ارتبط وجود الإنسان بالبحث عن المعرفة، وهذا يظهر جليًّا عند الإنصات لأسئلة الأطفال، فالإنسان في سعي دائم للإجابة عن الأسئلة التي يُولّدها العقل، فنتج عن ذلك ظهور مذاهب عدة لتحقيق تلك الغاية. بدايةً من قول سقراط الشهير: «أنا أعرف شيئًا واحدًا، وهو أنني لا أعرف شيئًا» ثم محاولة تلاميذه من بعده البحثَ عن سُبل معرفة الحقيقة.
ومن أشهر المذاهب المعنيّة بنظرية المعرفة هو مذهب الشك، جوهر هذا المذهب هو أننا لا يُمكن أن نثق بالحواس لأنها تُعطينا معلوماتٍ مُضللة عن الواقع، ومن ثَم لا يمكن الوصول لأحكام عقليّة إزاءَ الأشياء، وعليه لا بُدَّ من تعليق الأحكام العقليّة، وذلك لأن جميع الحُجج متعادلة للقضيّة الواحدة.
نستعرض في هذا المقال أشهر أعلام ذلك المذهب.
بيْرو
تنقسم الدراسات الحديثة في تفسير نظرة (بيرو- pyrrho) عن الحياة إلى قسمين: الأول عمليّ والثاني نظريٌّ يُؤكِّد التفسير الأول وهو أن دافع بيرو في المقام الأول هو دافعٌ أخلاقيّ (1)، وهذا التفسير مدعومٌ في بعض نصوص (ديوجانس اللايرتي– Diogenes Laërtius) وبالتحديد (شيشرون– Cicero) الذي صوّر بيرو كرجلٍ أخلاقيّ ليس مُشككًا، رجل يعتبر أن الفضيلة هي الخير، ومُبجَّلٌ بسبب طريقة معيشته (2). وعلى النقيض، يدّعي التفسير الثاني أن رأي سيشرون يفتقر إلى الصواب، وأن دافع بيرو الرئيسيّ إما ميتافيزيقيّ أو إبستمولوجيّ (3). يستند هذا التفسير إلى أهم مصدرٍ لأفكاره من كتاب تحضير للإنجيل (يوسابيوس القيصري– Eusebius of Caesarea) أسقف مدينة قيسارية في القرن الرابع الميلادي، حيث يقتبس يوسابيوس القيصري كتاب عن الفلسفة لأرسطوكليس (4). يشير هذا النص إلى أن فلسفة بيرو هي إجابةٌ عن ثلاثة أسئلة: ما هي حقيقة الأشياء؟ ما هو التصرُّف الذي يجب أن نتبنّاه إزاءَ تلك الأشياء؟ ما هي تبعات هذا التصرف؟
علمًا بأن أرسطوكليس مصدرٌ مُعتمَدٌ في المجمل وأن كتابه يُلخِّص عملًا مجهولًا لـ (تيمون- Timon of Phlius)، ولذلك يميل الباحثون إلى أنه يجب أن يُؤخذ كلامه بعين الاعتبار. ففي التفسير الثاني يتحدث بيرو عن طبيعة الأشياء ويؤكد أنها غير قابلة للمعرفة، وعليه، تؤثر هذه الرؤية على معرفتنا بالأشياء بلا شك (5). وفي المقابل، يوضح التفسير الإبستمولوجي أن بيرو يشير إلى أن سُبل إدراكنا غير قابلة للمعرفة وذلك لأنها لا تُعطي أحكام موضوعيّة عن الأشياء (6). وفي رأيي لا أرى طريقًا واضحًا لحسم هذا الجدل. وعلى كلّ حال يرى الفريقان بيرو على أنه (دوجمائي-Dogmatic) على الرغم من أن هذا يُعتبر خرقًا لمبدأ (تعليق الأحكام) عند بيرو لمعرفة طبيعة الأشياء وقدراتنا الإدراكيّة. ومن ناحيةٍ أخرى، يرجع كَون بيرو رائدًا أو مصدرَ إلهام (للبيرووين- Pyrrhonist) المتأخرين إلى حالة الهدوء التي كانت تعتريه وإلى زعمه بأنه لا يُمكن الوثوق في آرائنا وحواسنا.
