يختلف الرحّالة في توثيق رحلاتهم التي ينقلونها إلينا بكل انبهار وإشادة بالثقافات المختلفة. وفي العصور القديمة، كان أدب الرحلات هو حلقة الوصل بين العالم، فهناك من كتب بالصدفة، وهناك أيضًا من كان لديه نيّة الكتابة والتوثيق، ولكن ما الغرض من التوثيق؟ خصوصًا إذا كانت تفاصيل صغيرة لا يهتم بها أحد، كالأكل والشرب والاحتياجات المعيشية البسيطة، لكنها على مر السنين تُصبح تأريخًا ورؤيةً شاملةً لبلادٍ ما في زمنٍ بعيد، فما الغرض من الرحلة؟
الرغبة في الاكتشاف والتجديد
«ليس أروع ولا أمتع من رؤية بلدٍ جديد، من معرفة شيءٍ جديد، من الخوف من جديد، والقلق من جديد، والاطمئنان من جديد»(1)
هكذا كان يرى أنيس منصور الرحلة، حيث كل شيء جديد ومبهر حينما كتب كتابه الشهير «حول العالم في 200 يوم»، ونجد أنه ركز بشدة على دول جنوب شرق آسيا التي أبهرته، فدائمًا ما توثق الرحلة الثقافات المجتمعية أكثر من أيِّ شيءٍ آخر.
وحكى منصور عن ما رآه في هذه البلاد فكتب:
«في الهند تعلمت أن الدنيا من الممكن أن تعيش من غيري، وأن الناس يعيشون حياتهم ويمشون على نظامٍ خاص، وأن هذا النظام سواء أعجبني أم لم يعجبني فلن يغير هذا شيئًا، فإما أن أسكت أو أخرج من البلاد. وفي إندونسيا يضحك الناس دائمًا ولا يعملون إلا القليل. وفي الصين يضحك الناس كثيرًا ويعملون كثيرًا. وفي اليابان مؤدبون ضاحكون وقدرتهم على العمل خارقة؛ يعني من الممكن أن يكون الإنسان مؤدبًا وباسمًا وناجحًا في عمله».(2)
عمَّ نبحث؟
هناك دومًا شيءٌ ما ضمن الرحلة جديرٌ بالتوثيق، بل وبرع في ذكره الآلاف من الرحّالة القدامى أو حتى الكتّاب المعاصرين. الكل كان يبحث، فوجد البعض نفسه، والبعض نقل إلينا ما رآه في البلاد الأخرى من ثقافات مختلفة وأحيانًا تبدو غريبة، وآخرون أجمعوا على أن الكنز في الرحلة!
بينما كانت إليزابيث تبحث في رواية «طعام صلاة حب» خلال هذه الرحلة الطويلة عبر ثلاثة بلاد مختلفة عن التوازن النفسي أولًا، ثم التوازن في عموم جوانب الحياة.
كانت في أول الأمر تعاني من الاكتئاب بعد طلاقها، لكنها قررت أن تجوب ثلاثة بلاد مختلفة تمامًا عن بعضها بعضًا؛ وجهتها الأولى كانت إيطاليا حيث عرفت حب الأكل والاستمتاع حقًا بالحياة، فتعد أول خطوة تجاه التوازن هي التي خطتها إليزابيث نحو حيوية إيطاليا التي ملأتها بالحياة.
ثم انتقت الهند لتكن المحطة التالية، حيث اكتشفت هناك قدرة التأمل والاسترخاء على الترحال داخل نفسها والوصول إلى التوازن الداخلي.
أما المحطة الأخيرة كانت إندونيسيا حيث وجدت الحب لتُكمل حلقة التوازن التي قد بدأت إليزابيث رحلتها بحثًا مستميتًا عنها.
وسواء وصلت في رحلتك إلى التوازن أم لا، فإن إليزابيث تكتب إلينا ما ورد في نص من نصوص اليوجا حيث يُقال فيه:
«إنه من الأفضل أن تعيش مصيرك غير الكامل من أن تعيش مُقلِّدًا حياةَ شخصٍ آخر بالضبط، حتى وإن كانت مثالية».(3)
حتى نصل إلى رؤية مختلفة
أدب الرحلات منذ قديم الأزل هو الأدب الذي يكشف الأسرار، ويعكس الحياة الاجتماعية في البلاد التي يزورها المؤلف أو الرحّال، لكن ماذا لو كان هذا الانعكاس من عين غريبة وبعيدة كل البعد، فهل تختلف الرؤية؟ أو ستختلف تفاصيل الرحلة؟
هنا في كتاب «الحياة في بيوت فلسطين» ترشدنا ماري إليزا روجرز إلى رؤية مختلفة عن فلسطين في الفترة بين 1855 إلى 1889.
وهذا الكتاب في الأصل يعد حصيلة رحلاتها أثناء مرافقتها لشقيقها إدوارد توماس روجرز، الذي شغل مناصب دبلوماسية وقنصلية في القدس ودمشق والقاهرة، وأخيرًا حيفا التي هي بداية هذه الرحلة المختلفة.
يبدأ الكتاب بسفر ماري إلى حيفا، حيث ينبض قلبها لأنها بالقرب من المدينة المقدسة التي تتحرى إليها شوقًا، وعلى الرغم من الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية المزرية التي سادت تلك الحقبة (كانعدام النظافة العامة، وتفشي المرض والجهل والانقسامات الاجتماعية الصارخة) في فترة اصطبغت بالفساد وبتداعي أركان المؤسسات الرسمية للدولة العثمانية، فإن السيدة روجرز تكشف بكتابها هذا عن أصول المظاهر الاجتماعية والثقافية التي أقام عليها الفلسطينيون وما يزالون من تقاليد وعادات في الطعام والتضامن والتراحم.(4)
حيث تحكي روجرز عن أهالي مدينة نابلس فتقول:
«الارتباط العاطفي للأهالي ببلدتهم جليٌّ للغاية، فهم يُكنِّون لها الكثير من مشاعر الفخر، ويبدو أنهم يؤمنون بأن ما من مكانٍ يضاهيها في المعمورة بأسرها»(5)
كما وثقت روجرز أحداثًا اجتماعيةً دقيقة في كتابها كالأعراس، ومراسم الدفن، والعزاء، إلى جانب المناسبات الدينية. والذي لفت انتباهها بشدة كانت الحوارات الداخلية بين النساء مع بعضها بعضًا، والتعرف إلى تفكيرهم ووعيهم السياسي السابق لأوانه.
لم تكن روجرز تتنقل بين المساجد ومعالم البلاد فحسب، بل كانت تصفها وصفًا دقيقًا للغاية وكأنك ترى ما تصفه أمامك، فهي ترسم حياة اجتماعية ملهمة بالكامل.
فمن الواضح أن روجرز قدمت كل ما رأته دون إضافة أو تهويل استشراقي، حيث أضافت كل ما شاهدته. استمتعت بالرحلة بين دروب فلسطين، وجلست داخل البيوت، وتحدثت وانبهرت، قبل أن تنقل تلك الرحلة الثمينة إلينا.
المصادر:
(1): أنيس منصور، حول العالم في 200 عام، دار الشروق
(2): أنيس منصور، حول العالم في 200 عام، دار الشروق
(3): إليزابيث جيلبرت، طعام صلاة حب، Penguin Books
(4): مي صيقلي، مقدمة كتاب الحياة في بيوت فلسطين (1855ـــ 1859)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر
(5): ماري روجرز، الحياة في بيوت فلسطين (1855ـــ 1859)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر