أزاحت وكالة ناسا، قبل بضعة أشهرٍ، السِّتار عن جيلها القادم من البذلات الفضائيّة، الّتي سيرتديها روّاد الفضاء عندما يعودون إلى القمر في عام 2024، والمسمّاة: مُوْن بَوند (بالإنجليزيّة: Moon-Bound)، كجزءٍ من خطّة ناسا لإقامة قواعد بشريّةٍ دائمةٍ على سطح القمر.
بذلات ناسا تحصل على ترقية
تُعدّ وحدة التّنقّل خارج مركبة الفضاء (بالإنجليزيّة: Extravehicular Mobility Unit)، أوّل ترقيةٍ رئيسيّةٍ من وكالة ناسا لزيّ الفضاء الخاصّ بها منذ ما يقرب من 40 عامًا (و تُدعى اختصارًا: زيمو (بالإنجليزيّة: xEMU))، وهي وحدةٌ مصمَّمةٌ لجعل الحياة أسهل بالنّسبة لروّاد الفضاء الّذين سيضطرّون للتّعامل مع الكثير من غبار القمر. ستتيح لهم حرّيّة الحركة من الانحناء والتّمدّد، وارتداء البذلة ونزعها بسهولةٍ، وحلّ وتبديل المكوّنات لملاءمةٍ أفضل، واستمرار الاستعمال لأشهرٍ دون حاجةٍ لصيانةٍ.
لكنّ أكبر التّحسينات لم تظهر بمجرّد الكشف عن الزّي الجديد في الخريف الماضي -خريف 2019-، ﻷنّها لا تتعلّق بالشّكل الخارجيّ؛ بل تكمن في نظام دعم الحياة المحمول في وحدة الزّي زيمو، وهو حقيبة الظّهر أسترو (بالإنجليزيّة: The Astro backpack) الّذي يحوّل وحدة زيمو من قطعة قماشٍ ضخمةٍ إلى مركبةٍ فضائيّةٍ شخصيّةٍ. فهو يتكفّل بطاقة الوحدة والاتّصالات وإمداد الأكسجين وتنظيم درجة الحرارة حتّى يتمكّن روّاد الفضاء من التّركيز على المهامّ المهمّة الموكلة إليهم. وللمرّة الأولى على الإطلاق، سيصمِّم الذّكاء الاصطناعيُّ بعض العناصر في نظام دعم الحياة بالحقيبة أسترو.
تحديّات التصميم الجديد
جِسي كرافت (بالإنجليزيّة: Jesse Craft) هو كبير مهندسي تصميمٍ في جاكوبس (بالإنجليزيّة: Jacobs)، وهي شركةٌ هندسيّةٌ كبرى بمدينة دالاس (بالإنجليزيّة: Dallas)، اختارتها وكالة ناسا لتجديد نظام دعم الحياة الخاصّ بزيمو. يرى كرافت ومئات المهندسين الآخرين الّذين يعملون على المشروع، أنّ عمليّة التّجديد تتطلّب موازنةً دقيقةً بين أولوياتٍ مختلفةٍ قد تتضارب فيما بينها. فمن الواضح بداهةً أنّ نظام دعم الحياة يجب أن يكون آمنًا، ولكن يجب أيضًا أن يكون خفيفًا بما يكفي ليتناسب مع القيود المحدّدة لوزن المركبة القمريّة، وقويًّا بما يكفي لتحمّل قوى التّسارع (بالإنجليزيّة: G-forces) والاهتزازات الشّديدة الّتي سيتعرّض لها أثناء إطلاق الصّاروخ. يقول كرافت:
«إنّه لتحدٍّ هندسيٌّ كبيرٌ»
يعتبر كبس المزيد من المحتويات في مساحةٍ أقلّ وبكتلةٍ أقلّ، نوعًا مألوفًا من مسائل الاستمثال المعقّدة (بالإنجليزيّة: Optimization problems)، لدى مهندسي الطّيران والفضاء -والاستمثال هو فرعٌ في الرّياضيّات يُعنى باختيار الحلّ اﻷمثل لمسائلَ شديدة الصّعوبة-. لكنّ وكالة ناسا تريد روّادها على سطح القمر بحلول عام 2024، والوفاء بهذا الجدول الزّمنيّ شديد الضّيق يعني أنّ كرافت وزملاءه لا يمكنهم قضاء أسابيع في مناقشة الشّكل المثاليّ لكلّ أداةٍ. و بالتّالي، يقومون بإطلاقٍ تجريبيٍّ لبرنامج تصميمٍ جديدٍ يستفيد من الذّكاء الاصطناعيّ ليتمكّن من ابتداع تصميمات المكوّنات بشكلٍ سريعٍ.
دور الذكاء الاصطناعي في التصميم
يقول جِسي كورس-بلانكِنشِب (بالإنجليزيّة: Jesse Coors-Blankenship)، نائب رئيس التّكنولوجيا في شركة بي تي سي (بالإنجليزية: PTC)، الشّركة الأمريكيّة الّتي صنعت البرنامج:
«نُعرّف الذّكاء الاصطناعيّ بأنّه تقنيّةٌ يمكنها القيام بشيءٍ، بشكلٍ أسرع وأفضل ممّا يمكن للإنسان المُدرَّب القيام به.»
و يتابع قائلًا: «بعض ما تقوم به برامجنا؛ أشياءٌ يعتاد المهندسون عملها، مثل المحاكاة الهيكليّة والاستمثال. ولكن بالذّكاء الاصطناعيّ، يمكننا إنجازها بشكلٍ أسرع.»
