قد يكون مصطلح الكروماتوغرافيا غير شائع بين الناس، وقد يقتصر على المعامل والمختبرات فقط، لكن ما يجب أن نعرفه أن هذه التقنية تستخدم في العديد من التطبيقات، بداية من كوب الماء الذي نشربه، حتى مسرح الجريمة.
في هذا المقال سنتحدث عن تقنية الكروماتوغرافيا: أساسها، ومخترعها، ومميزاتها، وأنواعها، وتطبيقاتها.
ما هي الكروماتوغرافيا
الكروماتوغرافيا هي تقنية تحليل مكونات أي خليط من المواد، لنجري تجربة بسيطة، عند وضع نقطة حبر على ورقة ترشيح، ثم غمس طرفها في كوب من الماء، سنجد أن الماء تسلق الورقة، وانفصلت نقطة الحبر إلى الألوان المكونة لها على هيئة بقع عليها بعد تجفيفها، اعتمدنا في هذه التجربة على وجود مذيب سائل متحرك وهو الماء، ودعامة صلبة عبارة عن ورقة من السليلوز تمثل الطور الثابت، والطور المتحرك هو ما نحتاجه في الكروماتوغرافيا لفصل أي خليط.
مصطلحات خاصة بالكروماتوغرافيا
الكروماتوغرافيا «التحليل اللوني» هي تقنية تحليليَّة شائعة الاستخدام لفصل مخلوط من المواد الكيميائية إلى مكوناته النقية، يمكن من خلالها تحليل ومعرفة مكونات الخليط بدقة. هناك أنواع عديدة من الكروماتوغرافيا، على سبيل المثال: كروماتوغرافيا السائل، وكروماتوغرافيا الغاز، وكروماتوغرافيا التبادل الأيوني، وكروماتوغرافيا الورق، ولكن كل هذه الطرق تستخدم نفس المبادئ الأساسية في فصل الخليط.
قبل الدخول في آلية فصل المركبات، لنعرف بعض المصطلحات المُستخدمَة في هذه التقنية:
- الوسط الثابت (Stationary phase): هي المادة التي تظل ثابتة وتكون صلبة، أو سائلة ممتزَّة على دعامة صلبة في أنبوب زجاجي «العمود».
- الوسط المتحرك (Mobile phase): وهو المذيب الذي يتحرك ويكون سائلًا، أو غازيًّا.
- العينة أو الخليط (Analyte): المادة المراد فصلها.
يُمكن فصل المكونات بالاعتماد على خاصيتين للجزيء: الامتزاز والذوبان.
الامتزاز: خاصية تُعَبِّر عن مدى ارتباط أحد مكونات الخليط بسطح المادة الصلبة «الطور الثابت».
الذوبان: هو خاصية مدى ذوبان أحد مكونات الخليط في المذيب «الطور المتحرك».
كلما زادت درجة الامتزاز على سطح الوسط الثابت، قلَّت سرعة سريان المُركب، وكلما زادت قابلية الذوبان في الطور المتحرك، زادت سرعة تحرُّك الجزيء خلال العمود، وهكذا تُفصَل المكونات عن طريق اختلاف سرعات السريان لكلِّ مكوِّن من الخليط.
يمكن التحكم في عملية الامتزاز أو الذوبان للمادة، عن طريق اختيار الطور المتحرك والطور الثابت المناسبين للمادة المراد فصلها.(1)
مبدأ الكروماتوغرافيا
تعتمد تقنية الكروماتوغرافيا على استغلال الاختلاف في قطبية الجزيئات المختلفة في الخليط. في هذه التقنية، يعمل السائل كطور متحرك ويندفع خلال طبقة من المادة الصلبة تسمى «الطور الثابت». يضاف محلول من العينة، يحتوي على الخليط المراد فصله، إلى المذيب «الطور المتحرك» الذي ينتقل خلال الطور الثابت. ثم تُفصل المكونات في الخليط بناءً على قطبيتها مع كلٍّ من الطور الثابت، والمتحرك. الجزيئات التي لها انجذاب أكبر إلى الطور الثابت تنتقل بسرعة أقل من الجزيئات ذات التجاذب الأقل. ثم تُقارَن الجزيئات المفصولة بالمعايير المعروفة وتحديدها.(2)
تاريخ الكروماتوغرافيا
يعزي اكتشاف تقنية الكروماتوغرافيا إلى عالم النباتات الروسي «ميخائيل تسفيت» الذي لقِّب بـ«أبو الكروماتوغرافيا»، كان اكتشافه لهذه التقنية عام 1900م من خلال أبحاثه على كلوروفيل النبات، وفصل الأصباغ النباتية مثل الكلوروفيل والكاروتين، حيث استخدم عمودًا من كربونات الكالسيوم -كطور ثابت- لامتزاز السوائل، ثم أضاف محلول من أصباغ النبات إلى أعلى العمود، استخدم مذيبًا عضويًّا كطور متحرك. ظهرت الأصباغ كسلسلة من الأشرطة الملونة المنفصلة على العمود.
