحمة من الجماهير التي احتقرها دائمًا. لقد كانت لديها السلطة لتعفو عنه، ولكنه رفض باحتقار أن يناشدها الرحمة، لقد أراد القضاة إطلاق سراحه، بينما صوتت الجماهير مطالبة بإعدامه، ألم ينكر وجود الألهة؟ ويل له لأنه علم الناس فوق طاقتهم على التعلم وهكذا حكموا عليه بشرب السم. وجاء أصدقاؤه إلى سجنه وعرضوا عليه مهربًا سهلًا، فقد رشوا الموظفين الذين يقفون بينه وبين الحرية والفرار، ولكنه رفض، لقد قال لأصدقائه الحزينين افرحوا وقولوا أنكم توارون في جسدي فقط، ولقد صور أفلاطون كلماته الأخيرة هذه في فقرات تعد من أعظم فقرات الأدب عبر التاريخ «فلقد اقتربت ساعة غروب الشمس إذ مر وقت طويل ونحن في الداخل، وعندما خرج علينا جلس معنا مرة ثانية، ولكننا لم نتحدث سوى القليل، ودخل السجان…أنت تعرف مأموريتي، وبعدئذ انفجرت دموعه وخرج …وقال سقراط: أنت ياصديقي السجان المجرب في هذه الامور هل تدلني كيف أفعل وكيف أتقدم لشرب السم. وأجاب الرجل عليك أن تمشي فقط إلى أن تشعر بثقل قدميك فتسلتقي وبهذا يسري الدم في جسدك … إلى أخر المحاورة.»
أما عن موته أو إعدامه فهناك رواية يرويها لنا «ديودور الصقلي» فيقول: «إن الأثينيين ندموا على فعلتهم بعد موته وأعدموا من اتهموه. ويقول «سويداس» إن ملاتوس مات رجمًا بالحجارة»، لكن «فلوطرخس» يروي لنا رواية أخرى مخالفة فيقول: «إن الشعب غضب على متهميه غضبًا لم بلغ من شدته أنهم لم يجدوا مواطنًا يوقد لهم النار؛ أو يجيب لهم عن سؤال؛ أو يستحم في ماء استحموا هم فيه؛ فلم يسعهم أخر الأمر إلا أن يقتلوا أنفسهم. ويروي أيضًا «ديوجانس ليرتيوس» إن ملاتوس أُعدم وأن أنيتوس نُفي؛ وأن تمثالًا أُقيم في أثينة تخليدًا لذكرى الفيلسوف.»
• ما بعد وفاة سقراط:
بعد وفاة سقراط، قد صار اثنين ممن كانا حاضرين وقت وفاته وهم «أنتيزينيس الأثيني» و«إقليدس الميجاري» فيما بعد مؤسسين لمدارس فكرية استمرت أثارها لعدة قرون تالية أو أبوين روحيين لها. ولم تستمر المدرسة التي أنشاها رفيق ثالث لسقراط ألا وهو«أرسطيبوس القوريني» في ليبيا حوالي عام (435-355ق.م)، بالشكل نفسه، غير أن هذا لم يمثل خسارة كبرى ، فلقد تفرع القورينيون الذين اتبعوا أرسطيبوس للمتعة بشكل فلسفي غريب، فكانوا يحرفون تعاليمه؛ ففي ظل إنبهار أريسطيبوس بالتحكم العقلاني في النفس لدى سقراط ، حول انضباطه إلى سعي مكرس لإشباع رغباته .
ثم رأى أنتيزينيس مثل أرسطيبوس أن قوة سقراط العقلية كانت ضرورية للسعي نحو السعادة، بينما يختلف أنتيزينيس عن القورينيون أتباع أرسطيبوس في أن السعادة لا توجد من أجل إشباع الرغبات بل في فقدانها. فقد عجب أنتيزينيس بعدم إكتراث سقراط بالثروة والنعيم، وحول هذا إلى فلسفة زاهدة ترحب بالفقر. ثم جاء «ديوجين السينوبي» حوالي (400-325ق.م)، فتأثر بأفكار أنتيزينيس، ولكنه رأى أنه لم يلتزم بالتعاليم التى وتضعها بنفسه، فقد أضاف ديويجين الكثير إلى أنتيزينيس بشكل رائع خاصة فيما يتعلق بغرابة الأطوار والعيش غير المألوف حيث ورد في إحدى الروايات المشهورة عن الفلاسفة الأوائل أن ديوجين قد عاش في حوض خزفي، وقد كان يستمتع بلقب «الكلب» وهذا هو سبب تسمية الكلبيين بهذا الاسم، لأنهم أرادو حياة بسيطة فطرية وقحة كحياة الحيوانات؛ لأنها الممثل بحق للحياة ‘الطبيعية’.
كان إقليدس هو أخر أتباع سقراط إخلاصًا لأستاذه، واهتم إقليدس بالمجادلات المنطقية في حد ذاتها وبخاصة المتناقضة منها، وكان إعجابه برأي سقراط القائل أن المعرفة هي طريق الفضيلة، فشعر إقليدس أن وسائل البحث عن الحكمة وبخاصة إذا فهم المرء عملية المجادلة. فلقد اجتمعت الدارس الفلسفية التي انحدرت من سقراط على فكرة أن الحكمة تؤدي إلى الفضيلة، وأن الفضيلة تؤدي إلى السعادة، بيد أن اختلفوا في تفسير ما تعنيه السعادة، فكانت:الإنغماس في المُتعة بالنسبة للقورينيين، والانضباط الزاهد بالنسبة للكلبيين، ولكنهم اتفقوا فيما بينهم على أن التفكير الفلسفي نوعًا ما هو الطريق إليها.
• صورة سقراط في العالم الإسلامي :
أما عن صورة سقراط لدى العالم الإسلامي، فهي مغلوطة في كثير من الأمور، فقد احتل أولًا مكانة كبرى لدى المسلمين، فلقد صوروه في صورة نبي، يحدث أبناء أثينا عن الوعد والوعيد والثواب والعقاب والخطيئة والمغفرة، بل كان يحدثهم عن التوحيد نفسه. ثم ذكروا أنه كان من تلاميذ فيثاغورس، ثم دعوه بسقراط الحب، وذاك لأنه سكن حبًا ،وأنه هجر المنازل وتخلى عن ترهات هذا العالم الفاني ونظر إلى ما فيه بعين الحقيقة. ثم صوروا يومه الأخير مستمدين معلوماتهم عن هذا اليوم من فيدون أفلاطون، وهذا حسب ما رواه القفطي.
بيد أنه قد اختلطت صورة سقراط عندهم بصورة أفلاطون، فلم يميز كثيرون من مؤرخي الفكر اليوناني من المسلمين أراء أفلاطون من أراء أستاذه سقراط، ولم يعالج المسلمون هذه المشكلة التي عالجها المحدثون، مشكلة الأراء والأفكار التي أنطقها أفلاطون سقراط في محاوراته، هل هي من عمل التلميذ أم من عمل الأستاذ؟ لذلك شابت معرفتهم لسقراط أخطاء فنية وتاريخية كثيرة، غير أن أهمية سقراط عندهم تتضح في تاريخ الأمثال والحكم، فقد وصل إلى المسلمين كثير من حكمه وانتشرت وصيغت في شكل أحاديث ومن أهمها حكمة «إعرف نفسك» ، وقد كتبت مصنفات
متعددة عن سقراط وآراءه في النفس، ونسبت إليه في رسالة مازالت مخطوطة بعض أراء هي في الواقع من أراء الإسكندر الأفروديسي الفيلسوف اليوناني المتأخر.