لا أفهمُ لمَ يتغاضى العديدُ عن دور (المُخيخ – cerebellum) -كلمة لاتينيّة تعني المُخَّ الصَّغير- عندما يُفكّرون في تفسير القدرة على فهمِ انفعالات الآخرين، وقراءة لغة الجسد؟
حتى نهاية التسعينيّات، اعتقد جميعُ سكّان الكوكبِ، باستثناء (جيرمي شيماهمان – Jeremy Schmahmann) بكلية الطب في جامعة هارفرد، بدرجةٍ كبيرةٍ أنَّ المخيخ لا علاقةَ له بأداء الوظائفِ اللّاحركيّة، التي تتعلّق بالإدراك.
في نهاية العقد الأخيرِ بالقرن العشرين، بدأ شيماهمان بالتَّعامل عن قربٍ مع الحالات المرضيّة المُصابة بمرض (الرنح- ataxia)، والتي قدمت من جميع بقاع العالم للتَّشاور مع أطباء مُشتشفى هارفرد ماسوشوستس العام. وقد لاحظ أن العديد من مرضى الرنح الذين تعامل معهم بمستشفى هارفرد ماساتشوستس العام، وكانت بعض المناطق المجهريّة بمخيخهم مصابة بضررٍ، لم تختلّ الوظائف الحركيّة فقط، بل اختلّتْ أيضًا وظائف لاحركيّة متعدّدة.
وبفضل ملاحظته الثَّاقبة لتأثُّر وظائف لاحركية متعددة عند تدمير بعض المناطق المُعيّنة في المخيخ، أصبح شيماهمان طبيبَ الأعصاب الأوّل الذي يوثّق أن أيّ خللٍ أو تدمير يصيب بعض الفصيصات في القشرة المخيخيّة؛ يؤثّر على أجزاء متعددة في مجال الإدراك.
في عام 1998، نشر شيماهمان وزميلته في المستشفى العام (جانيت شيرمان- Janet Sherman) بحثًا في مجلة (برين – Brain)، تحت عنوان (متلازمة اعتلال الإدراك المخيخي المنشأ – The Cerebellar Cognitive Affective Syndrome)، وقد ترك علامةً فارقةً غيّرت مجرى الأحداث. حيث قدَّم هذا البحث اختصارًا جديدًا للعالمِ، هو CC AS، والذي يُشير أيضًا إلى (متلازمة شيماهمان- Schmahmann’s Syndrome).
وقد شاع استخدام هذا المصطلح حاليًا بين أطباء الأعصابِ لوصف ما يصيبُ نطاق الإدراك بالوظائف التنفيذيّة، والإدراك المكاني، واللغة، والسلوكيّات من مشاكلَ نتيجةً لتضرُّر المخيخ.
بالعودة إلى عام 2019، مضى عقدان منذ أزاح شيماهمان الغشاوة عن أعيننا، ونبهنا إلى أن بعض الأماكن في المخيخ تلعب دورًا هامًّا في أداء الوظائفِ اللاحركيّة.
في نوفمبر عام 2018، احتفل مستشفى ماساتشوستس العام بالذّكرى السَّنويّة الخامسة والعشرين لتأسيس وحدة الرنح الشَّهيرة، وأُعلن عن تأسيسِ جيرمي شيماهمان لمركزٍ جديدٍ للرنح في المستشفى.
بالإضافة إلى ذلك، نشر (الباحثون المختصون بالأبحاث العلمية عن وظائف المخيخ الخاصة بتنسيق الحركة والادراك- Social Brain Lab and Cerebellar Coordination and Cognition Group) بحثًا جديدًا هذا الأسبوع في هولندا، والذي ربما يزيد من فهمنا للمتلازمة.
