أبيض وأسود.. قوي/ضعيف.. سيّد /عبد هي متضادات العنصريّة، تُعطي حق لفرد وتنفي حق عن أخر دون وجه حق! متضادات تركت وصمه عار فى تاريخ الإنسان متضادات حكمت أصحاب التقدم ومؤسسوا التحضر في العصر الحديث. فجاءت كتابات العاقلين فيهم تخبر بالميل عن المسار وزيف الشعارات ولاعقلانيّة هذه المتضادات. من الأمثلة الأدبيّة التي عكست التميز بين البشر علي أسس اللون والجنس وسيادة القوي علي الضعيف واستعباد الغير: رواية قلب الظلام.
التعريف برواية قلب الظلام
الرواية من تأليف جوزيف كونراد. نُشرت لأول مرة في عام 1899م. وزامن كتابتها مجد الإمبراطوريّة البريطانيّة، وافتخار الشعب الإنجليزيّ يتقدمهم ورسالتهم السامية في نشر التحضّر وتعاليم الدين المسيحيّ. فكانت مرآة تعكس الصدمة التي عايشها كونراد بنفسه عام 1890م حيث عمل في الكونغو لصالح شركه بلجيكية. يلوم كونراد في الرواية علي الاستعمار الغربي: علي الطمع واستخدام العنف وسوء استخدام الشعارات التي نادت بجلب النور والتحضر للاماكن المظلمة الفقيرة، كما يلقي الضوء على التأثير المروع الذي سببه الاستعمار لكل من المستعمَر والمستعمِر. [1]
قصة رواية قلب الظلام
تدور القصة حول مارلو -الراوي- بحار إنجليزي راوده حلم اكتشاف الأماكن المجهولة علي الخرائط منذ صغره. جاءته الفرصة للعمل كقبطان لأحد البواخر التابعه لشركة بلجيكيّة لتجارة العاج في رحلة إلى الكونغو. يستعين مارلو بعمته ذات النفوذ والعلاقات في المجتمع الراقي للحصول على الوظيفة. تبدأ رحلة مارلو لكن للغرابة يُسيطر عليه شعور مبهم بعيد عن السعادة. فيصف الساحل الإفريقي كما لو كان ماض قديم لنهر التايمز في إشارة خفيّة أنه إذا كان التايمز يشبه أنهار أفريقيا فلا فرق بين إنجلترا وإفريقيا، بمعني أدق: لا فرق بين البيض والسود! [2]
يصل مارلو إلى المحطة الخارجيّة للشركة لتقع عيناه على أول صورة من صور العنصريّة. رأى مارلو رجال سود يمشون بأغلال في أعناقهم، وسلاسل تربطهم ببعض، يحرسهم رجل أسود يحمل بندقيّة. حينها يحتار مارلو في إمكانيّة وصفهم أعداءً كما يُشاع عنهم في أوروبا، ويقر بأنهم قد يكونوا مجرمين لكن ليسوا أبدًا بأعداء! بعدها يتوجه مارلو إلى غابة كثيفة الأشجار ليُصدم بصورة أخرى من صور العنصريّة، فيرى أُناس سود يحتضرون تحت الأشجار ليقر بأنهم ليسوا حتى بمجرمين! رسم مارلو لهم صورة مؤلمة فشبههم بظلال سوداء تعاني الجوع والمرض.
يقابل مارلو محاسب الشركة ويقضي معه عشرة أيام، يرى فيها أثر العنصريّة على المحاسب قاسي القلب والذي لم يهتز له رمش لرؤية غيره يعاني الموت. يسمع مالو من المحاسب عن كرتز وسمعته الجيدة فيتأمل خيرًا في القادم.
