ارتبط توسع رقعة الدولة الإسلامية من غزو البلاد بتعاقب الدول على منبر الحكم، إذ كان للثورات رونقها وقيمتها ولعل انتشار الدين في حد ذاته كان ثورة. ليس للدين حسابات تذكر عندما تجوع الشعوب، فليس بالدين وحده تخنع الشعوب، وعندما تفرغ بطون الدنيا لا تملؤها كتب السماء. [1]
«الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معائشهم فإذا امتُحنوا بالبلاء قل الديانون.»
(الحسين بن علي بن أبي طالب)
هنا تتضح قيمة الوعي المرتبطة بفناء مسبب الإيمان، وبالتالي ينتج عنه ثورة، يمكننا أن نسميها إلى مسببها كثورة الجياع إن ارتبط الأمر بمجاعة، أو ثورة الوعي إن ارتبط الأمر بالتجهيل، أو ثورة الأمل إن ارتبط الأمر بنشر اليأس.
إذا اعتبرنا أن الثورة هي التحرر من مقت وغضب وجهل، فيمكننا اعتبار الإسلام ثورة إذ قدم بطرحه الفلسفي أيديولوجية حية للتعبير عن التغيير النمطي في الفكر والتعبير، فجعل من بلاد منعدمة الحضارة والعلم بلادًا ذات قيمة حضارية وثقافية وفكرية لم يكن لها مثيل في وقتها -إذ أخذت من كل رونق ضوءً وأضافته لها فجمعت مترجمين وبنائين وعلماء وأضافتهم لصبغة الدين- ولكن بعد انتشار الدين وإنشاء الخلافة توالت نظم الحكم المختلفة بسياقات سياسية مختلفة وباضطهاد للأغلبية المحكومة.
وهنا يمكننا سرد رؤية الثورة في الدولة الإسلامية ببدايتها وتوالي أفكارها، إذ لم تكن الثورة فيما بعد إلا انقلابًا على نظام الحكم إثباتًا للحق في الحكم الإسلامي.
وهذا ما قد كثر في التاريخ الإسلامي وأريقت بسببه دماء الكثيرين من الأبرياء، ورغم كثرتها -بحكم العقلية الغوغائية أو الجاهلية التي لم يتمكن العرب من التخلص منها رغم ازدهار حضارتها- إلا أنها بدون فلسفة منهجية واضحة أو بعلم ممكن أو حتى مسبب أيديولوجي يمكن البحث فيه إلا فيما ندر، بل هي مجرد انقلاب سياسي للوصول إلى كرسي الحكم ولا يسعنا في بحثنا إلا ذكر منبعها وأساسها أو بداية نشوء فكرة الثورة من أجل الحكم.
رغم كثرة التفسيرات التي ترفض فكرة الثورة للخروج على النظام الحاكم إلا أن تاريخ الدولة الإسلامية كان على صعيد الثورة مرتفع، فكانت هناك ثورات حقوقية: كثورة الزنوج ضد الاستعباد، وثورة بن حفصون ضد المركزية والظلم الاجتماعي، واقتصادية: كثورة القرامطة، وثورة بن ليث للحرفيين، وحركة الفتاك وصقورة للمهمشين، وفكرية وروحية: كثورة أبي ذر. وهذا ما نحن منوطون بذكره.
الثورة على عثمان
وبادئ ذي بدء، فإن بداية مفهوم الثورة في الخروج عن نظم الحكم كانت في عهد عثمان بن عفان، ورغم تسميتها بحادث الفتنة إلا أنها كانت ثورة ضد ظلم أوقعه عثمان وولاته على أهل البصرة والكوفة ومصر.
من نفي وتنكيل وتغيير، لما ينافي منهج أبي بكر وعمر، حتى إن النفي قد طال أبي ذر لرفضه السياسة المالية لعثمان، (أبي ذر: هو صحابي جليل زاهد ويعتبر صاحب فتيل ثوري لدعوته لثورة روحية زاهدة ضد معاوية في عهد عثمان وضد عثمان نفسه)، وكاد النفي أن يطل عمار بن ياسر وعلي لولا وساطة المقربين من عثمان، وقد كثر ذهابهم إليه بشكوى تتضمن زيادة سيطرة بنو أمية وجورهم على غيرهم ورغبتهم في أخذ أراضي السود في العراق والتعسف لمن يقول بأن ليس للقرشيين فضل أو زيادة على أحد وضد من يوليهم عثمان من أهله ومن جورهم -آل عثمان- عليهم أهل الشكوى، ومن زيادة مالهم وقد نُفي الكثير منهم ومنهم طائفة القراء.