نظرًا لأن «تسفيت» كان يعمل مع المواد الملونة، فقد أطلق على الطريقة «اللوني».
تغيرت الكروماتوغرافيا بعد ظهور الفكرة من قبل العديد من الكيميائيين والعلماء.
لقد تطوّرت تقنية الكروماتوغرافيا بشكلٍ كبير على يد العالمين البريطانيين: (أرشر مارتن- Archer Martin) و(ريتشارد لورانس- Richard Laurance)، مما أهّلهما للفوز بجائزة نوبل للكيمياء عام 1952م، الأمر الذي شجع على تطوير طرق التحليل اللوني إلى وقتنا الحالي.(3)(4)
مزايا الكروماتوغرافيا
- تستخدم على نطاق واسع، حيث يمكن فصل وتنقية العينات المختلفة مثل: عينات الماء، وعينات الهواء، والوقود، وجزيئات الطعام، والأدوية، والمبيدات الحشرية، والعينات البيولوجية.
- يمكن فصل جميع مكونات خليط كيميائي متعدد المكونات دون الحاجة إلى معرفة مسبقة واسعة بماهية، أو عدد، أو الكميات النسبية للمواد الموجودة في الخليط.
- وتعد التقنية متعددة الاستخدامات، من حيث قدرتها على التعامل مع الأنواع الجزيئية التي تتراوح في الحجم من الفيروسات المكونة من ملايين الذرات إلى أصغر الجزيئات مثل الهيدروجين الذي يحتوي على ذرتين فقط، فيمكن فصل عينات بالأوتوجرام (10-18).
- يمكن فصل كمية كبيرة أو صغيرة من الخليط.
- كما تستخدم في فصل عينات شديدة التعقيد.(4)
أنواع الكروماتوغرافيا
تطورت الكروماتوغرافيا على مرِّ السنين مع اختلاف الاحتياجات المتنوعة للفصل الجزيئي، فيُستخدَم اليوم في المختبرات عدة أنواع من الكروماتوغرافيا في جميع أنحاء العالم سنذكرها بإيجاز.
الكروماتوغرافيا الورقية (Paper Chromatography)
تَستخدم الورق كطور ثابت، حيث تُلامس الورقة المذيب الذي يعمل كطور متحرك، وتظهر المكونات كبقع متدرجة على الورقة.
- الطور الثابت عبارة عن سائل منقوع في ورقة، أو شريط من الورق «السليلوز».
- الطور المتحرك عبارة عن مذيب سائل.
- تقضي بعض المكونات وقتًا أطول في الطور الثابت أكثر من غيرها تبعًا لقطبية الجزيئات، وتظهر المكونات كبقع منفصلة منتشرة على الورق بعد التجفيف.
كروماتوغرافيا الطبقة الرقيقة (Thin Layer Chromatography- TLC)
- الطور الثابت عبارة عن طبقة رقيقة من مادة ماصَّة من السيليكا (SiO2)، أو الألمونيا (Al2O3) تغطي لوح من البلاستيك، أو الزجاج.
- تنفصل المكونات بناءً على قوة التصاق المادة بالطور الثابت، كما هو الحال مع الكروماتوغرافيا الورقية، وتظهر المكونات أيضًا كبقع على الورقة.
كروماتوغرافيا العمود (Column chromatography)
يكون كل من الطور الثابت والمتحرك في عمود زجاجي
كروماتوغرافيا السوائل (High Pressure Liquid Chromatography-HPLC)
كروماتوغرافيا السوائل عالية الكفاءة؛ من أحدث الطرق المُستخدمة ويتكون من جهاز أكثر تعقيدًا من الطرق السابقة.
تدخل عينة من الخليط المراد فصله في المذيب السائل -الطور المتحرك-، يمرُّ الطور المتحرك من خلال أعمدة تحت ضغط جوي يتراوح من 10 إلى atm 400، يتفاعل كلُ مكون من مكونات الخليط مع المادة الصلبة -الطور الثابت- بطريقة تختلف قليلاً عن المكونات الأخرى، وبذلك تنتج معدلات تدفّق مختلفة (Rate of flow)، مما يؤدي إلى حدوث الانفصال.
في هذه التقنية يمكن التحكم في سرعة سريان السائل ودرجة الحرارة وفق المعايير العالمية لكل مادة يُراد فصلها، وتُستخدم هذه التقنية عادةً في الكيمياء الحيوية، وتعطي نتائج مثالية في فصل العديد من المواد، ومنها الأحماض الأمينية، والكربوهيدرات، والدهون، والأحماض النووية، والبروتينات، والمُنشِّطات، والجزيئات البيولوجية الأخرى.