توجّه مارلو بعدها إلى المحطة المركزيّة حيث يقابل المدير العام للشركة ورجله المفضل صانع القرميد إذ يتجسس على زملاءه لصالح المدير. يعلم مارلو عن تحطم باخرته والتي استغرقت ما يقرب من الثلاثة أشهر بسبب قلة المعدات وفقر الإمكانيّات. يشهد مارلو فيها صورًا أخرى من تعديّات البيض على السود فمثلًا: يرى شاب أسود مضروب بحِدّة وبحالة سيئة للغاية يحاول مدواة نفسه والسبب أنهم اتهموه بإحراق كوخ لهم دون ثبوت للتهمة أو تكلفة أنفسهم بالبحث عن سبب الحريق!
وهناك أيضًا يستمع مارلو لأحاديث عن كرتز منها ما هو بين المدير وصاحب القرميد وبين المدير وعمه الذي لحقهم هناك ومنها ما دار بين مارلو وصانع القرميد، علم مارلو منها أن كرتز مريض وأن النفوس الخبيثة كنفس المدير العام تشتهي موته فسانده ضمنًا وأخذ على عاتقه الوصول إلى كرتز ومساعدته مؤمنًا بخيره.
لكن بالوصول إلى المحطة الداخليّة حيث يقيم كرتز، يُصدم مارلو بزيف كرتز كما صدم في حقيقة الاستعمار أول الرواية. فيرى بأم عينيه وحشيّة العنصريّة وقبح استعباد الإنسان لأخاه بأبشع الوسائل. فكرتز قد نصب نفسه إلاهًا والدليل الأبرز على وحشيّة وبشاعة وسائله، صف من الرؤس السوداء مُعَلّقة على عصيان أسفل نافذته، صورة هي الأبشع من صور العنصريّة.
بالأخير يرافق مارلو كرتز عائدين إلى أوروبا لكن كرتز يلاقي حتفه مريضًا معانيًا الهلع جزاءً على ما سببته يداه. يمرض مارلو لكنه يتمكن من النجاة. يظن بأن إنسانيته قد انعدمت بسبب ما شهده لكنه يكتشف أن ذلك وهم عندما تأبى نفسه جرح غيره مفضلًا كتم الحقيقة داخله، فيخفيها عن خطيبة كرتز التي ظنت في خطيبها الخير وبطولة عمله في الكونغو خوف إيذاء مشاعرها تاركًا إياها كباقي الأوروبيين البعيدين عن المشهد! [3]
رواية قلب الظلام.. قصة حقيقية بلمسة خياليّة
كما ذُكر أعلاه، فالرواية تعكس ما عايشه كونراد عام 1890م أثناء عمله بالشركة البلجيكيّة في الكونغو. ومقدار التشابه بين حياة كونراد الشخصيّة وبين الأحداث التي يحياها مارلو يوحي للبعض أن الرواية ما هي إلا سجال لماضي كونراد أراد أن يجمله بإضافته لشخصيّة خياليّة!
فيصف كونراد مارلو بانشغاله بأحلام الصغر عن الإبحار ونراه هم شخصيًا يرفض إكمال دراسته مقررًا تحقيق حلمه والالتحاق بالبحريّة الفرنسيّة في السابعة عشرة من عمره. أيضًا نجد أن كلًا من مارلو وكونراد قد بلغا أحلامهما بمساعدة العنصر النسائي في عائلتيهما، فمارلو قد ساعدته عمته وكونراد ساعدته جدته. [4]
كلاهما قد عاصر موت بطل مزيف فمارلو قد عايش موت كرتز بينما عايش كونراد موت جورجس أنتوني كلاين. وكلاهما قد أصابه المرض أثناء رحلة العودة، وذلك المرض كان ضمن الأسباب التي جعلت كونراد يستغني عن وظيفته كبحار ويمتهن الكتابة كعمل له. [5]
في الختام، بالأسباب المذكورة أعلاه، فالقارىء قد يصدق أن مارلو صورة خياليّة رسمها كونراد ليعبر عن مأساته، وأن الرواية دليل على العنصرية التي عانى منها الأفارقة على أيدي البيض دون سبب يستحق، فاختلاف اللون ليس أبدًا بمبرر لامتهان الإنسان واستعباده.
المصادر:
المصدر الأول
المصدر الثاني
المصدر الثالث
المصدر الرابع
المصدر الخامس