ومن أهل العراق ومنهم عبد الله بن مسعود وأبو موسى الأشعري وهم متعبدون بالقرآن، وكانوا يعملون في التوجيه وإسداء النصح في أمور العامة، ولهم دور تعليمي في تعليم القرآن في مساجد الكوفة، ووقفوا ضد الوليد بن عقبة لشربه الخمر فنفى الخليفة الكثير منهم بتهمة إفساد الكوفة على الوالي، ولكنهم عادوا وكلما عادوا اشتد الضيق عليهم والتنكيل بهم ووصل الأمر إلى قتل بعضهم. [2]
وقد أرسل عثمان للكثيرين لينقذوه بمدد مثل معاوية وابن أبي سرح وسعيد بن العاص واستشارهم فأشار عليه معاوية بأن يترك لهم حكام الأقاليم، وأشار عليه سعيد بقتل المعارضة، وابن أبي سرح بأن يرشوهم بمال، أما عبد الله بن عامر فأشار عليه بأن يشغل المسلمين بالفتوحات والغزوات، وعمل عثمان بهذا الرأي.
ولكن الأمر لم ينجح فقد ضاق بهم ذرعًا في مصر ما يفعله ابن أبي سرح، وقد قدموا لعثمان يأمروه بإقالة أبي سرح لكنه لم يستجب فعادوا إليه فخرج لهم عليّ ومحمد بن سلمة، فعادوا لإخبارهم بتولية محمد بن أبي بكر ولاية مصر حتى أنهم وجدوا كتابًا من عثمان إلى عبد الله بن أبي سرح يأمره بقتلهم فعادوا إليه وحاجوه بما رأوه وطالبوا بعزله، فرفض وأرسل لهم عليًّا ليحثهم على التريث لثلاثة أيام وقد كان، وبعد الثلاثة أيام لم يتغير شيء فاشتد حصارهم عليه حتى رمى أحد المدافعين عن عثمان بسهم إلى نيار بن عياض الأسلمي فمات فطالبوا عثمان بإخراج قاتل نيار ليقتصوا منه فرفض عثمان فاقتحم الثوار الباب وأصابوا الكثيرين وقتلوا الكثيرين، ومات منهم الكثير حتى دخلوا إلى عثمان فقتلوه وقطعوا أصابع زوجته وهي تدافع عنه، وفي اليوم التالي أو بعد خمسة أيام تولى علي الخلافة فأراد علي التريث لثبات الحكم ثم القصاص من قتلة عثمان، فظهرت فرق تطالب بالقصاص أولًا مثل معاوية، وعائشة، وطلحة، والزبير وكان هذا سببًا في موقعتين، موقعة الجمل والتي انتهت، وموقعة صفين بين معاوية وعلي وانتهت بالتحكيم وانشقت حينها جماعة رفضت التحكيم وسميت بالخوارج وقد عزموا على قتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص لكنهم قتلوا عليًّا فقط، وقد بايع الناس من بعده الحسن لكنه تنازل عن الخلافة لمعاوية ليبدأ عهد الدولة الأموية. [3]
ثورة الزنج
وقد حدثت فيها ثورة الزنج -اسم الزنج هو اسم استعبادي ولكنه ناتج من المصدر فوجب نقله كما وجب التنويه عن عنصريته- فبعدما انتقلت الدولة الإسلامية من خلافة إلى مملكة أصبح نظام الحكم إقطاعيًا، فقد زادت الضرائب مما اضطر الفلاحين للعمل بالسخرة في الأراضي، فاستقدمت الدولة عبيدًا للعمل خصيصًا في الأراضي الملحية وكانوا من أصحاب البشرة السمراء ومن الهنود، ورغم إسلامهم إلا أنهم لاقوا جميع أنواع الإهانة فقاموا تحت قيادة شير زنجي بالامتناع عن العمل، وبالمطالبة بحقوقهم حتى سيطروا على جنوب العراق وانضم لهم المضطهدون من الدولة ودخلوا إيران لكن عبد الملك بن مروان أرسل لهم الحجاج بجيش ليوقفهم، وقد نجح الحجاج في إخماد الثورة والقبض على قائدها وإعدامه. [4]
ونجد هنا فلسفة الثورة تتمثل في تحويل منهجية الإنسان من عامل إلى أناركي، ونتاج التحويل من نبع دولة اللاعدالة حتى وإن كانت إسلامية أو دينية، كما تتمثل في رغبة إرساء قواعد العدل والعمل والوقوف ضد الاضطهاد بأيديولوجية غير سلمية تتبع الفكر الغوغائي الهرمي والذي يمكن ببساطة القضاء عليه بالتخلص من قادته، وهذا ما أقامه الحجاج وبذلك انتهت سريعًا ثورة الزنوج.