كروماتوغرافيا الغاز (Gas Chromatography)
يُستخدم غاز خامل «الأرجون، والهليوم، والنيتروجين» كطور متحرك، بينما تُستخدم مادة سائلة، أو صلبة وتكون عادة «بوليمرات السيليكون» في الطور الثابت، تُفصل مكونات العينة حسب درجة الغليان، الجزيء ذو درجة الغليان الأدنى يخرج أولا من العمود، يليه الجزيء ذو درجة الغليان الأعلى. هذه التقنية بسيطة، وحساسة للغاية، وسريعة التطبيق، وتعطي نتائج ممتازة في الجزيئات الدقيقة جدًًا. يمكن استخدامها في فصل كميات قليلة جدًًا من المواد التحليلية.
كروماتوغرافيا التبادل الأيوني (Ion-exchange Chromatography)
يُستخدم هذا النوع في فصل الجزيئات المشحونة منها الببتيدات، والأحماض الأمينية، ويعتبر هذا النوع من أنواع الكروماتوغرافيا السائلة. يكون الطور الثابت هنا عبارة عن مادة صلبة مشحونة تتميز بخصائص أيونية محددة بالنسبة لعدد الشحنات الموجبة أو السالبة، وموقعها على المادة، بينما يكون الطور المتحرك عبارة عن محلول موصِّل، وتكون شحنته معاكسة لشحنة الطور الثابت حتى يحدث التبادل الأيوني، يتحقق التقارب بين الجزيئات والمادة الصلبة بواسطة الروابط الأيونية. يتضمن الفصل ظروفًا مختلفة مثل القوة الأيونية «تركيز الأملاح»، ودرجة الحموضة «الأس الهيدروجيني» بحيث تنطلق الجزيئات الذائبة من العمود بترتيب نقاط قوة ارتباطها، ويتم التخلص من المواد الأكثر ضعفًا أولاً.
كروماتوغرافيا الاستبعاد (Size Exclusion Chromatography)
تُفصل المكونات اعتمادًا على حجم الجزيئات، يكون الطور الثابت مادة صلبة عبارة عن كرات صغيرة مسامية يسهل اختراقها، وتكون عادة من السيليكا، يُسكب الخليط المذاب في محلول بالعمود، فتنحصر الجزيئات الصغيرة في مسام الطور الثابت بينما تتدفق الجزيئات الكبيرة عبر الفجوات بين الحبيبات، لذا فإن الجزيئات الأكبر تظهر أولًا، ولا يوجد في هذا النوع أي تفاعل كيميائي، أو فيزيائي بين العينة المراد فصلها، والطور الثابت المسامي.(1) (5)
تطبيقات الكروماتوغرافيا
مصطلح الكروماتوغرافيا قد يكون غير شائع بين الناس، وقد يقتصر فقط على المختبرات، لكن في الواقع هذه التقنية تؤثر في حياتنا اليومية بطرق مختلفة، تلعب تقنية الكروماتوغرافيا دورًا هامًّا في مجال الطب الشرعي، وتنظيم الغذاء، وفي فصل العديد من المركبات السامة، وأيضًا في مراقبة جودة الأطعمة، والعديد من الصناعات.
لكل نوع من أنواع الكروماتوغرافيا استخداماته الكثيرة في مجالات الصناعة المختلفة، ومجالات البحث العلمي ومجالات التحاليل الطبية، سنذكر هنا أمثلةً من تطبيقات الكروماتوغرافيا في حياتنا اليومية
- في محطات تنقية المياه، لاختبار ومراقبة جودة مياه الشرب.
- في الكشف عن الأدوية في البول، وسوائل الجسم الأخرى.
- في مصانع وشركات البترول، والمبيدات، والأدوية، ومستحضرات التجميل
تستخدم تلك المصانع أيضًا التحليل الكروماتوغرافي لمعرفة ما إذا كانت المواد والخامات التي يعملون بها موافقة للمعايير القياسية.
- في صناعة الأدوية، لتنقية المواد وتحليل المركبات الكيميائية لتتبُّع الملوِّثات.
- في إنتاج الأمصال، عن طريق معرفة أي الأجسام المضادة أكثر تأثيرًا على الفيروس.
- لمراقبة الجودة في صناعة المواد الغذائية:
- فصل وتحليل المواد المضافة، والمواد الحافظة، والفيتامينات، والبروتينات.
- للكشف عن السموم، والملوثات في الطعام.
- في الطب الشرعي: تساهم تقنية الكروماتوغرافيا في التحقيقات الجنائية بشكل كبير، فعن طريق تحليل عينات الدم يمكننا معرفة المواد السامة، أو الكحولات، أو المخدرات الموجودة في الجسم، ويمكن أيضًا تحليل عينات الأقمشة، والأطعمة الموجودة في مسرح الجريمة، ويمكن الكشف عن وجود المواد الكيميائية المتسببة في الحرائق.(2) (6)