في الواحد والعشرين من نوفمبر، نشرت مجلة (برين – Brain) استنتاجًا جديدًا في عام 2019، يوضّح أننا نعتمد على المخ الصغير من أجل تفسير انفعالات الآخرين البدنيّة وحركات الجسم، كما وضّحت أيضًا بطرقٍ مُعيّنة أن ما يُصيب المخيخ من اضطرابات (كالرنح النخاعي المخيخي- spinocerebellar ataxia) قد تؤثّر على الإدراك الاجتماعيّ.
كما قال المؤلّف:
“لقد ساهمتْ استنتاجاتُنا في زيادة الوعي بكون الاضطرابات التي تُصيب المخيخ تضرُّ الإدراك الاجتماعي، وعندما يختلُّ إدراكُنا بما يفعله الآخرون من حولنا حتمًا سيؤثّر على الطَّريقة التي نتعامل بها معهم، وبالتّالي سيقلّل من شعورنا بالرّضا”
بناءً على مُبتكِر البحث الذي نصَّ على وجود علاقةٍ بين أيّ ضررٍ يُصيب المخيخ واعتلال الإدراك الاجتماعيّ، قام فريقٌ من الباحثين من معهد هولندا بعلم الأعصاب تحت قيادة السّيدة (فاليرينا جازولا- Valeria Gazzola) بإجراء دراسةٍ على مشاركين أصحّاء بواسطةِ استخدام الرّنين المغناطيسيّ. وعندما لاحظوا حركات الآخرين المُباشِرة، أظهرت صورة الرنين المغناطيسي استعانة الأصحاء بفصيفصات نصف الكرة المخية: رقم واحد واثنان وثلاثة على الجانبين؛ لإدراك انفعالات الآخرين.
وبالتّعمُّق في قدرات المخيخ الاإدراكيّة، أجرى باحثو معهد هولندا نفس التجربة على مجموعة من المرضى يعانون من الرنح النخاغي المخيخي، وهو مرضٌ يحدث بسبب إصابة مناطق معيّنة في المخيخ بضررٍ ما. ما الذي أسفرت عنه النتائج؟
كتب المؤلف:
“بينما يستطيع الأصحاء تمييز الاختلافات الدقيقة عند ملاحظة الحركة المُجرّدة لحركات أطراف الآخرين، لم يتمكَّن مرضى النَّوع السادس من الرنح المخاعي المخيخي من أداء هذه المهمات”
بناءً على هذا الدَّليل، استنتج المؤلف:
“رجّحتْ بياناتنا أن مخيخ الإنسان له علاقة وثيقة بإدراك الحركة المُجرّدة لأفعال الآخرين، وما عاناه مرضى الرنح النخاعي المخيخي من مشاكل أثناء التَّعرُّف على انفعالات الآخرين، أكَّد لنا حقيقة أن الاضطرابات المخيخية تؤثر على الإدراك الاجتماعي”
من الضروريّ ملاحظة أن المخيخ يلعب دورًا في الإدراك الاجتماعي، فالفصيفصات المُتعدّدة التي نستعين بها في الإدراك الاجتماعي تشبه حلقةَ وصلٍ في سلسلة؛ أي إنها تساعد على تحسين جميع وظائف المخ المُتعلّقة باللإدراك الاجتماعي.
وفقًا لتشبيه المخيخ بسلسلة الدَّرَّاجة، لخَّصت جازولا التَّشابه بينه وبين ما توصَّل إليه الباحثون من استنتاجات حديثة، قائلةً:
“إن أزحتَ السّلسة من الدراجة، فلن تستطيعَ التَّحرُّك بعد الآن، لكنَّ ذلك لا يعني أنها كانت المسئولة عن قيادة الدراجة وحركتها، وبالضبط هذا ما يحدث مع المخيخ، فهو جزءٌ هامٌّ في جهاز الإدراك -تمَّ تجاهل هذا الجزء لفترة طويلة- ويجب معرفةُ أن أي مشكلةٍ تصيب المخيخ ستتسبّبُ بخللٍ ما في مجال الإدراك الاجتماعي، وذلك يحتاج إلى الدَّعم والصَّبر”