يُعرف هذا النّهج للهندسة والتّصميم، بالتّصميم التّكراريّ أو التّوليديّ (بالإنجليزيّة: Generative Design). تتمثّل الفكرة الأساسيّة في تزويد البرنامج بمجموعةٍ من الشّروط للحدّ الأقصى لحجم المكوِّن، أو الوزن الّذي يجب أن يتحمّله، أو درجات الحرارة الّتي سيتعرّض لها، والسّماح للخوارزميّات (بالإنجليزيّة: Algorithms) باستكشاف وتجربة باقي المواصفات.
يجمع برنامج بي تي سي بين العديد من الأساليب المختلفة للذّكاء الاصطناعيّ، مثل الشّبكات الخصوميّة التّوليديّة (بالإنجليزيّة: Generative Adversarial Networks) والخوارزميّات الوراثيّة (بالإنجليزيّة: Genetic Algorithms). يمكننا تشبيه منهج الشّبكة الخصوميّة التّوليديّة بلعبةٍ تنافسيّةٍ، حيث تواجه خوارزميّتان لتعلّم الآلة بعضهما البعض في منافسةٍ لتصميم المكوِّن اﻷمثل. وهي نفس التّقنيّة المستخدمة لإنشاء صورٍ واقعيةٍ لأشخاصٍ غير موجودين. مقارنةً بذلك، فإنّ الخوارزميّات الوراثيّة تنهج نهجًا مستوحًى من الانتخاب الطّبيعيّ. فهي تولّد تصميماتٍ متعددةً، وتدمج فيما بينها، ثمّ تختار أفضل تصميمات الجيل الجديد لتكرّر العمليّة مرارًا. وقد استخدمت وكالة ناسا الخوارزميّات الوراثيّة من قبل، لتصميم هوائيّاتٍ (بالإنجليزيّة: antennas) مثاليّةٍ.
لماذا الاستعانة بالذكاء الاصطناعي في التصميم
يقول كرافت:
«يستطيع الحاسوب تكرار العمليّة لما يزيد بـ 100 أو 1000 مرّةٍ عمّا يمكننا نحن القيام به، ومن ثمّ يأتي بحلٍّ مثاليٍّ ضمن ما حدّدناه من قيودٍ.»
وتلك مزيّةٌ مهمّةٌ، خصّيصًا لأنّ متطلّبات التّصميم النّهائيّ لنظام دعم الحياة لزيمو، لا تزال قيد المناقشة. وأيّ تغييرٍ بسيطٍ في تلك المتطلّبات لاحقًا قد يعني أنّ أسابيع كاملةً من عمل المهندسين قد أٌهدِرت هباءً.
مؤخّرًا، بدأ المهندسون في الاعتماد على برامج التّصميم المدعّمة بالذّكاء الاصطناعيّ لإعادة تصميم كلّ شيءٍ، من هياكل السّيّارات (شاسيه) إلى الكراسي إلى المجمّعات السّكنيّة. من عادة خوارزميّات التّصميم أن تبتدع مكوّناتٍ ذات أشكالٍ غريبةٍ وغير مألوفةٍ؛ فهي خلويّةٌ وانسيابيّةٌ وليفيّةٌ، وتستفيد كثيرًا من المساحات السّلبيّة (بالإنجليزيّة: Negative Spaces). يقول كرافت:
«نحن نستخدم الذّكاء الاصطناعيّ كإلهامٍ. لدينا تحيّزاتٍ للزّوايا القائمة والأسطح المستوية والأبعاد المستديرة؛ ما تتوقّعه من التّصميم البشريّ. لكنّ الذّكاء الاصطناعيّ يتحدّى تحيّزاتك ويسمح لك برؤية حلولٍ جديدةٍ لم ترها من قبل.»
حتّى اﻵن، تعتبر المكوّنات الّتي كُلّف الذّكاء الاصطناعيّ بصنعها عاديّةً جدًّا. يقول شون مِلَر (بالإنجليزيّة: Sean Miller)، مصمّمٌ ميكانيكيٌّ في الفريق، من قسم الأنظمة الحراريّة في وكالة ناسا: «ما زلنا في مرحلةٍ تجريبيّةٍ مبكّرةٍ، لذا فإنّنا لن نعتمد عليه في شيءٍ قد يتسبّب الخطأ فيه بحدوث فشلٍ فادحٍ». فبدلاً من ذلك، تقوم الخوارزميّات ببناء هياكل ودعاماتٍ أفضل للأنظمة الّتي تبقي روّاد الفضاء على قيد الحياة. قد لا يكون التّطبيق الأكثر إثارةً للذّكاء الاصطناعيّ، ولكنّه مثمرٌ. فقد تمكّن الذّكاء الاصطناعيّ من تقليل كتلة بعض المكوّنات بنسبةٍ تصل إلى 50 بالمائة، وعندما يتعلّق الأمر بالسّفر إلى الفضاء، فإنّ كل جرامٍ يُحتسب.
يقول مِلَر:
«عندما تحدّد ناسا متطلّبات منظومة هبوطٍ للبشر، فإنّها تضع حدًّا معيّنًا، علينا أن نلتزم به، لكتلة كلّ شيءٍ في المنظومة قد يخطر على بالك. لهذا نستغلّ أيّ إمكانيّةٍ لتوفير ما يمكننا توفيره من الكتلة فلدينا حدٌّ أقصى يتعيّن علينا الوفاء به لنجاح المهمّة»
عندما أرسلت ناسا البشر إلى القمر للمرّة الأولى قبل 50 عامًا، كان الذّكاء الاصطناعيّ لا يزال حلمًا بعيدًا لدى علماء الحاسوب. قد لا يكون لدى ناسا قواعد على القمر حتّى الآن، ولكن بمساعدةٍ من الذّكاء الاصطناعيّ، يبدو اﻷمر قريب المنال.