أنيسيديموس
كان أنيسيديموس في القرن الأول قبل الميلاد مسؤولًا عن تجديد الشك البيرووي، فهو كاتبُ الأنماط العشرة، التي هي عبارة عن حجج تحثُّ على تعليق الأحكام (7). ركَّزتْ أحد الأبحاث المعاصرة على هيرقليطسيات أنيسيديموس، وهي أكثر الموضوعات غموضًا لدارسي البيرووية القديمة، يشرح (سيكستوس إمبيريكوس- Sextus Empiricus) في كتابه (مختصر البيرووية) الفرق بين البيروويّة والهيرقلطيسيّة. يوضح أن هناك تباينًا واضحًا بين الفيلسوفين؛ لأن هيرقليطس يعطي أحكامًا دوجمائيةً عن العديد من الأشياء المُبهمة، وليس هذا من دأب المشككين وهنا يكمن سؤالٌ، كيف لمشكك مثل أنيسيديموس أن يقول بأن الطريقة البيروية تؤدي إلى فلسفة دوجمائية، بالإضافة إلى أنه تُوجد العديد من النصوص تُشير إلى رؤى أنيسيديموس الفلسفيّة.
حاول باحثو القرن التاسع عشر والعشرين حلَّ هذه الإشكاليّة فاقتُرِح حلٌّ مختلفٌ وهو أن سيكستوس قدَّم رؤيةَ أنيسيديموس بشكلٍ مُخلّ، بالفعل وجد علاقة بين البيروية والهيرقليطسية، وبالفعل تُوجد مرحلة دوجمائية في تطوُّر أنيسيديموس الفلسفيّ، ولكنه فقط كان يناقش بديالكتيكيّة ضد تفسير (الرواقيّين- Stoics) لهيرقليطس (8)، ظهر مؤخرًا اهتمامٌ بعلاقة أنيسيديموس بهيرقليطس، وبدا هذا جليًّا في طباعة كتابين ومقال مُطوَّل مُخصص لحل ذلك اللغز، يقترح تفسيراتٍ تتضمَّن عناصر هامة للحلول آنفة الذكر.
يرى آخرون أن أنيسيديموس لم يُدافع عن العقيدة الهيرقليطيسية، ولم يدَّعِ أنه رائدًا، بل قدم تأويلًا لفلسفته، وهو اعتبار أنيسيديموس الشك كأداةٍ لفهم الهيرقليطسيّة، بينما تبدو هذه الفرضيّة مُؤكدةً من قِبل سيكستوس نفسه، والذي يُفسر رؤية أنيسيديموس على أنها طريقةٌ يُستخدم فيها الشكُّ للحصول على معرفة الفلسفة الهيرقليطيسية، وهذا بالإضافة إلى أن تأويل أنيسيديموس يُعدُّ مُمكنًا، وذلك لأنه يوجد أفكار شكوكيّة بداخل الفلسفة المنسوبة إلى هيرقليطس، وبالتالي تعديل رؤية الأخير وجعلها متوافقة نسبيًّا مع الفلسفة البيروويّة (8).
وفي طرحٍ مختلف عن الطرح السابق، يؤكد أن لفهم كلام أنيسيديموس عن هيرقليطس يجب على المرء أن ينظر في محاورة (الثئيتتس- Theaetetus) لأفلاطون حيث صوَّر أن وجود المُتضادات شديدُ الصلة بالصيرورة. وعلى العكس من الطرح السابق حيث إنه يجب أن تُؤخذ نظريّة الصيرورة بعين الاعتبار عند قراءَة تفسير أنيسيديموس لهيرقليطس (9).