ربما علينا النظر أكثر إلى الأعلى؛ لطالما كان الفضاء منبعًا للعديد من الأسرار والتساؤلات العميقة التي تجعلُك تارةً تبتسم حينما تكشف وتربُط خيوطًا جديدة ثُم تستوعبها بعد مُدة ليست بقصيرة أنك -وأخيرًا- قد فهمتَها! شعورٌ دائمًا ما يكون رائعًا، أليس كذلك؟. وتارةً أخرى تعقِدُ حاجبيك مُتسائلًا: “هل العالَم حقًّا بكُل هذا التعقيد؟”. إنها خبايا الكون، وتحديدًا خبايا الفيزياء الفلكية، أكثر العلوم تشويقًا.
رُبما علينا دائمًا طرح التساؤلات؛ خُلِقنا للبحث والمعرفة، وفي الوقت ذاته لن يُحالفنا الحظ دومًا لحل ألغاز عديدة قد يحتفظ بها العالَم لنفسه طيلة مُدة حياتنا على سطح الأرض. وقد يُحالفنا الحظ يومًا لنشهد حدثًا تاريخيًّا عظيمًا، بالكشف عن سر من أسرار الكون، كسِرِّ المادة المظلمة.
المادة المظلمة
مادة افتراضية غير مرئية، من المتوقَّع أن تكون هي المسئولة عن إضافة الجاذبية للمجرات والأجسام التي تحتوي عليها.
إذ وُجِدَ أن كمية المادة المرئية في المجرات لن تكفي أبدًا لتكون هي المسئولة وحدها عن طرق تشكُّل وتوزيع وحركة تلك المجرات. فاقترح علماء الفيزياء الفلكية أن الأمر قد يكون بسبب مادة ما زالت غير مُكتَشَفَة، لا تُرى -لا تمتص أو تشِعُّ ضوءًا- مما يجعلها مُظلمة تمامًا. (1)
نشأة فرضية وجود المادة المظلمة
من أسباب نشأة فكرة وجود المادة المُظلمة تحليلات العالم الفلكي البلغاري السويسري الأمريكي (فريتز زفيكي). إذ تابع (زفيكي) حركة عدة مجرات مختلفة داخل عنقود مجرّي ضخم على نحو 300 سنة ضوئية من سطح كوكب الأرض. وتدور تلك المجرات حول ذلك العنقود المجرِّي.
وعندما كان يُجري العالِم (زفيكي) حساباته الدقيقة مُستعينًا بعشرات المجرات لجمع المعلومات حول مصدر الجاذبية المسئول عن جمع العنقود المجرِّي بأكمله، اكتشف أن متوسط سرعة تحرُّك تلك المجرات مرتفع جدًا على غير المتوقَّع. وبما أن قوى الجذب الكبيرة مُرتبطة ارتباطًا وثيقًا بتحرُّك الأجسام التي تجذبها إليها بسرعاتٍ عاليةٍ، توصَّل (زفيكي) إلى أن العنقود المجري لديه كتلة ضخمة. وبالفعل كان لهذا العنقود كتلة هائلة، وعلى الرغم من ذلك، لم يحتوِ هذا العنقود المجري على كمية كافية من المادة المرئية لتفسير السرعات الهائلة التي رُصِدَت.
حسنًا، يبدو أن هناك كتلة ما مفقودة علينا إضافتها لكتلة المادة المرئية.(2)
وفى عام 1976 اكتشفت (فيرا روبين) عالمة الفيزياء الفلكية بمعهد كارينجي بواشنطن أن المجرات الحلزونية كمجرتنا تدور بسرعة أكبر بكثير من السرعة التي كانت متوقَّعة، كأنه أمرٌ لن يحدُث إلا إذا كانت تلك المجرات جالسة فى هالات شاسعة من المادة المظلمة غير المرئية.(2) (3)
هل أخطأت قوانين نيوتن وأينشتاين؟
من المنطق أن نرجع لأصل الأشياء وقوانينها عند التُصادم مع ما يُعارضها، إذًا ما الذي يجعلنا نفترض وجود مادة ما مجهولة بدلًا من أن يكون الأمر خطأً فى القوانين التي نعتمدها لحساب الجاذبية من البداية؟
لم تُخطئ قوانين أينشتاين؛ فجاذبية العناقيد المجريِّة لم تصل إلى الحد الذى يجعلنا نعتمد قوانين أينشتاين لتفسيرها. وعلى الجانب الآخر لم يُخطئ نيوتن، فقد اجتازت قوانينه جميع الاختبارات طوال 250 عامًا، فمن المرجَّح الآن أن يكون افتراض المادة المظلمة ليس مُجرد افتراضًا.(2)
هل يمكن أن تتواجد المادة المُظلمة على هيئة ثقوب سوداء؟
لا، فإذا تواجدت المادة المظلمة على هيئة ثقوب سوداء، كنا سنكتشف هذا العدد الهائل من الثقوب السوداء من خلال تأثير جاذبيتها على النجوم المتواجدة بالقرب منها.
إذن هل يمكن أن تتواجد على هيئة كواكب أو مذنبات داخل المجرات التى لا تشع ضوءًا؟
لا؛ الأمر غير منطقي على الإطلاق؛ تواجُد المادة المظلمة على هيئة كواكب أو مذنبات داخل المجرات يستوجب أن يحتوي الكون على كواكب كتلتها تفوق كتلة النجوم بحوالي ستة أضعاف، مما يعني أن لكل نجم واحد هناك ستة آلاف كوكب بحجم كوكب المُشتري، أو قرابة مليوني كوكب بحجم كوكب الأرض. وفي نظامنا الشمسي مثلًا، كتلة المادة المتواجدة فيه بكل أشكالها لا تتجاوز أكثر من 0,2% من كتلة الشمس.(2)
فكل تلك المُفارقات تجعلنا نميل إلى صحة فرضية وجود مادة مجهولة، وليست مجرد مادة عادية مألوفة مُظلمة فحسب، وإنما هي مادة أخرى لا نعلم عنها سوى أن لديها نفس قواعد الجاذبية التى تتبعها المادة العادية، لكنها مختلفة تمامًا، تتكون من جسيمات ما زالت مجهولة، أو ربما ما زلنا لا نعلم ما إن كانت حتى تتكون من جسيمات. فحتى الآن لم تترك لنا المادة المظلمة مجالًا لاكتشافِها، وفي الوقت ذاته يتجلّى أثر وجودها تمامًا كما لو أنها مرئية.
2 Responses