ثورة البشامرة
وعلى صعيد آخر في مصر، أثناء الحكم العباسي، في عهد الخليفة المأمون ترتفع الجزية والاضطهاد والمغالاة في نشر الدين فتظهر ثورة البشامرة (أهل بشمور، وهو إقليم البرالسة البشامرة الموجود في شمال شرق الدلتا بمصر) وهم في الأصل أقلاط تزوجوا بيونانيين وكانوا يصنعون أوراق البردي ويصدرونها، وقد بدأت ثورتهم في هذا العهد بعد أن زادت كورة الغلاء فأصبحت خمس ويبات القمح بدينار، كما زاد الخراج والجزية وقد مات الكثير من النساء واضطر الرجال لبيع أطفالهم، وكان حاكم المنطقة عيسى الرافعي يعذبهم عذابًا شديدًا مما أثار غضب الأهالي، فقرروا عمل إضراب والامتناع عن الدفع وعن تسخير الأطفال للعمل فقام عسكر السلطان بالجور عليهم وقتل الكثير منهم فصنع البشامرة سلاحًا وحاربوا، فأرسل السلطان للبطرك أنبا يوساب بأن يرسل لهم رسلًا تمنعهم من القتال ولكنهم رفضوا حتى تنصلح الأحوال وقاموا بالرد على الرسل بعنف، كما قاموا بنهب بعض الأماكن القريبة، وثارت بعض القبائل في غرب البلاد والبعض منهم انضم للبشامرة، وكلما جهز أمير البلاد جيشًا قضى البشامرة عليه ولما علم المأمون سخط وثار عليه فقال له لولا أعمالك لما ثار الناس عليّ وعليك فخرج لهم المأمون بجيش من بغداد حتى قضى عليهم وقبض على عيسى الرافعي. ويذكر أن سكان هذه المنطقة وقفوا وحدهم في وجه كل محتل روماني أو هكسوسي أو عربي وبذلك انتهت ثورة البشامرة التي لم تقم لولا الظلم الطبقي والاجتماعي والاقتصادي لفئة عاملة. [5]
ثورة بن حفصون
وفي الأندلس يأتي عمر بن حفصون بثورة المولدين، فبعد الحرب الأهلية التي فرقت الأندلس ل23 إمارة كان عمر من المولدين (أم غير عربية) وكانت الدولة آنذاك تضطهد المولدين والعاطلين والبسطاء والبربر، فمشى في الناس يحدثهم عن مبادئ الإسلام ومبادئ الحكام وعن ضرورة الخروج على هيكل النظام لأنه لا يطابق بنتيجته ما دعى إليه الإسلام، ولاقت أفكاره استحسان الناس، فخرج بهم حتى أصبحوا جيشًا ولهم نظام حكم، وبدأ في توسيع إمارته حتى أرسل أمير قرطبة له جيشًا وفي كل مرة كان يعود خائب الرجاء، وكان الفاطميون يدعمونه، حتى شن عبد الرحمن الناصر هجومًا قضى به على ما بدأه بن حفصون، وبعدها بعامين طلب بن حفصون الصلح مقابل أن يتنازل عن كل شيء ويقبل بإمامة الناصر وقد كان وانهارت مركزية بن حفصون. [6]
ثورة الأشعث
وفي جنوب العراق حمدان بن الأشعث بأيديولوجية مذهبية مختلفة كشيعي إسماعيلي مع سعيد بن جبير وأنشأ دولة القرامطة ذات الطابع العلمي المناهضة للأوبئة والأمراض -نظرًا لأنها كانت المنطقة الوحيدة الأقل ضررًا من الطاعون- والاشتراكية اقتصاديًا نظرًا لمبادئها الأيديولوجية المؤسسة على طابع بنائية الدولة من خلال العمل الجماعي المشترك، وقد كانت دولة قوية اقتصاديًا وعلميًا فنقلت التراث واهتمت بحركة الترجمة ونشر العلوم بين العامة ويعتبرها بعض المستشرقين مكان نقل الحضارة من العالم القديم للعالم الحديث، وحاول العباسيون دحض هذه الدولة بالعطايا والمؤامرات ونزع الأرض والاستيلاء، فقام أبي طاهر الجنابي بدخول مكة وأخذ الحجر الأسود كمقابل لحل النزاع السياسي، وقد أعاده عام 340 هجريًا، حتى استقطبتها الدولة الفاطمية فاندثرت بداخلها وانتهت بعد 200 عام من القوة والعلم. [7]
ثورة الحرفيين لابن ليث
وفي سجستان يأتي العامل المنمق يعقوب بن ليث في فترة العسكر التركي في الخلافة العباسية عهد المعتمد والمعتضد الذي رفع الضرائب ضعفين مرة واحدة فما كان من العمال إلا الانتقال إلى المدن للعمل، فلما رأى يعقوب ما آلت إليه الأمور جمع الحرفيين والفلاحين، وقرروا الثورة ضد الخلافة العباسية بل وإنشاء دولة الحرفيين أو الدولة الصفارية من أفغانستان حتى إيران، وقد وضع لها حراكًا نظاميًا فارسيًا قويًا، بفضله لم ينتصر عليه أحد، بل أقام نهضة عمرانية في الجبال، وأسس نظامًا استخباراتيًا، وكان على مقربة من بغداد فقررت الدولة مهاجمته حتى انتصر عليها، فاعترفت الخلافة بحكمه وقررت أن تغريه بالسياسة، لكنه رفض إلا أن يدخل بغداد فانهزم، فاقترحت الدولة تبعيته لها بوضع اسم الخليفة على عملته مقابل أن يختار خليفة لبغداد، فوافق ولكنه سرعان ما مات، ومن بعده ابنه عمر الذي قرر أن يحارب كمستقل حتى هزمه المعتضد وأعلن سقوط دولة الحرفيين. [8]
ويذكر ابن بطوطة حركة الفتاك في الهند ويشبهها بحركة صقورة التي حضرها، والتي وردت في كتاب «المهمشون في التاريخ الإسلامي لمحمود إسماعيل». [9]
خاتمة
وبذلك نجد فشل كل هذه الثورات رغم اندماج فلسفتها بواقع الناس، لكنها لم تؤسس تطابقًا يحافظ على اختلاف الجماهير واحترامهم أو صهرهم في بوتقة واحدة ينتمون إليها، كما كانت تفتقد للإيمان الكامل من خلال مؤيديها، لذا كانت الكلمة دومًا للسلطة نظرًا لقوتها المالية والعسكرية، فكان من السهل بث العنف بين الجماهير والذين كانوا من العوام والبسطاء فكانت أعمالهم متسمة ببعض الجهل من الإيمان بخرافات كالسحر واستخدام العنف، ونظرًا لأن الحكم في الدولة الإسلامية كان حكمًا دينيًا ثيوقراطيًا بأن الخليفة هو ظل الله على الأرض فكان من السهل تحريم الثورة بفتاوى تحمل بين طياتها منهجًا يهدم كل ما يناقض الدولة وينقضها، وفيما يلي ذلك كانت تقام دول باسم الثورة وينتفض الناس ضدها باسم الثورة وتنتهي أيضًا باسم الثورة.
وكانت الكلمة دومًا للقوة دون أي فكر أو أيديولوجية يمكن الاستناد عليها لدراستها بشكل علمي غير دراسة اندفاع سيكولوجية الجماهير من خلال الواقع الإجتايكولوجي «human ecology»، و«social ecology»، والتي يمكننا التعريف بأنها الدراسة المعنية بالحالة الاجتماعية والبيئية والنفسية للفرد في بيئته، ونجد أن السمة القهرية الناتجة من سلطة أو هيمنة الدين المتبدلة بهيمنة الإله على الكون هي سمة السلطة في مواجهة الإنسان، والذي كان يحاول في هذا العصر أن يكون حرًا كما يدعوه دينه أن يكون، وبدلًا من ذلك لم يجد غير الظلم السياسي والطبقية فواجهها بعنف مقابل عنف، وكما أوضح «جيمس كوين» أن التفاعل الأيكولوجي يتم من خلال الاعتماد على موارد بيئية محددة ومحدودة بحيث يكون تأثير الفرد على الجماعة ناتج من تأثيره على الموارد المعينة، فكانت السلطة في مقابل الثورة بمثابة الكلمة في وجه الطعام ورغم أنه في البدء كانت الكلمة اقرأ، فإن العالم لم يكن ليشبع من خلال الكلمة.